صَلاحُ الظَّاهِرِ وَنـقَاءُ السَّرَائرِ 19-2-1441 هــ
محمد آل مداوي
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، سُبْحَانَهُ جَعَلَ العَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، السَّمِيعُ البَصِيرُ، اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، القَرِيبُ المُجِيبُ، لا يَعْـزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلا يَغِيبُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، زَكَّى اللهُ سِيرَتَهُ، وَأَصْـلَحَ عَلانِيَتَهُ وَسَرِيرَتَهُ، صلى الله عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَتُوبُوا إِلَيْهِ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
وَاعلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ تَعَالَى – أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ سَرِيرَةً وَعَلانِيَةً، وَالسَّرِيرَةُ هِيَ كُلُّ مَا يُكْتَمُ وَيُسَرُّ، وَالعَلانِيَةُ مَا يَبْدُو وَيَظْهَرُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَالجَهْرَ، وَبِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ أَمْرٍ، فَمَا تُضْمِرُهُ القُلُوبُ لا يَخْفَى عَلَى عَلاَّمِ الغُيُوبِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ،
وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ،
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى السَّرَائِرِ، مُحِيطٌ بِكُلِّ خَفِيٍّ وَظَاهِرٍ، هَذِهِ حَقِيقَةٌ يُؤْمِنُ بِهَا كُلُّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلإِيمَانِ، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، وَلَقَدْ وَعَظَ لُقْمَانُ ابنَهُ فَكَانَ مِنْ مَوْعِظَتِهِ أَنْ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ نَقَاءَ السَّرِيرَةِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى أَدَاءِ العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فِي الخَفَاءِ، بَلْ بِمَا يَحْمِلُهُ القَلْبُ مِنْ صَفَاءٍ، فَالقَلْبُ إِذَا صَفَا مِنَ الأَحْـقَادِ، وَخَلا مِنَ البَغْيِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ نَجَا صَاحِبُهُ فَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ؛ وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ r: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَـلُ؟ قَالَ: ((كُلُّ مَخْمُومِ القَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ، قِيلَ: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ القَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ)). إِنَّ المُؤْمِنَ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَبْـقَى قَلْبُهُ نَقِيًّا سَلِيمًا مِنْ جَمِيعِ الضَّغَائِنِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُو رَبَّهُ دَائِمًا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَلإِخْوَانِهِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ وَالَّذِينَ لَحِقُوهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يَصِفُ اللهُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ r: ((وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا))، فَلْنَحْرِصْ - يَا عِبَادَ اللهِ - عَلَى أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ القُلُوبِ الطَّاهِرَةِ، والسَّرَائِرِ النَّقِـيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْوِ جَسَدُهُ ضَمِيرًا حَيًّا، وَلَمْ يُرزَقْ قَلْبًا نُورَانِيًّا؛ كَانَ لا يَعْدُو جَسَدُهُ هَيْكَلاً يَحْبِسُ الرُّوحَ، وَقَفَصًا تُسْجَنُ فِيهِ، أَمَّا المُؤْمِنُ الحَقُّ فَإِنَّهُ يُجَلِّي قَلْبَهُ بِذِكْرِ اللهِ، وَيُنِيرُ حَيَاتَهُ بِطَاعَةِ اللهِ؛ فَيَحْيَا حَيَاةً إِيْمَانِيَّةً، يَشْتَرِكُ فِيهَا الجَسَدُ وَالرُّوحُ مَعًا، فَيَِكُونُ حَرِيًّا بِقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أَيُّها المُؤمِنونَ:
إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمُسلِمِ مِنَ الطُّرُقِ وَالوَسَائِلِ لِتَنقيةِ قَلْبِهِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُلاحِظَ بَاطِنَهُ كَمَا يُلاحِظُ ظَاهِرَهُ، وَكَمَا يَشْتَغِلُ بِتَزْيِينِ ظَاهِرِهِ أَمَامَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يُهْمِلَ تَزْيِينَ بَاطِنِهِ أَمَامَ رَبِّ النَّاسِ، فَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلاَ إلَى أَمْوَالِكُمْ، ولكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ))، فَالقَلْبُ مَحَلُّ نَظَرِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلا بُدَّ مِنْ تَصفِيَتِهِ وَتَنقِيَتِهِ،
