صلاة المغرب بين سماحة التشريع ومراعاة المكلف - أ.زياد الريسي–مدير الإدارة العلمي

الفريق العلمي
1439/05/26 - 2018/02/12 13:54PM

الحمدلله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحابته والتابعين، ثم أما بعد:

 

من رحمة اللطيف -سبحانه- إرساله نبي الرحمة إلى هذه الأمة المرحومة، قال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]؛ حيث جاء صلى الله عليه وسلم بدين الرحمة للخلق وشريعة اليسر للبشرية؛ قال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عبدالله بن عباس: "أحبُّ الأديانِ إلى اللهِ -تعالى- الحَنِيفيَّةُ السَّمحةُ" (صحيح الجامع ١٦٠، الألباني حسن).

فكانت شريعة الإسلام رحمة في كل أمورها؛ رحمة في عقيدتها فأخرجت العباد من ظلم الأديان ورق البشر إلى عدل الإسلام وحريته وتوحيد رب البشر وعبادته، ورحمة في نظمها وتشريعاتها وعدلاً وتيسيراً في أحكامها.

 

ومن كمال شريعتنا الغراء وسمو ديننا الحنيف أنه لم يهتم بتطبيقه فقط دون أن يراعي حال المكلفين، أو يحرص على تنفيذه فحسب دون النظر في ظروف المتعبدين؛ بل راعى طبيعة الإنسان الخَلقية، وقدَّر حالته النفسية والأسرية والاجتماعية، وجعل اعتباراً لإمكانياته المادية وقدراته العقلية والبدنية، ونظر إلى ما تحيط به من مؤثرات وجواذب خارجية؛ كل ذلك حتى لا يتسبب الشرع في وقوع حرجٍ أو حدوث مشقةٍ، قال الله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6].

 

وليس ما ذكرناه هنا والكثر ممن لم نذكره ضرباً من القول أو نسجاً من الخيال؛ بل ذلك ظاهرٌ في كل التشريعات وبينٌ في جميع التوجيهات بما لا يحصى عده ولا مشاهدته، وبما لا يترك مجالاً للشك أو يدع باباً للريب؛ وفي هذه السطور سنعرج بكم -أيها القراء- على صورة من الصور التي تجلت فيها حِكمُ الإسلام الراقية، وسطعت فيها رحمة أحكامه الحانية، وبرزت فيها تسهيلاته المرنة؛ فما أرحمه ربنا -سبحانه وتعالى- من مشرع! وما ألطفه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مبلغ! وما أجمله ديننا وأيسره من تشريع!.

 

والصورة التي بين أيدينا هي (صلاة المغرب وما يتعلق بها من أحكام وتشريعات)؛ كمثال على مراعاة الشرع لحال المكلفين إثباتاً على ما ذكرنا من لطفِ الإسلام وسماحته، واستدلالاً على ما تطرقنا من يسره ورحمته، وهاكم بيان ذلك:

أولاً: ضيق وقتها؛ فالسنة في صلاتها أداؤها بعد المغرب مباشرة، لتوجيهه عليه الصلاة والسلام بتعجيل صلاة المغرب فور دخول وقتها؛ كما في حديث أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صلوا صلاة المغرب مع سقوط الشمس، بادروا بها طلوع النجم" (السلسلة الصحيحة ١٩١٥).

قال الترمذي -رحمه الله تعالى-: "وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدهم من التابعين، اختاروا تعجيل صلاة المغرب، وكرهوا تأخيرها".

وجاء في فتاوى نور على الدرب ما نصه: "حتى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يجعل وقتا طويلا بين أذان المغرب وإقامته بل كان يصلي الركعتين ثم يأمر بالإقامة"، فكان إذا أذن صلى الناس ركعتين، ثم أمر بالإقامة عليه الصلاة والسلام، فليس بين إقامة المغرب وبين الأذان إلا شيء قليل، وهو ما فعله المسلمون..".

 

ثانياً: نافلتها القبلية لمن شاء فليست مؤكدة؛ كما في حديث عبدالله المزني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلوا قبل صلاةِ المغربِ. قال في الثالثةِ: لمن شاء. كراهيةَ أن يتَّخذها الناسُ سُنةً" (صحيح البخاري ٧٣٦٨).

 

ثالثاً: عدد ركعاتها؛ فركعاتها ثلاث ركعات، وهي بين صلاتين رباعيتين؛ ولعل من حِكم التقليل في ركعاتها هو مراعاة حال المكلفين وحاجتهم الملحة في هذا الوقت الفاصل بين ساعات النهار والليل أن يكونوا مع أهليهم.

 

رابعاً: مشروعية التقصير في قراءتها من المفصل؛ فقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطيل القراءة في صلاتي الفجر والظهر، ويتوسط في صلاة العصر والعشاء، ويخفف ويقرأ من قصار السور في صلاة المغرب.

قال البسام في شرح بلوغ المرام: "العادة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يطيل القراءة في صلاة الصبح، ويقصرها في المغرب، ويتوسط في غيرهما من الصلوات الخمس..".

قلت -والعلم عند الله- أنه وإن كانت الإطالة والتوسط والقصر مشروعة في المغرب؛ إلا أن الأصل فيها هو التقصير؛ وهكذا الفجر؛ فكما أنه يجوز فيها التقصير والتوسط والإطالة؛ إلا أن الأفضل في حقها الإطالة.

 

خامساً: أفضلية صلاة الراتبة البعدية لها في البيت، وما رود عن صلاته -عليه الصلاة والسلام- لها في المسجد فإنه كان لحاجة، ودليله ما ورد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سجدتين بعد الظهر وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته" (رواه البخاري).

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وكان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل السنن والتطوع في البيت إلا لعارض". اهـ.

وقال الإِمام أحمد في رواية حنبل: "السنة أن يُصليَ الرجلُ الركعتينِ المغرب في بيته، كذا رُويَ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه-". قال السائب بن يزيد: "رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطاب، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا حتى لا يَبقى في المسجد أحد، كأنهم لا يُصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم" انتهى كلامه.

 

سادساً: مشروعية قصرها مع التي بعدها سواء في السفر أو في الحضر للمريض أو عند المطر وما هو داخل فيه، قال شيخ الإسلام بعد ذكر جملة من هذه الآثار: "فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم، المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين مع أنه لم ينقل أن أحداً منهم أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك".

 

ومن هذه التشريعات ندرك -أيها الفضلاء- كيف أن ديننا الإسلامي السمح شرع هذه الصلاة في هذا الوقت بهذه السماحة واليسر؛ رحمة منه بهذا المكلف الضعيف وشفقة منه بهذا الإنسان ليراعي فيه ومعه وله أموراً كثيرة، منها ما يلي:

أن هذه الصلاة هي أول صلاة فاصلة بين ساعات الليل والنهار؛ حيث تنعدم فيها الرؤية حين يولي النهار دبره بغياب شمسه، وتشتد العتمة حين يرخي الليل ستره؛ وبالتالي قد ينتاب الأهل حينها شيء من الخوف والفزع خصوصا مع الظلمة الحالكة؛ وحضور الأب في هذه الوقت يخفف عليهم وحشتهم ويهدأ من روعهم.

 

حاجة الأهل عند غروب الشمس ومجيء الليل إلى ضوء يمكنهم من الحركة والتنقل ويسهل عليهم قضاء حوائجهم وتجهيز طعامهم والاستعداد لنومهم، وحتى لا يقعوا في مكروه أو أذى بسبب الظلام؛ وعودة المصلي إلى أهله مبكراً مهم لتوفير إضاءة أو على الأقل قربه منهم يزيل وحشة تلك الظلمة وإيناس لهم إن لم تتوفر الإضاءة.

 

المغرب وقت تنتشر فيه الشياطين؛ فكون المصلي يصلي هذه الصلاة بهذا اليسر ليعود لأهله فيتفقدهم ويسأل عن الغائب منهم؛ فيأوي الصغير ويسأل عن الكبير، ففي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان جُنحُ الليلِ، أو أمسَيتُم، فكُفُّوا صبيانَكم، فإنَّ الشياطينَ تنتَشِرُ حينئذٍ، فإذا ذهبَتْ ساعةُ الليلِ فخَلُّوهم، وأَغلِقوا الأبوابَ واذكُروا اسمَ اللهِ، فإنَّ الشيطانَ لا يَفتَحُ بابًا مُغلَقًا" (البخاري: ٣٣٠٤).

