صراع بين المبادئ والمصالح

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/11/09 - 2013/09/15 15:19PM
[FONT="]خطبة الجمعة : صراع بين المبادئ والمصالح [/FONT][FONT="] 07 ذو القعدة 1434هـ / 13 أوت 2013م[/FONT]
[FONT="]الاستفتاح بخطبة الحاجة ، ثم أما بعد[/FONT][FONT="] : [/FONT]
معشر المؤمنين : أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلّ وعلاَ ، فهي نعم الزاد و خيرُ العدَّة والعتاد ، من لقي الله بالتقوى فهو المفلحُ السعيد ، ومن خسرها فهو الشقيُّ الطريد ، قال الله تعالى :﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِين﴾ ( المائدة :27 ) .
أيها الإخوةُ في الله : جَرَت سُنّةُ الله تعالى في خلقِهِ بانقسامِهِم قسمَين : أهلِ الخير و أهلِ الشر ، أهلِ الحقّ و أهلِ الباطل ، أهلِ المبادئ و أهلِ المصالح . . هم هكذا على الدوام !
لكلٍّ منهما منهجُ حياة : فأهلُ الخير والحقّ والمبادئِ لهم قيَمٌ راسخةٌ متينة لا تُباعُ ولا تُشترَى ، ولا تتبدّل ولا تتغيّر ؛ بها يؤمنون ، وفي سبيلِها يحيَونَ ويموتون ، ولا يقبلون من الوسائلِ و الأساليبِ إلاّ ما كان شريفًا عفيفًا لا يعارضُ المبدأَ ولا ينافيه . . !
و أما أهلُ المصالح والأهواء فالقيمةُ الوحيدةُ التي يؤمنون بها و يفهمونها و يعيشون في سبيلها هي المنفعة و الغرائزُ والشهوات لا غير ! . فحيثُما كانت المنفعةُ يكونون ، وحيثُما دارت المصلحةُ يدورون ! ، وهم يستحِلّون في سبيلِها كلّ وسيلةٍ و أسلوب مادامت النهايةُ هي تحقيقُ المصلحة و الغريزة . . ! .
الناسُ - معشر المؤمنين - هم هكذا صنفان منفصلان ، منذ فجر التاريخ ، سواءً كانوا أفرادًا ، أم في شكل جمعيّاتٍ أو منظّماتٍ أو أحزابٍ أو دول ، هم صنفانِ هكذا على الدوام :
لنا اليومَ وقفةٌ - أحبّتي في الله - مع أهل المبادئ والقيَم ، مع ثباتِهِم و رسوخِهم كالجبال أمام أعاصيرِ المصالح و رياحِ المُساوَمات ، عسَى أن نقتبسَ من رسوخِهِم تربيةً نثبُتُ بها على مبادِئِنا كالجبال ، فنسأل الله التوفيقَ إلى ما يحبّ ويرضَى :
هذا سيّدُ المبادئ و القيَم والثبات محمّدٌ r :
لما نزل قول الله تعالى:﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْالْمُشْرِكِينَ ﴾(الحجر:94)،قام رسول الله r يبين حقيقة التوحيد والإسلام ويكشِفُ للناس حقيقَةَ الشرك والأصنام ، وهذا عملٌ صعبٌ و رسالةٌ خطيرةٌ في مجتمعٍ شبّ على لغةِ المصالح والأهواء ! .
ثارت ثورةُ قريشٍ فأرسلوا إلى عمّه أبي طالبٍ يضغطونَ به على النبيّ r عسَى أن يكُفّ عن مبادئِهِ التي يؤمِن ، فماذا كان الجواب ؟! : قال له أبو طالب : يا ابن أخي؛إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم ، فانته عن ذلك . فماذا كان جوابُهُ صلى الله عليه وسلم وقد دعاهُ إلى التراجُعِ عمُّهُ الذي آواهُ يتيمًا و ربّاه صغيرًا ودافع عنه كبيرًا :
قال الراوي : فلحظ رسول الله r ببصره إلى السماء ، فقال : "ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة" . يعني الشمس . قال : فقال أبو طالب : ما كذب ابن أخي ، فارجعوا [1].
أيها الأحبّةُ في الله : أرسلوا إليه مرّةً أخرى عتبةَ بنَ ربيعة في مفاوضاتٍ جديدةٍ يحملُ معهُ حقائبَ قُرشيّة ، للالتقاءِ في منتصف الطريق ، أو التنازل عن المبادئ التي لا تلتقي مع لغة المصالح ، فكان ممّا عرضَهُ عليه المُلكَ و ما أدراكَ ما المُلك ! ، و الجاهَ وما أدراكَ ما الجاه ، و المالَ وما أدراكَ ما المال ، والنساءَ والجمال وما أدراكَ ما النساءَ والجمال ! ، فهل بدّل r أو غيّر ؟! ؛ حاشَا و أبعد ، فالمبادئُ مبادئُ لا تباعُ ولا تشترَى ، لأنّها سماويّةٌ ربّانيّة لا تقوّمُ بالتراب ! .
قال لهم رسول الله r:"ما بي ما تقولون،ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم،ولا الملك عليكم،ولكن الله بعثني إليكم رسولا،وأنزل علي كتابا،وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا،فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم،فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة،وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم"[2].
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب،إنه هو الغفور الرحيم . الخطبة الثانية:
معشر المؤمنين : إبراهيمُ عليه السلامِ و قد رماهُ قومُهُ بالمنجنيق على نارٍ عظيمةٍ يحترقُ فوقَها الطير يقول عليه السلامُ وهو بين السماءِ و الأرض : " حسبي الله و نعم الوكيل " . . قالها عليه السلام و كلُّهُ ثقةٌ في مبادئِهِ و القيمِ التي دَعَاهم إليها ، ما بدّل ولا غيّر . . ! .
أصحابُ الأخدود : قادَهُم أصحابُ المصالح و الشهوات في جريمةٍ نكراءَ إلى خنادِقَ أضرِمت فيها النيران ، قادوهم مع نسائهم وأطفالهم و شيوخِهم إلى الحريق بلا رحمة ، لا لشيءٍ إلاّ لأنهم آمنوا بالله جلّ وعلاَ ، لا لشيءٍ إلاّ لأنّهم قالوا ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعُوَ من دونه إلهًا مزعومًا كائنًا من كان في الحياة . .، عرضُوهم على الحريق وهم يقولون :" من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار " ، فاختاروا حريقَ الدنيا على نار الآخرة !
احترقُوا رضي الله عنهم ، وانتهت حياتُهُم الترابيّة و لكن ما انتهت مبادِئُهُم وحياتُهم الروحيّةُ السماويّة ! . أيها الإخوةُ في الله : سؤالٌ لا بُدّ من التفكّر في جوابِهِ حتّى يحصُل الاقتداءُ ويستقيمَ التأسّي : لماذا ثبتَ أهلُ المبادئِ والقيمِ عبر التاريخ أمامَ الشدائدِ والمغرياتِ والمكاسبِ الصغيرة ؟! السرُّ يا معشر الأحباب : في نفوسِ أصحابِ المبادئ و القيم و قلوبِهم . . !
نفوسُهُم ربانيةٌ كبيرةٌ عظيمة ، لا تستسلمُ للواقعِ الأليمِ ولا للأفقِ القاتِم ، نفوسٌ لا تنظر إلى الواقع بعيون الناس ، بل تَتّسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحدٌ ولا يعلمه ، نفوسٌ كأنما شمس اليوم الذي ستنتصرُ فيها مبادئُهُم قد أشرقت في قلوبِهم قبل أن تشرق في دنيا الناس بعد سنوات ، نفوسٌ تيقّنت أنّ ساعةً من الحُزنِ والألمِ لا يمكنُ أن يُحكَمَ بها على الزّمنِ كلّه ، وأن سحابةً من الغيمِ لا يمكنُ أن تطمُرَ النجمَ أو تُخفيَ الشمسَ عن السطوع . . !
السرُّ يا معشر الأحباب : في نفوسِ أصحابِ المبادئ و القيم و قلوبِهم . . !
نفوسٌ أسمَى من النجم ، عزَماتٌ أمضَى من السيف ، لا تشيبُ ولا تخيب ، أهدافُها أكبرُ من الشدائدِ و المُغرِياتِ و المكاسبِ الصغيرة ، لأنّها تنظُرُ بعينٍ نفسيّةٍ يقينيّةٍ إلى رضوانِ الله و الجنّةِ دارِ النعيم المقيم ، فكيفَ تلتفتُ إلى فتاتِ الموائِد ، و بقايَا و مخلّفاتِ الوحوشِ الإنسانيّة . . !
السرُّ يا معشر الأحباب : في نفوسِ أصحابِ المبادئ و القيم و قلوبِهم . . !
نفوسٌ قد تغتربُ عن الأهلِ والأحباب بالنفي والحبسِ و القيد ، ولكنّها لا يمكنُ أن تغتربَ عن الله أبدَ الآبِدِين ، سَعَةُ رحمةِ الله في قلوبِهم و اصطفاءُ اللهِ لهم يُنسيهم ضيقَ الحبسِ وألمَ الضربِ و مرارةَ الإهانة .. ! السرُّ يا معشر الأحباب : في نفوسِ أصحابِ المبادئ و القيم و قلوبِهم . . !
نفوسٌ لا تخافُ الموتَ أبدَ الآبدِين ! ؛ وكيفَ تخافُهُ وهو طريقُها إلى الجنّة ورضوان الله !، بل غيرُها يخافُ الموتَ و يخشاهُ لأنّهُ طريقُهُ إلى النارِ وغضبِ الجبّار . . !
نفوسٌ كهذه - معشر المؤمنين - لا يمكنُ طمسُ مبادئِها ، ولا إلغاؤُها وإلغاءُ قِيَمِهَا من التاريخِ ولو اجتمعَ على ذلك الثَّقَلَان ! ، فاثبُتُوا على المبادئ و إيّاكُم والتلوّن ، فإنّما هي ساعة ! ///// نسأل الله السلامة والعافية . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا
[1] - الصحيحة:(92)،قال الألباني:وأما حديث:"يا عم لو وضعوا الشمس في يميني..."فلم أورده هنا لضعفه على شهرته،وقد بينت ذلك في "الضعيفة"(913).

