صِلَة الرَّحِم وحَقُّ الأُخْت

سعود المغيص
1444/07/10 - 2023/02/01 07:23AM

الخُطْبَةُ الأُولَى :

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بعدُ عباد الله  :

اتقُوا اللهَ تعالى، وابذُلُوا أسبابَ الفَوْزِ بِرَحمتِه, وَصِلُوا ما أمَرَ اللهُ بَهَ أنْ يُوصًلَ، واعْلَمُوا أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ شأْنُها عظيم, وأَمْرُها مُؤَكّدٌ، وَقَطْعُها مِن أعْظَمِ أسبابِ العُقُوبَةِ العاجِلةِ في الدنيا قَبْلَ الآخِرة.

قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴾. وكذلكَ هي سَبَبٌ لِلتَوفيقِ وسعادَةِ المَرْءِ في الدُنيا قبلَ الآخرة, قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ أحبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رزقِه ويُنْسَأَ له في أثَرِه فَلْيَصِلْ رحِمَه ).

بل إنَّ أَمْرَ صِلَةِ الرَّحِم وظُهُورَه في المُجْتَمَع, يَعُودُ على المُجْتَمَعِ كُلِّه بِصلاحِ أمْرِهِم وعَمارِ دِيارِهِم، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( صِلَةُ الرحِمِ وحُسْنُ الخُلُقِ تَعْمُرانِ الدِّيارَ وتَزيدُ في الأعمار ).

ومِن لَوَازِمِ ذلك: أنَّ قطيعةَ الرحِمِ سَبَبٌ لِخَرابِ الدِّيارِ وضِيقِ الرِّزْقِ, ومَحْقِ بَرَكةِ الرِّزقِ والعُمُر.

ومَن تَأَمَّلَ أَمْرَ خَلْقِها, وتَوَسُّلِها بِرَبِّها، وَوَعْدِ اللهِ لها، عَرَفَ عِظَمَ قَدْرِها، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَما تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ فَهُوَ لَكِ ).

إنه وَعْدٌ صادقٌ مِن الله, فيه ذِكْرَى لِمَن كان له قَلْبٌ يَتَّعِظُ ويَخْشَى.

والوُجُوبُ في صِلَةِ الرَّحِمِ مُرَتَّباً على حَسَبِ الأَوْلَوِيَّةَ والقَرابَة. وأَوْلَى الناسِ بِالبِرِّ والصِّلَةِ: الوالِدانِ، ثُمَّ الأَقْرَبُ فالأَقْرَبُ، كالزَّوْجةِ والأولادِ والإِخوةِ والأخواتِ والأعمامِ والعَمَّاتِ والأخْوالِ والخالاتِ.

عبادَ الله : إنَّ مِن الأقارِبِ مَن يَغْفَلُ بَعْضُ الناسِ عن القِيامِ بِحَقِّه, بَلْ قَدْ يُضَيِّعُه والعِياذُ بالله, فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ والتَّذكِيرُ بِه.

إنَّه حَقُّ الأُخْتِ، التي ظَهَرَ في وقْتِنا جانبُ التقصيرِ والعُقُوقِ فيهِ مِن بَعْضِ الإخوةِ تجاهَ أخَوَاتِهم.

عبادَ الله: إن لِلأُخْتِ في حَياةِ أخِيهَا جانباً كَبِيراً مِن الرِّعايةِ والْحُقوقِ الواجبةِ، فَهُوَ وَلِيُّها والراعِي لها إذا فَقَدَت والِدَها، وَهُوَ سَنَدُها والرُّكْنُ الذي لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعدَ اللهِ في أُمُورِ دِينِها ودُنياها، وفي تَحْصيلِ مَصالِحِها، وكذلك نُصْحِها وتَوجِيهِها في عِبادَتِها وأخلاقِها. وَكُلُّ مَن عِنْدَه إيمانٌ صَحيحٌ، ورَجُولَةٌ وشَهامَةٌ ونَخْوَة، لابُدَّ وأَنْ يَجْعَلَ أُخْتَه مَحَلَّ اهْتِمامِه ورِعايَتِه وتَضْحِيَتِه, خُصُوصاً عِنْدَ احْتِياجِها وضَعْفِ حِيلَتِها. سَواءً كانتْ صغيرةً، أوْ مُتَزَوِّجةً أو أَرْمَلةً أو مُطلَّقةً أو عانِسا.

