صدقة الماء في الحر-24-10-1437ه-إبراهيم الحقيل-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1437/10/24 - 2016/07/29 03:13AM
[align=justify]
أَمَّا بَعْدُ: فَخُذُوا مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا عِبْرَةً لِحَرِّ الْآخِرَةِ، وَمِنْ عَطَشِهَا تَذْكِرَةً لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ شَمْسِهَا عِظَةً لِشَمْسِ المَوْقِفِ الْعَظِيمِ، حِينَ تَدْنُو مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ قَدْرَ مِيلٍ، فَاعْمَلُوا عَلَى نَجَاتِكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قَرِيبًا*يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ*وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ*وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا].
عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ تَعْظُمُ قِيمَةُ المَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَلَذَّ مِنَ المَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ؛ وَلِذَا بشرَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-أُمَّتَهُ المتبعينَ لسنتهِ بِالشُّرْبِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ مِنْ حَوْضِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: "...مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ-أكوابُه-كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا".
وَفِي الْجَنَّةِ [أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ]، أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ، لَاَ بِوَخَمٍ وَلَا بِرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، وَلَا بِمَرَارَةٍ، وَلَا بِكُدُورَةٍ، بَلْ هُوَ أَعْذَبُ المِيَاهِ وَأَصْفَاهَا، وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، وَأَلَذُّهَا شُرْبًا.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعَثَ الْخَلِيلُ-عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ-بِرِسَالَةٍ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهَا-عَلَيْهِ وآله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ...".
وَمِنْ حُجَجِ إِبْرَاهِيمَ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-فِي إِفْرَادِ اللهِ-تَعَالَى-بِالْعِبَادَةِ: [وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ].
وَدَعَا الْخَلِيلُ-عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ- لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ فِي المَاءِ.
وَشَرَطَتْ هَاجَرُ-عَلَيْهَا الصلاة والسَّلَامُ-عَلَى جُرْهُمَ لمَّا سَاكَنُوهَا أَنْ لَا حَقَّ لَهُم فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَمْزَمَ نَبَعَتْ بِسَبَبِهَا وَوَلَدِهَا.
فَلَوْلَا أَهَمِّيَّةُ شُرْبِ المَاءِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَذَّتُهُمْ بِهِ حَالَ الْعَطَشِ؛ لَمَا ذَكَرَ اللهُ-تَعَالَى-أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَوَصَفَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ فِي وَصِيَّتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَلَمَا دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُبَارَكَ فِي مَائِهِمْ، وَلَمَا شَرَطَتْ هَاجَرُ أَنَّ المَاءَ لَهَا، وَلَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-أَوْصَافَ حَوْضِهِ فِي المَوْقِفِ الْعَظِيمِ؛ وَلَمَا خُصَّ الصَّائِمُونَ الظَّامِئُونَ بِبَابِ الرَّيَّانِ فِي الْجَنَّةِ.
وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ-تَعَالَى-، وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ وهو الماءُ الزائدُ عن الحاجةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ، قالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ، يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ..."، وَفِي رِوَايَةٍ: "...وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".
وَمَنْعُ المَاءِ عَنِ الْحَيَوَانِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ إِثْمُهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْ عَنْهَا المَاءَ وَالطَّعَامَ حَتَّى مَاتَتْ، فَكَيْفَ إِذَنْ بِحَبْسِ المَاءِ عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَكَيْفَ بِحَبْسِهِ عَنِ المُؤْمِنِ؟! وَمَا أَعْظَمَ إِجْرَامَ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَ سِلَاحَ المِيَاهِ وَالْغِذَاءِ فِي الْحُرُوبِ، فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ مُدُنٍ وَقُرًى يَمُوتُ أَطْفَالُهَا وَنِسَاؤُهَا عَطَشًا وَجُوعًا!.
إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، رُويَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ-أحبُ- إِلَيْكَ؟ قَالَ: "الْمَاءُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ".
وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.
وجَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَ: "إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِأَهْلِي، وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ"، وقالَ: "مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...".
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ-رَحِمَهُ اللهُ-تَعَالَى-: "سَقْيُ المَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ-تَعَالَى-، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ المَاءِ".
وَقَدْ أخبر النبيُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-أنَّ اللهَ غَفِرَ لِبَغِيٍّ-لزانيةٍ-بِكَلْبٍ سَقَتْهُ مَاءً.
وقد سألَ رَجُلٌ عبدَ اللهِ بنَ المباركَ-وهو أحدُ العلماءِ الكبارِ-فقالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُها بِأَنْواعِ الْعِلَاجِاتِ فلمْ تنفعني، قَالَ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفِرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكَ عَنْكَ الدَّمُ"، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَقْيِ المَاءِ إِلَّا قَوْلُ اللهَ-عَزَّ وَجَلَّ-يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "...يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي".
أَسْتَغْفِرُ اللهَ....
أما بعدُ: فصَدَقَةُ المَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَسَقْيُ الْعَطْشَانِ أَفضلُ مِنْ بالتصدقِ بالمَالِ، سَوَاءً كَانَ الْعَطْشَانُ إِنْسَانًا أَمْ حَيَوانًا أَمْ طَائِرًا، وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّ نَفْعَهُ كَبِيرٌ، وَأَثَرَهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "...إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ".
فَكَيْفَ بِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهَا بِئْرٌ سِوَاهَا، فَيَشْرَبُ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيَطْبَخُونَ طَعَامَهُمْ، وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ بِمَائِهَا!
وَكَيْفَ بِمَنْ أَوْقَفَ بَرَّادَةَ مَاءٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا شَرِبَ مِنْهَا، وَيَجْرِي أَجْرُهَا مَا جَرَى مَاؤُهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا!
وَيَشْتَرِكُ السُّكَّانُ فِي عِمَارَةٍ وَاحِدَةٍ في خَزانٍ واحدٍ، فَإِذَا نَفِدَ مَاؤُهُمْ احتسبَ أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى مَاءً فَأَفْرَغَهَ فِي خَزَّانِهِمْ، فَدَخَلَتْ صَدَقَتُهُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَحَلِيبِ أَطْفَالِهِمْ، وَيَغْتَسِلُ مِنْهَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ، وَيَتَوَضَّؤونَ مِنْهَا لِصَلَاتِهِمْ، فَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَالٍ زَهِيدٍ يَبْذُلُهُ؟!
وَوَضْعُ المِيَاهِ لِلطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ فِيهِ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا.
وَسُبُلُ بَذْلِ المَاءِ كَثِيرَةٌ، وَطُرُقُ السُّقْيَا عَدِيدَةٌ، وَالْحَاجَةُ لِلْمَاءِ مُلِحَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَتَتَوَافَرُ أَسْبَابُ السُّقْيَا وَتَتَعَدَّدُ طُرُقُهَا، فَلَا يَحْسُنُ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يُحْرَمَ كُلَّ سُبُلِهَا وَطُرُقِهَا، وَمَنْ ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا حَازَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَمَعَ أَجْرًا عَظِيمًا، [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
[/align]
أَمَّا بَعْدُ: فَخُذُوا مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا عِبْرَةً لِحَرِّ الْآخِرَةِ، وَمِنْ عَطَشِهَا تَذْكِرَةً لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ شَمْسِهَا عِظَةً لِشَمْسِ المَوْقِفِ الْعَظِيمِ، حِينَ تَدْنُو مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ قَدْرَ مِيلٍ، فَاعْمَلُوا عَلَى نَجَاتِكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَقَدِّمُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قَرِيبًا*يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ*وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ*وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا].
عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ تَعْظُمُ قِيمَةُ المَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَلَذَّ مِنَ المَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ؛ وَلِذَا بشرَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-أُمَّتَهُ المتبعينَ لسنتهِ بِالشُّرْبِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ مِنْ حَوْضِهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: "...مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ-أكوابُه-كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا".
وَفِي الْجَنَّةِ [أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ]، أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ، لَاَ بِوَخَمٍ وَلَا بِرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، وَلَا بِمَرَارَةٍ، وَلَا بِكُدُورَةٍ، بَلْ هُوَ أَعْذَبُ المِيَاهِ وَأَصْفَاهَا، وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، وَأَلَذُّهَا شُرْبًا.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بَعَثَ الْخَلِيلُ-عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ-بِرِسَالَةٍ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهَا-عَلَيْهِ وآله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ...".
وَمِنْ حُجَجِ إِبْرَاهِيمَ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-فِي إِفْرَادِ اللهِ-تَعَالَى-بِالْعِبَادَةِ: [وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ].
وَدَعَا الْخَلِيلُ-عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ- لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ فِي المَاءِ.
وَشَرَطَتْ هَاجَرُ-عَلَيْهَا الصلاة والسَّلَامُ-عَلَى جُرْهُمَ لمَّا سَاكَنُوهَا أَنْ لَا حَقَّ لَهُم فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَمْزَمَ نَبَعَتْ بِسَبَبِهَا وَوَلَدِهَا.
فَلَوْلَا أَهَمِّيَّةُ شُرْبِ المَاءِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَذَّتُهُمْ بِهِ حَالَ الْعَطَشِ؛ لَمَا ذَكَرَ اللهُ-تَعَالَى-أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَوَصَفَهَا؛ وَلَمَا ذَكَرَهَا الْخَلِيلُ فِي وَصِيَّتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ وَلَمَا دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُبَارَكَ فِي مَائِهِمْ، وَلَمَا شَرَطَتْ هَاجَرُ أَنَّ المَاءَ لَهَا، وَلَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-أَوْصَافَ حَوْضِهِ فِي المَوْقِفِ الْعَظِيمِ؛ وَلَمَا خُصَّ الصَّائِمُونَ الظَّامِئُونَ بِبَابِ الرَّيَّانِ فِي الْجَنَّةِ.
وَإِذَا عَظُمَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لِشَيْءٍ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ أَنْفَعَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْقُرَبِ عِنْدَ اللهِ-تَعَالَى-، وَالمَاءُ أَهَمُّ شَيْءٍ لِبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بَعْدَ الْهَوَاءِ، فَكَانَ فِي بَذْلِهِ إِحْيَاءٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي مَنْعِهِ عَنْهُمْ هَلَاكًا لَهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَذْلُ الْمَاءِ، وَكَانَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ مَنْعُ فَضْلِ المَاءِ وهو الماءُ الزائدُ عن الحاجةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ، قالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ، يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ..."، وَفِي رِوَايَةٍ: "...وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".
وَمَنْعُ المَاءِ عَنِ الْحَيَوَانِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ إِثْمُهُ عَظِيمٌ، وَقَدْ دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْ عَنْهَا المَاءَ وَالطَّعَامَ حَتَّى مَاتَتْ، فَكَيْفَ إِذَنْ بِحَبْسِ المَاءِ عَنِ الْإِنْسَانِ؟ وَكَيْفَ بِحَبْسِهِ عَنِ المُؤْمِنِ؟! وَمَا أَعْظَمَ إِجْرَامَ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَ سِلَاحَ المِيَاهِ وَالْغِذَاءِ فِي الْحُرُوبِ، فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ مُدُنٍ وَقُرًى يَمُوتُ أَطْفَالُهَا وَنِسَاؤُهَا عَطَشًا وَجُوعًا!.
إِنَّ سَقْيَ الْعَطْشَانِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ، وَصَدَقَةَ المَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ، رُويَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ-أحبُ- إِلَيْكَ؟ قَالَ: "الْمَاءُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ".
