صنائع المعروف تقي مصارع السوء
الغزالي الغزالي
1434/04/25 - 2013/03/07 20:30PM
صنائع المعروف تقي مصارع السوء الجمعة 26 ربيع الآخر 1434 هـ :: 08 مارس 2013 م
الْحَمْدُ للهِ الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا يبقى إلا وجهه، ولا يدوم إلا ملكه، له الحكم واليه ترجعون. "ما مِنْ يومٍ ينشقُّ فجرُهُ، إلا وينادي: يا ابنَ آدمَ، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزوّدْ منّي، فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ".
تزَودْ من التقـــوى فإنكَ لا تدري ** إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر؟
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ ** وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم ** وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ
وكمْ من عرُوسٍ زَينــوها لِزَوجــها ** وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا ** وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
لمّا أراد اللــــــــــه جل جـــلاله ** أن يخرج الدنيا من الظلماتِ
أهداك ربك للورى يا سيدي ** فيضاً من الأنوار والنفحاتِ
الحق أنت وأنت إشراق الهُدَى ** ولك الكتاب الخالد الصفحاتِ
من يقصد الدنيــا بغيـرك يلقــها ** تيــهاً من الأهوال والظلمـاتِ
فاللَّهُمَّ صَلّ وسلم وبارك عَلَي محمد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأتباعه، وَعلى رسل الله وأنبيائه.. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، فَلاَ تَزَالُ نِعَمُهُ عَلَيْكُمْ تَتَوَالَى، فَصَاحِبُ التَّقْوَى أَحْسَنُ النَّاسِ حَالاً، وَأَسْعَدُهُمْ مَآلاً.. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)، ونستفتحُ بالذي هو خير: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم هو واقع مؤلم، واقع كثرت فيه الفتن والمصائب والشدائد ومصارع السوء، فما من يوم يمر إلا ونسمع ونشاهد مباشرة أو عبر الإعلام الأعمال الشنيعة من قتل وسلب وخطف، و قذف وقصف وخسف، وتفجيرات هنا وهناك، حتى أصبح المسلم لا يأمن على نفسه من هذه الأحداث، في أي مكان كان، أو في أي وقت وحان.. الموظف لا يأمن على نفسه وهو في دائرته، الطالب لا يأمن على نفسه وهو في مدرسته، الأستاذ لا يأمن على نفسه وهو في جامعته، صاحب العمل لا يأمن على نفسه وهو في محل عمله، وصاحب السيارة لا يأمن على نفسه وهو يسير في الشارع، و ربما حتى المصلي لا يأمن على نفسه وهو في مسجده ! فتجد المسلم في دهشة وحيرة، فهو دائما يدعو الله تعالى أن يحفظه من هذه الفتن التي أخبر عنها النبي في الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ الْقَتْلُ". وفي الحديث الذي يرويه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلاَ الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ». قَالَ الْقُرْطُبِيّ-رحمه الله-: المقصود هنا هو: الْقِتَال إِذَا كَانَ عَلَى جَهْل مِنْ طَلَب الدُّنْيَا أَوْ اِتِّبَاع هَوًى.. فالمسلم في مثل هذه الأيام التي كثر فيها الهرج أصبح يبحث عن طريق الأمان، عن طريق يحفظ به نفسه وماله وأهله من مصارع السوء. فيا ترى ما هو طريق الأمان؟ ما هو طريق الخلاص؟ ما هو الطريق الذي يؤمن المسلم به نفسه وماله، وأهله وعرضه من الفتن والمصائب ومصارع السوء؟ فليكن حديثنا اليوم قبل الغد، عن طريق الحفظ من الآفات، طريق الخلاص من المهلكات.. ولنستمع سويا إلى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، إلى سيدنا محمد وهو يرسم لنا هذا الطريق، فيقول في الحديث الذي أخرج الحاكم في المستدرك، عن أنس أن رسول الله قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة". إذن أين أنت -يامؤمن- من صنائع المعروف، أين أنت من أفعال الخير، صنائع المعروف إلى الناس هي طريق نجاتك وخلاصك من مصارع السوء. فكم من إنسان نجاه الله من مصارع السوء بسبب فعله للخير؟ وكم إنسان حفظ الله ماله من الضياع والسرقة والتلف بسبب إحسانه إلى الناس؟ وكم من إنسان نجاه الله من الحوادث المميتة بسبب معروفه إلى الناس؟ وكم إنسان حفظ الله أولاده وأهله من المهلكات بسبب صلاحه؟