[2] - هذه الأحداث كاملة في سيرة ابن إسحاق:(1/183-184/ابن هشام).
المشاهدات 3339 | التعليقات 2

شيخ رشيد العيش في خطابك له مذاق آخر فصياغتك لها طعمها الحلو وبراعتها المتميزة تجذب القارئ وتسحر اللب وتغري المتصفح فلله درك نفع ربي لعلمك

ونود أن نسألك عن خطبك فخلال أسابيع لم نرها على المنتدى علما أننا نأخذها للعنصرة ثم تنشرها على الموقع


أخي العزيز زياد ؛ بارك الله فيك و في جميع إخواننا في الملتقى ، و الله هذا من حسن ظنّك و حسن تلقيّك و استقبالك لمواقع الكلام ، جزاك الله خيرًا على كلماتك الرائعة و حسن تحفيزك للإخوة في الجبهة والساقة . .
أما عن غيابي فأستحي أن أقول - وأنا الذي أكره الفشل - : أصابتني في الأسابيع الماضية خيبة أمل .. وانكسار . . و أسف . . على واقع الأمّة . . وعلمائها . . . و دعاتها . . . كادت تقضي على مشاركتي في الحياة العلمية والدعويّة ، وكدت والله أنقطع عن الكتابة المتواضعة و أكتفي بمسجدي وزملائي طلبة العلم في المسجد ، والانقطاع للتعبّد . . والحمد لله على كلّ حال .. !
أخي زياد : أحسّ أنّني تعافيت بعض الشيء . . و سأعود بإذن الله ولو في الساقة . .
ربّ يسّر و أعِن يامعين ياااااااااااااااااااااااااااااااا رب !