فَاحذَرْ - أخي - مِنْ جَمِيعِ آفَاتِ القَولِ وَالعَمَلِ، وَبَادِرْ مَا استَطَعتَ إِلَى أَعْمَالِ المَعْرُوفِ وَالبِرِّ، وَأَتْبِعِ الفَرَائِضَ بِالسُّـنَنِ وَالنَّوَافِلِ، وَأَكْـثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُكَ بِمَعِيَّةِ اللهِ، فَيَنشَرِحُ صَدْرُكَ، وَتتَيَسَّرُ أُمُورُك،
فَفِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي))، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ - أَيْ أَستَمْسِكُ- بِهِ؟ قَالَ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ))، فَالمُؤْمِنُ - يَا عِبَادَ اللهِ - يَحْيَا مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ لَحَظَاتِهِ وَسَائِرِ سَاعَاتِهِ، لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ المَولَى سُبْحَانَهُ يُحْصِي عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، فَيَخْشَى أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِمَا يُوجِبُ السَّخَطَ، وَبِمَا يُبَاعِدُهُ عَنْ مَقَامِهِ العَظِيمِ، فَأَمَّا مَنْ طَغَى, وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا, فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى , وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى , فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاعمَلُوا عَلَى صَفَاءِ سَرِيرَتِكُمْ وَحُسْنِ سِيرَتِكُمْ، وَتَعَاهَدُوا قُلُوبَكُمْ فَطَهِّرُوهَا مِنْ كُلِّ غِلٍّ وَشَحْـنَاءَ، وَامْـلَؤُوهَا صِدقًا وَوَفَاءً.
أقُولُ ماتسمعونَ وَأسْتغْفِرُ اللهَ فَاسْتغْفِرُوهُ إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ عَلاَّمِ الغُيوبِ، َخَصَّ أَهلَ طَاعَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ بِسَلامَةِ القُلُوبِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ شَهَادَةً أَدَّخِرُهَا لِيَوْمٍ لا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلا بَنُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَوضَحَ لَنَا طَرِيقَ الهُدَى وَالنُّورَ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ:
إِذَا كَانَ نَقَاءُ السَّرِيرَةِ يُضْـفِي عَلَى المُؤْمِنِ نُورًا وَتَوفِيقًا فَإِنَّ صَلاحَ ظَاهِرِهِ يَمْـنَحُهُ ذَلِكَ أَيْضًا شَرْطَ أَنْ يُوَافِقَ سِرُّهُ عَلانِيَتَهُ، فَإِنْ أَسَاءَ فِي السِّرِّ فَلَنْ يُغْنِيَهُ حُسْنُ المَظْهَرِ شَيْـئًا. إِنَّهُ لا يَجُوزُ أَبْدًا أَنْ يُسِيءَ المَرْءُ فِيمَا بَيْـنَهُ وَبَيْنَ اللهَ الوَاحِدِ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَمَامَ النَّاسِ بِمَظْهَرِ النَّاسِكِ العَابِدِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَأْنِ هَذَا وَأَمثَالِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
إِنَّ الإِسْلامَ يُعنَى بِحُسْنِ السِيرَةِ عِنَايَتَهُ بِحُسْنِ السَّرِيرَةِ، فَمَا أَحْسَنَ أَنْ يَعْـتَزَّ المَرْءُ بِكَرَامَتِهِ فَيُحْسِنَ عَمَلَهُ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأً ذَبَّ الغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِذَا وَقَعَ الإِنسَانُ فَي شَيْءٍ مِنَ السَّيِّـئَاتِ، فَعَلِيه حِينَئِذٍ أَنْ يَسْـتُرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلا يُحَدِّثَ أَحَدًا بِمَا قَارَفَهُ مِنها، بَلْ علَيْهِ أنْ يَتُوبَ لِيَعْـفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَيَستمرَّ حُسْنُ ظَنِّ النَّاسِ بِهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ r: ((كُلُّ أُمَّـتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْـلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ فَيَقُولَ: يَا فُلانُ عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْـتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ)). فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَأَصْـلِحُوا سَرَائِرَكُمْ؛ يُصْـلِحِ اللهُ عَلانِيَتَكُمْ، وَالزَمُوا التَّوْبَةَ وَالاستِغْفَارَ، وَأَنِيبُوا إِلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: