صَلاةُ الْفَجْرِ- كُنُوزٌ وَأَسْرَارٌ.

أ.د عبدالله الطيار
1446/05/22 - 2024/11/24 11:20AM

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اصْطَفَانَا مِنْ خَلْقِهِ مُوَحِّدِينَ، وَاجْتَبَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَخَصَّنَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ، فَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَشَرَّفَنَا بِخَيْرِ الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أجمعين أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، واعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: جَاءَ في السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي ‌حَثْمَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي ‌حَثْمَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَدَا إِلَى السُّوقِ. وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: (لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ) فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: (لَأَنْ أَشْهَدَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً) أخرجه مالك في الموطأ (1/131 رقم 7) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (423).

عِبَادَ اللهِ: وَفِي الْحَدِيثِ أَصْلَانِ جَلِيلَانِ، وَصِفَتَانِ فَضِيلَتَانِ اجْتَمَعَتَا في عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُمَا: النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْفِقْهُ في الدِّينِ، فَأَمَّا الْفَضِيلَةُ الأُولَى: فَتَظْهَرُ في تَفَقُّدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلنَّاسِ في صَلاةِ الْفَجْرِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُّ ﷺ فَفِي الْحَدِيثِ: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يومًا الصبْحَ فقال: (أشاهِدٌ فُلانٌ؟) قالوا: لا، قال: (أشاهِدٌ فُلانٌ؟) قالوا: لا، قال: (إنَّ هاتينِ الصلاتَيْنِ أثقَلُ الصَّلَواتِ على المُنافِقينَ، ولو تَعلَمونَ ما فيهما لَأتَيتُموهما ولو حَبوًا على الرُّكبِ) أخرجه أبو داود (554).

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَفَقَّدُ النَّاسَ في صَلاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً- لأَنَّهَا دَلِيلُ الإِيمَانِ، وَأَمَارَةُ الإِخْلاصِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ وَخَلاصٌ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفُرْقَانٌ بَيْنَ المؤْمِنِ الصَّادِقِ، وَالدَّعِيِّ الكْاذِبِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الإِنْسَانَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ) أخرجه ابن خزيمة (1485)، وابن حبان (2099) وصححه الألباني في صحيح الموارد (364).

وأما الفضيلة الثانية: فهي فقهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (لَأَنْ أَشْهَدَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً) يُؤَيِّدُ هَذَا الْفِقْهَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (مَن صَلّى العِشاءَ في جَماعَةٍ فَكَأنَّما قامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلّى الصُّبْحَ في جَماعَةٍ فَكَأنَّما صَلّى اللَّيْلَ كُلَّهُ) أخرجه مسلم (656).

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ لِصَلاةِ الْفَجْرِ فَضَائِلَ وَأَسْرَارًا، فَالْقِيَامُ إليْهَا فِكَاكٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَحَصَانٌ وَأَمَانٌ مِنَ الرَّحْمَانِ، قَالَ ﷺ: (مَن صَلّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ، فلا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِن ذِمَّتِهِ بشَيءٍ، فيُدْرِكَهُ، فَيَكُبَّهُ في نارِ جَهَنَّمَ) أخرجه مسلم (657) والمَشْيُ إِلَيْهَا نُورٌ وَضِيَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ﷺ: (بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ) أخرجه أبو داود (561) وصححه الألباني فَإِذَا صَلَّىَ نَافِلَةَ الْفَجْرِ كَانَت خَيرًا لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، قَالَ ﷺ: (رَكْعَتا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيها) أخرجه مسلم (725) فإذَا صَلَّى فَرِيضَةَ الْفَجْرِ مَعَ نَافِلَتِهِ، كَفَاهُ اللهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ سَائِرَ يَوْمِهِ، جَاءَ في الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: (ابنَ آدمَ اركعْ لي أربعَ ركَعاتٍ من أولِ النهارِ أكْفِكَ آخِرَه) أخرجه الترمذي (475) وصححه الألباني في إرواء الغليل (465).

عِبَادَ اللهِ: وَصَلاةُ الْفَجْرِ ضَمَانُ الْجَنَّةِ وَسَبِيلُهَا، وَأَمَانٌ عَنِ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا، قَالَ ﷺ: (مَن صَلّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ) أخرجه البخاري (574) وقال أيضًا: (لَنْ يَلِجَ النّارَ أَحَدٌ صَلّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِها، يَعْنِي الفَجْرَ والْعَصْرَ) أخرجه مسلم (634) فأيُّ فَضْلٍ غَنِمَهُ المؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ؟ وَأَيُّ حِرْمَانٍ بَاءَ بِهِ الْكُسَالى وَالمُفَرِّطُونَ؟

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، دَلِيلُ وَهَاءِ الإِيمَانِ، وَتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ، والاسْتِسْلامِ لِلْمَلَذَّاتِ، وَالرُّكُونِ إلى الشَّهَوَاتِ، وَعَلامَةٌ على النِّفَاقِ، وَسُوءِ الأَخْلاقِ، فَإِذَا كَانَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ خَلَّفَهُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ؛ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ بَيْنَ يَدَي الله عزَّ وجلَّ يُصَلِّي وَيَدْعُو، فَغَلَبَهُ النَّوْمُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَخَلُّفَهُ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ فَكَيْفَ بِمَنْ شَغَلَهُ عَنْ صَلاةِ الْفَجْرِ: السَّهَرُ أَمَامَ الشَّاشَاتِ، وَالْغَطُّ فِي نَوْمٍ سُبَاتٍ.

عِبَادَ اللهِ: وَإِنِّي لأَعْجَبُ: كَيْفَ يَهنَأ المتخلِّفُ عَن صَلاةِ الْفَجْرِ بِالنَّوْمِ؟ وَكَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِالفِرَاشِ والمُسْلِمُونَ في المسَاجِدِ يُصَلُّونَ؟! وَمِنْ مَعِينِ الْقُرْآَنِ يَنْهَلُونَ؟! وفِي بسَاتِينِ الذِّكْرِ يَسِيحُونَ؟ وَكَيْفَ يُؤثِرُ لذَّة النَّومِ والْفِرَاشِ عَلَى لَذَّة المُنَاجَاةِ وَالْعِبَادَةِ؟ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا خَاسِرٌ مَحْرُومٌ، كَبَّلَتْهُ الذُّنُوبُ وَالشَّهَوَات وأَسَرَتْهُ الْفِتَنُ وَالمَلَذَّاتُ، فَاسْتَخَفَّ الشَّيْطَانُ بِعَقْلِهِ وَبَالَ في أُذُنِهِ، فَأَضْحَى خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلان نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُسْرَانِ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) الإسراء: [78].

بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعد فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ:
وَإِنَّ مِنَ المَشَاهِدِ الَّتِي يَنْدَى لَهَا الْجَبِينُ، وَتَدْمَعُ لَهَا المقَلُ، رَجُلٌ قَضَى لَيْلَهُ يَفْتَرِشُ المَلَذَّاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَسْرُدُ الْقَصَصَ وَالرّوَايَاتِ، حَتَّى إِذَا جَنَّ الْفَجْرُ، وَأَقْبَلَ السَّحَرُ، وَتَنَزَّلَ الْمَلِكُ سُبْحَانَهُ، وَقَامَ الْعُبَّادُ يَسْرُدُونَ حَاجَاتِهِم، وَيَنْصُبُونَ أَقْدَامَهُم قَامَ هُوَ يَتَلَحَّفُ بِالْغِطَاءِ، وَيَتَلَمَّسُ الوسَادَةَ، -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُذْلانِ-.
وَمِنَ المشَاهِدِ أَيْضًا: رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ: يَعْمَدُ إلى المُنَبِّهِ يَضْبطُهُ علَى وَقْتِ الدَّوَامِ؛ لِيَقُومَ لِعَمَلِهِ، ولا يَكْتَرِثُ بِصَلاتِهِ، وَرُبَّمَا قَضَاهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ، ولا يَدْرِي أَنَّهُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا، قَد ارْتَكَبَ كَبِيرَةً مِنَ الموبِقَاتِ، وَشَاكَلَ المنَافِقِينَ في الصِّفَاتِ، إلا أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ عزَّ وجلَّ، فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بُيُوتَ المسْلِمِينَ، وَأَنْ يَجْعَلْهَا عَامِرَةً بِذِكْرِهِ، قَائِمَةً بِأَمْرِهِ.
 اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

                                                                                                                         الجمعة 20/ 5/ 1446

المشاهدات 759 | التعليقات 0