 

خشية نزول الأمطار في هذا الوقت وما يصحبها من صواعق وبروق أو لا قدر الله هدم أو غرق وجرف، وأقل نتائجها أنها تخلق هلعاً وفزعاً بين الأهل، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، قالت: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: "يا عائشة! ما يؤمني أن يكون فيه عذاب؟ عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: (هذا عارض ممطرنا)" (البخاري: 4829، مسلم: 899)؛ ووجود الرجل بين أهله في هذه اللحظات يخفف عنهم هذا الهلع ويتصرف بما يجب.

 

الليل مدعاة للسرقات ومهيئ للسطو على المنازل والتعدي على الممتلكات؛ خصوصاً مع انعدام النور؛ لذا وجود الرجل في منزله يدفع مثل هذه المخاطر ويقلل من حدوثها من أن تمتد إليها يد الخيانة وأقدام البطالين.

 

الليل وسيلة لمن تسول له نفسه هتك الأعراض والتكشف على الحرمات والدخول إليها من سفلة الأخلاق ومرضى القلوب، ووجود راعي الحمى بين أهله هو صون لعرضه وحراسة لكرامته من أن تخدش أو تهان.

 

تشريعات صلاة المغرب الميسرة تمنح الفرصة لمن أراد حاجة يجلبها لنفسه أو لأهله؛ لأن في خروج النساء والأطفال بمفردهم في هذا الوقت لقضاء حوائجهم فتنة لهم وضرراً عليهم، ووجود المسؤول في المنزل في هذه الأوقات مهم لتصدر هذه المسؤولية وقيامه بها.

 

والخلاصة -وفقنا الله وإياكم- بعد القليل الذي ذكرنا والكثير الذي أغفلنا أن ديننا الإسلامي الحنيف لم يأتي لشقائنا وإجهادنا والتضييق علينا، أو لوضع القيود والأغلال علينا وتكليفنا بما لا نطيق؛ بل جاء بالتيسير علينا والتسهيل لنا ورفع الحرج والمشقة عنا؛ لتتحقق حينها السعادة للبشرية جمعاء؛ وهذا ظاهر في كل أحكامه وجميع تشريعاته، قال الله -تعالى- (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28]، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً" (رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه).

 

والمتأمل بعدل وإنصاف يجد أن التيسير والمراعاة لا تنحصر في أحكام صلاة المغرب؛ بل في كل الصلوات وسائر العبادات؛ ودليل ذلك ما ورد من حديث عثمان بن العاص -رضي الله عنه- كانَ آخرُ ما عَهدَ إليَّ النَّبيُّ -ﷺ- حينَ أمَّرني على الطَّائفِ قالَ لي: "يا عثمانُ تجاوز في الصَّلاةِ واقدرِ النَّاسَ بأضعفِهم فإنَّ فيهمُ الْكبيرَ والصَّغيرَ والسَّقيمَ والبعيدَ وذا الحاجَةِ" (الألباني صحيح ابن ماجه ٨١٣).

 

ولهذا من يتتبع ألفاظ التكليف في القرآن يجد أنها لم ترد إلا على سبيل النفي؛ يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنَّه تكليف كما يُطلق ذلك كثيرٌ من المتكلمة والمتفقهة؛ وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي؛ كقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) [البقرة: 286] (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 233](لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق: 7] أي : وإنْ وقع في الأمر تكليف؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنَّه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أنَّ غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم...".

 

فكما أن الإسلام السمح جاء ليحافظ على الضروريات الخمس؛ ومن بينها الدين ومنه صلاة المغرب؛ كذا من بين الخمس الضروريات المحافظة على النفس والتي منها نفس العبد وأهله وذريته.

 

اللهم لك الحمد على لطفك بعد حكمك وعفوك بعد سترك وشكرك بعد نعمك. اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ودنيانا التي فيها معاشنا وآخرتنا التي إليها معادنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر. اللهم احفظنا لنا أعراضنا وصن كرامتنا. اللهم اشملنا بسترك وعمنا بفضلك وارحمنا بعفوك.

وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين.

_______

(1)        فتاوى نور على الدرب.

(2)        مجلد/10 -كتاب الصلاة (القسم الخامس) - باب السنن الرواتب - السنن الرواتب وكيفية أدائها.

(3)        زاد المعاد - هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب. (1/ 302- 305)

(4)        تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (1 / 149).

(5)        (مجموع الفتاوى (1/ 25- 26 )).

المشاهدات 528 | التعليقات 0