وَكَانَتْ بِئْرُ رُومَةَ لِيَهُودِيٍّ يَبِيعُ مَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، كُلَّ قِرْبَةٍ بِدِرْهَمٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يشْتَرِي رُومَةَ فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَوْقَفَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ.
وجَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَ: "إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِأَهْلِي، وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ"، وقالَ: "مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...".
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ-رَحِمَهُ اللهُ-تَعَالَى-: "سَقْيُ المَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ-تَعَالَى-، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ المَاءِ".
وَقَدْ أخبر النبيُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-أنَّ اللهَ غَفِرَ لِبَغِيٍّ-لزانيةٍ-بِكَلْبٍ سَقَتْهُ مَاءً.
وقد سألَ رَجُلٌ عبدَ اللهِ بنَ المباركَ-وهو أحدُ العلماءِ الكبارِ-فقالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قُرْحَةٌ خَرَجَتْ فِي رُكْبَتِي مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ عَالَجْتُها بِأَنْواعِ الْعِلَاجِاتِ فلمْ تنفعني، قَالَ: "اذْهَبْ فَانْظُرْ مَوْضِعًا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْمَاءِ فاحْفِرْ هُنَاكَ بِئْرًا، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَنْبُعَ هُنَاكَ عَيْنٌ، وَيُمْسِكَ عَنْكَ الدَّمُ"، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَقْيِ المَاءِ إِلَّا قَوْلُ اللهَ-عَزَّ وَجَلَّ-يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "...يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي".
أَسْتَغْفِرُ اللهَ....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
فَكَيْفَ بِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهَا بِئْرٌ سِوَاهَا، فَيَشْرَبُ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيَطْبَخُونَ طَعَامَهُمْ، وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ بِمَائِهَا!
وَكَيْفَ بِمَنْ أَوْقَفَ بَرَّادَةَ مَاءٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ طَرِيقٍ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا شَرِبَ مِنْهَا، وَيَجْرِي أَجْرُهَا مَا جَرَى مَاؤُهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا!
وَيَشْتَرِكُ السُّكَّانُ فِي عِمَارَةٍ وَاحِدَةٍ في خَزانٍ واحدٍ، فَإِذَا نَفِدَ مَاؤُهُمْ احتسبَ أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى مَاءً فَأَفْرَغَهَ فِي خَزَّانِهِمْ، فَدَخَلَتْ صَدَقَتُهُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَحَلِيبِ أَطْفَالِهِمْ، وَيَغْتَسِلُ مِنْهَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ، وَيَتَوَضَّؤونَ مِنْهَا لِصَلَاتِهِمْ، فَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَالٍ زَهِيدٍ يَبْذُلُهُ؟!
وَوَضْعُ المِيَاهِ لِلطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّالَّةِ فِيهِ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا.
وَسُبُلُ بَذْلِ المَاءِ كَثِيرَةٌ، وَطُرُقُ السُّقْيَا عَدِيدَةٌ، وَالْحَاجَةُ لِلْمَاءِ مُلِحَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَتَتَوَافَرُ أَسْبَابُ السُّقْيَا وَتَتَعَدَّدُ طُرُقُهَا، فَلَا يَحْسُنُ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يُحْرَمَ كُلَّ سُبُلِهَا وَطُرُقِهَا، وَمَنْ ضَرَبَ بِسَهْمٍ فِي كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا حَازَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَمَعَ أَجْرًا عَظِيمًا، [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
[/align]
المرفقات
1106.doc
صدقة الماء في الحر-24-10-1437ه-إبراهيم الحقيل-الملتقى-بتصرف.docx
صدقة الماء في الحر-24-10-1437ه-إبراهيم الحقيل-الملتقى-بتصرف.docx
صدقة الماء في الحر-24-10-1437ه-إبراهيم الحقيل-الملتقى-بتصرف.pdf
صدقة الماء في الحر-24-10-1437ه-إبراهيم الحقيل-الملتقى-بتصرف.pdf