ازرع جميلاً ولو في غير موضعه ** فلا يضيـع جميـل أينمـا زُرعـا
إن الجميــل وإن طال الزمـان به ** فليس يحصده إلا الذي زرعا
أنت-يا عبدالله- لو تصفحت كتاب الله، ستجد أن الله سبحانه قد تحدث عن صنائع المعروف وبين لنا أنه نجى أناسا من مصائب وشدائد وقعوا فيها، وكل ذلك بسبب معروفهم وصلاحهم. فهذا سيدنا يونس- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- يوم أن تضايق بإعراض قومه عن دعوته، فهجرهم غاضباً، ورحل عنهم جميعا، بعيداً بعيداً، ظانًّا أن الله أباح له أن يهجرهم، فظن أن الله لن يقدر عليه، فوقع في بطن الحوت، وعاش في الظلمات، في ظلمات الليل وظلمات أعماق البحر وظلمات بطن الحوت، فأصبح في شدة ومحنة، فقال الله تعالى عنه: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾. لماذا نجاه الله؟ لابد أن هناك سببا في نجاته؟ اسمعوا إلى كتاب الله تعالى وهو يبين لنا سبب نجاته وخلاصه من هذه الشدة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. لولا حرف امتناع لوجود، أي لولا عمله الصالح، لولا صنائع المعروف، لولا التسبيح الذي فسره العلماء بأنه الصلاة والعبادة، لبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.. فالمعروف كان سببا في خلاصه من محنته، وكذلك المؤمن لا يتخلص من المصائب ومصارع السوء إلا بمعروفه وعمله الصالح. ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين﴾. ولذلك قال: "دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: "لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إني كُنْتُ مِن الظالمين- لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له". صحيح الترمذي. بل انظروا إلى قصة الغلامين اليتيمين في سورة الكهف، لماذا سخر الله عبده الخضر -عليه السلام- لإقامة الجدار لكي يحفظ أموال الغلامين؟ والجواب لأن أباهما كان من أهل المعروف. قال سعيد بن جبير -رحمه الله- عن والد الغلامين:" إنه كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحفظ الله تعالى كنزه حتى أدرك ولداه، فاستخرجا كنزهما". قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾. فحفظ الله للغلامين كنزهما الذي هو من متاع الدنيا الزائل لصلاح أبيهما. قال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وعترته وعشيرته والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال". وقال سعيد بن المسيب لأبنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾. وهذا عبدالله بن مسعود عندما كان يصلي من الليل وابنه الصغير نائم ينظر إليه قائلاً: من أجلك يا بني! ويتلو وهو يبكي قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾. وقد ذكر بعض العلماء قصة امرأة كان لها ولد مسافر لطلب العلم، وكانت امرأة فقيرة، ولكنها جوادة كريمة، محبة لله ولرسوله، فبينما هي ذات يوم على عشائها الذي لا تملك غيره، إذا بطارق يطرق عليها الباب، ففتحت فإذا هو مسكين يسأل طعاماً. فقامت إلى عشائها فأعطته إياه. وذهب هو ليشبع، وباتت وهي جائعة، لكن محتسبة عند الله الأجر، ألم الجوع في بطنها، لكن فرحة السعادة في قلبها أن سدت جوعة مسلم. مضت الأيام والليالي وقدم ابنها من سفره، وأخذ يحدثها عن سفره فذكر لها من أعجب ما حدث له أن أسداً اعتدى عليه في إحدى الغابات، حتى صار بين يديه، فجاءه رجل عليه ثياب بيض فأنقذه. فسأله: من أنت؟ قال: لقمة بلقمة!! فتعجبت ماذا يريد بهذا الكلام! فسألته أمه متى حدث هذا الكلام؟ فأخبرها فإذا هو نفس اليوم الذي سدت به لقمة ذلك الجائع، لقمة الجائع أنقذت ولدها أن يكون لقمة لأسد مفترس.. سبحان الله، وصدق رسول الله الذي أكد أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء. اللَّهُمَّ لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، وارحمنا في الدنيا والآخرة.. (آمين) وَأقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ أمر بالسمع والمعروف والطاعة، ونهى عن الفرقة والإضاعة، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف ربه فأطاعه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والحوض والشفاعة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم من أهل الطاعة والقناعة والجماعة.. أَمَّا بَعْدُ: معاشر الصالحين: (فعل المعروف يقي مصارع السوء)، حديث تكلم به محمد بعد أن نزل عليه: (اقرأ).. فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله:"صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء". شعب الإيمان للبيهقي، وصحيح الجامع. بل انظروا إلى أم المؤمنين خديجة زوج رسول الله كيف استدلت بحسن الأفعال على حسن العواقب.. فبعد أن نزل الوحي على رسول الله في غار حراء وقال له: "اقرأ".. عاد إليها يرجف فؤاده.. فقال: زملوني زملوني؛ فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:" كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..". لست أنت -يا رسول الله- بالوجه الذي يرده الله، ولست أنت بالعبد الذي يتخلى عنه مولاه، فأنت عبد أكرمت عباده، أشبعت جوعتهم، وأذهبت ظمأتهم، وكسوت عورتهم، ومسحت على رأس اليتيم، فكنت الأب، وعفوت عمن أساء إليك فكنت الأم: وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أب ** هذان في الدنيا هما الرحماء
لا يخزيك.. ولم ولن، يخزيك الله أبدًا.. والشاهد من هذه القصة أن خديجة استنتجت من خلال فطرتها الطاهرة، أن أي إنسان يحسن إلى الناس ويعاملهم المعاملة الطيبة، وألسنة الناس لا تكل من الثناء عليه، لا يمكن أن يهان أو يفضح أو يصيبه ضرر لأن الله معه.. ولهذا ذهبت تعدد له الحسنات السابقة التي تحفظه في مستقبل أمره.. ثم جاء محمد ليؤكد على هذا الأمر بعد بعثته ليقول للعالم: "فعل المعروف يقي مصارع السوء"، فكم من حسنة كانت السبب في نجاة صاحبها في أصعب المواقف، وأخطر الظروف! وكم من جميل ومعروف، أسداه العبد للناس كان صمام أمانه، طوال حياته!.. هذا في الحياة الدنيئة، فكيف بيوم الكرم من أكرم الكرماء!؟ ومسك الختام، كلام النبي-عليه السلام- فقد ذكر قصة تبين لنا أن المعروف والعمل الصالح الخالص لوجه الله تعالى، سبب في نجاة صاحبه من الشدائد و أن الحسنة البيضاء، النقية الخالصة من الرياء، تنفع صاحبها في المحنة السوداء.. يقول: " انطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إِلى غَارٍ فَدَخلُوهُ، فانْحَدرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أنْ تَدْعُوا اللهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ. قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مالاً، فَنَأَى بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْماً فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أو مالاً، فَلَبَثْتُ - والْقَدَحُ عَلَى يَدِي - أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَميَّ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ. قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمّ، كَانَتْ أَحَبَّ النّاسِ إليَّ.. فأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا فامْتَنَعَتْ منِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمئةَ دينَارٍ عَلَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا.. قالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاّ بِحَقِّهِ، فَانصَرَفْتُ عَنْهَا وَهيَ أَحَبُّ النَّاسِ إليَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيتُها. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وأَعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُل واحدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهبَ، فَثمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنهُ الأمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعدَ حِينٍ، فَقالَ: يَا عبدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أجْرِكَ: مِنَ الإبلِ وَالبَقَرِ والْغَنَمِ والرَّقيقِ، فقالَ: يَا عبدَ اللهِ، لاَ تَسْتَهْزِئ بي! فَقُلْتُ: لاَ أسْتَهْزِئ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يتْرُكْ مِنهُ شَيئاً. الَّلهُمَّ إنْ كُنتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" مُتَّفَقٌ عليهِ. فلنحرص على صناعة المعروف صغيرًا كان أو كبيرًا حسب استطاعتنا.. المهم أن نلحق بركب صنَّاع المعروف، دونما تحقيرٍ لصغيرِ معروفٍ، فلربما كان الصغير عظيمًا عند الله تعالى.. اللهم اجعلنا من أهل المعروف، اللهم اجعلنا باذلين للخير صانعين له، اللهم اجعل قضاء حوائج الناس على أيدينا إن استطعنا، اللهم من آتيته منا مالاً أو جاهًا أو منصبًا فاجعله في سبيلك، وعونًا على طاعتك، وطريقًا لبذل المعروف لعبادك وقضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية. اللَّهُمَّ يا ساتر الحال لا تكشف لنا الحال، وبارك لنا في الأعمار والأعمال والعيال. يا عالم السر منا، لا تهتك السرعنا، وعافنا واعف عنا، وكن لنا حيث كنا. اللهُم ارحم أمواتَنا، واهد الأحياء منا، وأَصْلَحَ خَلَلَنا، ورَدَّ إلى الحَقِّ ضالَّنا.. اللهم أصلح المقبل من أعوامنا، وزودنا التقوى في القادم من أيامنا، اللهم تب علينا من كل ذنب أذنباه، أو حق ضيعناه، أو مسلم ظلمناه، أو حد تجاوزناه. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي الأَوْطَانِ وَالدُّورِ، وَأَصْلِحْ اللَّهُمَّ لَنَا عَوَاقِبَ الأُمُورِ. اللّهمّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين.. وَاهْدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فيهِ مِنَ الْحَقِّ بإِذْنِكَ، اِنَّكَ تَهْدي مَنْ تَشاءُ إلى صِراط مُسْتَقيم. اللّهم أَحسِن عاقِبتَنا في الأُمورِكُلها و أجِرْنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.. اللهم متعنا برضوانك، وسهل لنا طريق جناتك، وبشرنا بعفوك وغفرانك.. اللّهم ارحمنا فانَّك بِنا رحيم، ولا تُعذِّبنا وأنتَ علينا قدير، و الْطُف بنا يا مَولانا فيما جَرَت بِهِ المَقادير.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الْحَمْدُ للهِ الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا يبقى إلا وجهه، ولا يدوم إلا ملكه، له الحكم واليه ترجعون. "ما مِنْ يومٍ ينشقُّ فجرُهُ، إلا وينادي: يا ابنَ آدمَ، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزوّدْ منّي، فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ".
تزَودْ من التقـــوى فإنكَ لا تدري ** إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر؟
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ ** وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم ** وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ
وكمْ من عرُوسٍ زَينــوها لِزَوجــها ** وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا ** وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
لمّا أراد اللــــــــــه جل جـــلاله ** أن يخرج الدنيا من الظلماتِ
أهداك ربك للورى يا سيدي ** فيضاً من الأنوار والنفحاتِ
الحق أنت وأنت إشراق الهُدَى ** ولك الكتاب الخالد الصفحاتِ
من يقصد الدنيــا بغيـرك يلقــها ** تيــهاً من الأهوال والظلمـاتِ
فاللَّهُمَّ صَلّ وسلم وبارك عَلَي محمد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأتباعه، وَعلى رسل الله وأنبيائه.. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، فَلاَ تَزَالُ نِعَمُهُ عَلَيْكُمْ تَتَوَالَى، فَصَاحِبُ التَّقْوَى أَحْسَنُ النَّاسِ حَالاً، وَأَسْعَدُهُمْ مَآلاً.. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)، ونستفتحُ بالذي هو خير: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم هو واقع مؤلم، واقع كثرت فيه الفتن والمصائب والشدائد ومصارع السوء، فما من يوم يمر إلا ونسمع ونشاهد مباشرة أو عبر الإعلام الأعمال الشنيعة من قتل وسلب وخطف، و قذف وقصف وخسف، وتفجيرات هنا وهناك، حتى أصبح المسلم لا يأمن على نفسه من هذه الأحداث، في أي مكان كان، أو في أي وقت وحان.. الموظف لا يأمن على نفسه وهو في دائرته، الطالب لا يأمن على نفسه وهو في مدرسته، الأستاذ لا يأمن على نفسه وهو في جامعته، صاحب العمل لا يأمن على نفسه وهو في محل عمله، وصاحب السيارة لا يأمن على نفسه وهو يسير في الشارع، و ربما حتى المصلي لا يأمن على نفسه وهو في مسجده ! فتجد المسلم في دهشة وحيرة، فهو دائما يدعو الله تعالى أن يحفظه من هذه الفتن التي أخبر عنها النبي في الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ الْقَتْلُ". وفي الحديث الذي يرويه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلاَ الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ». قَالَ الْقُرْطُبِيّ-رحمه الله-: المقصود هنا هو: الْقِتَال إِذَا كَانَ عَلَى جَهْل مِنْ طَلَب الدُّنْيَا أَوْ اِتِّبَاع هَوًى.. فالمسلم في مثل هذه الأيام التي كثر فيها الهرج أصبح يبحث عن طريق الأمان، عن طريق يحفظ به نفسه وماله وأهله من مصارع السوء. فيا ترى ما هو طريق الأمان؟ ما هو طريق الخلاص؟ ما هو الطريق الذي يؤمن المسلم به نفسه وماله، وأهله وعرضه من الفتن والمصائب ومصارع السوء؟ فليكن حديثنا اليوم قبل الغد، عن طريق الحفظ من الآفات، طريق الخلاص من المهلكات.. ولنستمع سويا إلى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، إلى سيدنا محمد وهو يرسم لنا هذا الطريق، فيقول في الحديث الذي أخرج الحاكم في المستدرك، عن أنس أن رسول الله قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة". إذن أين أنت -يامؤمن- من صنائع المعروف، أين أنت من أفعال الخير، صنائع المعروف إلى الناس هي طريق نجاتك وخلاصك من مصارع السوء. فكم من إنسان نجاه الله من مصارع السوء بسبب فعله للخير؟ وكم إنسان حفظ الله ماله من الضياع والسرقة والتلف بسبب إحسانه إلى الناس؟ وكم من إنسان نجاه الله من الحوادث المميتة بسبب معروفه إلى الناس؟ وكم إنسان حفظ الله أولاده وأهله من المهلكات بسبب صلاحه؟
ازرع جميلاً ولو في غير موضعه ** فلا يضيـع جميـل أينمـا زُرعـا
إن الجميــل وإن طال الزمـان به ** فليس يحصده إلا الذي زرعا
أنت-يا عبدالله- لو تصفحت كتاب الله، ستجد أن الله سبحانه قد تحدث عن صنائع المعروف وبين لنا أنه نجى أناسا من مصائب وشدائد وقعوا فيها، وكل ذلك بسبب معروفهم وصلاحهم. فهذا سيدنا يونس- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- يوم أن تضايق بإعراض قومه عن دعوته، فهجرهم غاضباً، ورحل عنهم جميعا، بعيداً بعيداً، ظانًّا أن الله أباح له أن يهجرهم، فظن أن الله لن يقدر عليه، فوقع في بطن الحوت، وعاش في الظلمات، في ظلمات الليل وظلمات أعماق البحر وظلمات بطن الحوت، فأصبح في شدة ومحنة، فقال الله تعالى عنه: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾. لماذا نجاه الله؟ لابد أن هناك سببا في نجاته؟ اسمعوا إلى كتاب الله تعالى وهو يبين لنا سبب نجاته وخلاصه من هذه الشدة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. لولا حرف امتناع لوجود، أي لولا عمله الصالح، لولا صنائع المعروف، لولا التسبيح الذي فسره العلماء بأنه الصلاة والعبادة، لبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.. فالمعروف كان سببا في خلاصه من محنته، وكذلك المؤمن لا يتخلص من المصائب ومصارع السوء إلا بمعروفه وعمله الصالح. ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين﴾. ولذلك قال: "دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: "لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إني كُنْتُ مِن الظالمين- لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له". صحيح الترمذي. بل انظروا إلى قصة الغلامين اليتيمين في سورة الكهف، لماذا سخر الله عبده الخضر -عليه السلام- لإقامة الجدار لكي يحفظ أموال الغلامين؟ والجواب لأن أباهما كان من أهل المعروف. قال سعيد بن جبير -رحمه الله- عن والد الغلامين:" إنه كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحفظ الله تعالى كنزه حتى أدرك ولداه، فاستخرجا كنزهما". قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾. فحفظ الله للغلامين كنزهما الذي هو من متاع الدنيا الزائل لصلاح أبيهما. قال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وعترته وعشيرته والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال". وقال سعيد بن المسيب لأبنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾. وهذا عبدالله بن مسعود عندما كان يصلي من الليل وابنه الصغير نائم ينظر إليه قائلاً: من أجلك يا بني! ويتلو وهو يبكي قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾. وقد ذكر بعض العلماء قصة امرأة كان لها ولد مسافر لطلب العلم، وكانت امرأة فقيرة، ولكنها جوادة كريمة، محبة لله ولرسوله، فبينما هي ذات يوم على عشائها الذي لا تملك غيره، إذا بطارق يطرق عليها الباب، ففتحت فإذا هو مسكين يسأل طعاماً. فقامت إلى عشائها فأعطته إياه. وذهب هو ليشبع، وباتت وهي جائعة، لكن محتسبة عند الله الأجر، ألم الجوع في بطنها، لكن فرحة السعادة في قلبها أن سدت جوعة مسلم. مضت الأيام والليالي وقدم ابنها من سفره، وأخذ يحدثها عن سفره فذكر لها من أعجب ما حدث له أن أسداً اعتدى عليه في إحدى الغابات، حتى صار بين يديه، فجاءه رجل عليه ثياب بيض فأنقذه. فسأله: من أنت؟ قال: لقمة بلقمة!! فتعجبت ماذا يريد بهذا الكلام! فسألته أمه متى حدث هذا الكلام؟ فأخبرها فإذا هو نفس اليوم الذي سدت به لقمة ذلك الجائع، لقمة الجائع أنقذت ولدها أن يكون لقمة لأسد مفترس.. سبحان الله، وصدق رسول الله الذي أكد أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء. اللَّهُمَّ لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، وارحمنا في الدنيا والآخرة.. (آمين) وَأقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ أمر بالسمع والمعروف والطاعة، ونهى عن الفرقة والإضاعة، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف ربه فأطاعه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والحوض والشفاعة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم من أهل الطاعة والقناعة والجماعة.. أَمَّا بَعْدُ: معاشر الصالحين: (فعل المعروف يقي مصارع السوء)، حديث تكلم به محمد بعد أن نزل عليه: (اقرأ).. فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله:"صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء". شعب الإيمان للبيهقي، وصحيح الجامع. بل انظروا إلى أم المؤمنين خديجة زوج رسول الله كيف استدلت بحسن الأفعال على حسن العواقب.. فبعد أن نزل الوحي على رسول الله في غار حراء وقال له: "اقرأ".. عاد إليها يرجف فؤاده.. فقال: زملوني زملوني؛ فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:" كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..". لست أنت -يا رسول الله- بالوجه الذي يرده الله، ولست أنت بالعبد الذي يتخلى عنه مولاه، فأنت عبد أكرمت عباده، أشبعت جوعتهم، وأذهبت ظمأتهم، وكسوت عورتهم، ومسحت على رأس اليتيم، فكنت الأب، وعفوت عمن أساء إليك فكنت الأم: وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أب ** هذان في الدنيا هما الرحماء
لا يخزيك.. ولم ولن، يخزيك الله أبدًا.. والشاهد من هذه القصة أن خديجة استنتجت من خلال فطرتها الطاهرة، أن أي إنسان يحسن إلى الناس ويعاملهم المعاملة الطيبة، وألسنة الناس لا تكل من الثناء عليه، لا يمكن أن يهان أو يفضح أو يصيبه ضرر لأن الله معه.. ولهذا ذهبت تعدد له الحسنات السابقة التي تحفظه في مستقبل أمره.. ثم جاء محمد ليؤكد على هذا الأمر بعد بعثته ليقول للعالم: "فعل المعروف يقي مصارع السوء"، فكم من حسنة كانت السبب في نجاة صاحبها في أصعب المواقف، وأخطر الظروف! وكم من جميل ومعروف، أسداه العبد للناس كان صمام أمانه، طوال حياته!.. هذا في الحياة الدنيئة، فكيف بيوم الكرم من أكرم الكرماء!؟ ومسك الختام، كلام النبي-عليه السلام- فقد ذكر قصة تبين لنا أن المعروف والعمل الصالح الخالص لوجه الله تعالى، سبب في نجاة صاحبه من الشدائد و أن الحسنة البيضاء، النقية الخالصة من الرياء، تنفع صاحبها في المحنة السوداء.. يقول: " انطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إِلى غَارٍ فَدَخلُوهُ، فانْحَدرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أنْ تَدْعُوا اللهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ. قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مالاً، فَنَأَى بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْماً فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أو مالاً، فَلَبَثْتُ - والْقَدَحُ عَلَى يَدِي - أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَميَّ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ. قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمّ، كَانَتْ أَحَبَّ النّاسِ إليَّ.. فأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا فامْتَنَعَتْ منِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمئةَ دينَارٍ عَلَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا.. قالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاّ بِحَقِّهِ، فَانصَرَفْتُ عَنْهَا وَهيَ أَحَبُّ النَّاسِ إليَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيتُها. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وأَعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُل واحدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهبَ، فَثمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنهُ الأمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعدَ حِينٍ، فَقالَ: يَا عبدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أجْرِكَ: مِنَ الإبلِ وَالبَقَرِ والْغَنَمِ والرَّقيقِ، فقالَ: يَا عبدَ اللهِ، لاَ تَسْتَهْزِئ بي! فَقُلْتُ: لاَ أسْتَهْزِئ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يتْرُكْ مِنهُ شَيئاً. الَّلهُمَّ إنْ كُنتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ" مُتَّفَقٌ عليهِ. فلنحرص على صناعة المعروف صغيرًا كان أو كبيرًا حسب استطاعتنا.. المهم أن نلحق بركب صنَّاع المعروف، دونما تحقيرٍ لصغيرِ معروفٍ، فلربما كان الصغير عظيمًا عند الله تعالى.. اللهم اجعلنا من أهل المعروف، اللهم اجعلنا باذلين للخير صانعين له، اللهم اجعل قضاء حوائج الناس على أيدينا إن استطعنا، اللهم من آتيته منا مالاً أو جاهًا أو منصبًا فاجعله في سبيلك، وعونًا على طاعتك، وطريقًا لبذل المعروف لعبادك وقضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية. اللَّهُمَّ يا ساتر الحال لا تكشف لنا الحال، وبارك لنا في الأعمار والأعمال والعيال. يا عالم السر منا، لا تهتك السرعنا، وعافنا واعف عنا، وكن لنا حيث كنا. اللهُم ارحم أمواتَنا، واهد الأحياء منا، وأَصْلَحَ خَلَلَنا، ورَدَّ إلى الحَقِّ ضالَّنا.. اللهم أصلح المقبل من أعوامنا، وزودنا التقوى في القادم من أيامنا، اللهم تب علينا من كل ذنب أذنباه، أو حق ضيعناه، أو مسلم ظلمناه، أو حد تجاوزناه. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي الأَوْطَانِ وَالدُّورِ، وَأَصْلِحْ اللَّهُمَّ لَنَا عَوَاقِبَ الأُمُورِ. اللّهمّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين.. وَاهْدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فيهِ مِنَ الْحَقِّ بإِذْنِكَ، اِنَّكَ تَهْدي مَنْ تَشاءُ إلى صِراط مُسْتَقيم. اللّهم أَحسِن عاقِبتَنا في الأُمورِكُلها و أجِرْنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.. اللهم متعنا برضوانك، وسهل لنا طريق جناتك، وبشرنا بعفوك وغفرانك.. اللّهم ارحمنا فانَّك بِنا رحيم، ولا تُعذِّبنا وأنتَ علينا قدير، و الْطُف بنا يا مَولانا فيما جَرَت بِهِ المَقادير.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
المشاهدات 14093 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
الغزالي الغزالي
خطبة مقتبسة.
تعديل التعليق