وَأُذَكِّرُكُم يا عِبادَ اللهِ بِمَوْقِفِ صَحابِيٍّ جَلِيلٍ، ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً رائعاً في الإيمانِ والرُّجُولَةِ والشَّهامةِ مَعَ أَخَواِتِه، عِنْدَما اسْتُشْهِدَ أبُوه رضي اللهُ عَنْهُ في غَزْوَةِ أُحُد، وكان عَدَدُهُنَّ سِتَّ أَخَوَاتٍ صَغِيراتٍ، فَتَزَوَّجّ مِنْ أَجْلِهِنّ امرأةً ثيباً، مَعَ العِلْمِ أَنَّه شابٌّ حَديثُ السِّنِّ، لكنَّه ضَحَّى بِرَغْبَتِه لِأجْلِهِنَّ. وعِنْدَما سَأَلَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَزَوَّجْتَ؟!" قال: نعم، قال: "بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟!" قال: بَلْ ثَيِّبًا، قال: "فَهَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْراً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ؟!" قال: إِنَّ لي أَخَوَاتٍ؛ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ"، وفي رواية: "إِنَّ لي أَخَوَاتٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ". فأَقَرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

قارِنُوا يا عبادَ اللهِ بين هذه التَّضْحِيَةِ، وبينَ ما نَسْمَعُ به اليَوْمَ مِن البَعْضِ، مِن قَطيعَةِ الأُخْتِ، أَو إِهْمالِها وعَدَمِ النَّظَرِ إلى حاجَتِها وتَحْصيلِ مَصالِحِها، وقَدْ يَصِلُ الأَمْرُ بَعْدَ وَفاةِ أبِيها إلى تأخِيرِ مِيراثِها، أو بَخْسِهِ أو حِرْمانِها مِنْه بِطُرُقٍ مُلْتَوِية، اسْتِغلالاً لِضَعْفِها، وقِلَّةِ حِيلَتِها وجَهْلِها بِحُقُوقِها.

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أمّا بعد عِبادَ الله:

إنَّ ثوابَ تَرْبِيَةِ البناتِ لَيْسَ خاصًّا بِبَناتِكَ اللاَّتِي مِن صُلْبِك. بَلْ إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَدَّاهُنَّ إلى أخَواتِكَ وذَواتِ قَرابَتِك, قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ أَنْفَقَ على ابْنَتَيْنِ أو أُخْتَيْنِ أَوْ ذَوَاتَي قَرَابَةٍ، يَحْتَسِبُ النَّفَقَةَ عليهِما حتى يُغْنِيَهُما اللهُ مِن فَضْلِهِ، أَوْ يَكْفِيَهُما, كانَتَا له سِتْراً مِن النار ).

وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ كانَ لَهُ ثَلاثُ بَناتٍ، أو ثلاثُ أَخَواتٍ، أو ابنتانِ، أو أخْتانِ، فأحْسَنَ صُحْبَتَهُن، واتَّقَى اللهَ فيهنَ، فَلَه الجنَّة ).

فَيا لَهُ مِنْ ثَوابٍ عَظيمٍ، في حَقٍّ عَظيمٍ، غَفَلَ عنه كَثيرٌ من الناس.

اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا وأقوالنا, واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنا إلا أنت واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا،

اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك،

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين .

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا بِحِفْظِكَ، وَأَنْ تَكْلَأَنَا بِرِعَايَتِكَ، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنَّا الغَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُ فِي رِضَاكَ، وَهيِّئْ لَهُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَسَدِّدْهُمْا وَأَعِنْهُمْا ، وَاجْعَلْهُما مُبارَكِيْنَ مُوَفَّقِيْنَ لِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلاحٍ يارب العالمين

اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحدود، اللهم أنزل السكينة في قلوبهم، وثبت أقدامهم، واحفظهم من كيد الأعداء.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

المشاهدات 584 | التعليقات 0