صدقة الشتاء-2-6-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
صدقة الشتاء-2-6-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
رأى رَجلٌ في الشَّامِ رؤيا عجيبةً في المنامِ، فجهَّزَ لها متاعَه ودابتَه، ثُمَّ انطلقَ إلى المدينةِ النَّبويةِ، يسيرُ الليلَ والنَّهارَ، ويقطعُ الفَيافيَ والقِفارَ، فلما بَلغَ المدينةَ قالَ للنَّاسِ: دُلُّوني على صفوانَ بنِ سُليمٍ، فقِيلَ له: وما حاجتُكَ بصفوانَ بنِ سُليمٍ؟ قالَ: رأيتُه في المنامِ وقد دَخلَ الجَنَّةَ، فقيلَ له: بأيِّ شيءٍ؟ قالَ: بقَميصٍ كَساهُ إنسانًا، فَسُئِلَ صَفوانُ-رحمَه اللهُ-عنِ القَميصِ، فقَالَ: "خرجتُ من المسجدِ في ليلةٍ بارِدةٍ فإذا رجُلٌ عُريانٌ، فنزعتُ قَميصي فكسوتُه".
وصفوانُ بنُ سُليمَ-رحمَهُ اللهُ تعالى-كانَ من رواةِ الحديثِ الثِقاتِ، ومن العُبَّادِ الصَّالحينَ، قالَ عنه أَنَسُ ابْنُ عِيَاضٍ-رحمَهُ اللهُ تعالى-: "رَأَيْتُ صَفْوَانَ ابْنَ سُلَيْمٍ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: غَدًا الْقِيَامَةُ، مَا كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ"، وصلَ في عبادتِهِ إلى درجةٍ لا يستطيعُ الزيادةَ عليها.
كَانَ يُصَلِّي عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ لِئَلَّا يَجِيئَهُ النَّوْمُ، قَالَ سُفْيَانُ-رحمَهُ اللهُ تعالى-: "أَخْبَرَنِي الْحَفَّارُ الَّذِي يَحْفِرُ قُبُورَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: حَفَرْتُ قَبْرَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَنَا قَدْ وَقَعْتُ عَلَى قَبْرٍ فَوَافَيْتُ-لقيتُ-جُمْجُمَةً، فَإِذَا السُّجُودُ قَدْ أَثَّرَ فِي عِظَامِ الْجُمْجُمَةِ، فَقُلْتُ لِإِنْسَانٍ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَوَ مَا تَدْرِي؟ هَذَا قَبْرُ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ".
ومع علمِ صَفوانَ وعبادتِهِ وزُهدِهِ وصلاحِهِ وعملِهِ، فما هو السِّرُ في رؤيةِ دخولِه الجنَّةِ بسببِ ثوبٍ واحدٍ كساهُ عُريانَ في ليلةٍ باردةٍ؟
تأملوا معي هذه الأسبابَ التي قد تكونُ دفعتْ صفوانَ لهذا الفعلِ فبلغَتْ به هذه المنزلةَ:
السببُ الأولُ: أنَّ بذلَ الـمالِ وهو المحبوبُ للنَّفسِ البشريةِ، لا يـُمكنُ أن يكونَ إلا لِـمَا هو أحبُّ إليها منهُ، فلا يبذلُه في سبيلِ اللهِ-تعالى-إلا من تحقَّقَ فيهِ قولُه-سبحانه-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) من كلِّ شيءٍ، حتى من المالِ، ولا يبذلُه إلا مَنْ كانَ خائفًا من يومٍ ليسَ للإنسانِ فيه إلا ما سعى، استجابةً لقولِه-عزَّ وجلَّ-: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).
السببُ الثَّاني: أنَّ العبادةَ إذا كانتْ مُتعديَّةً-نفعُها لغيرِ صاحِبِها-، فإنَّها من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ-تعالى-، كما في حديثِ ابْنِ عُمَرَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ؟ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا"، فما هو شعورُ ذلكَ المسلمِ، وهو يَكتسي بعدَ العُريِّ، ويشعرُ بالدِّفءِ بعدَ البردِ، خاصةً بعدما آثرهُ صفوانُ بثوبِه في تلكَ الليلةِ الباردةِ؟ فأيُّ سُرورٍ أدخلَه صفوانُ على قلبِه، وأيُّ سعادةٍ مَلأَ بِها حياتَه، وما هو الدُّعاءُ الذي دعا به لصفوانَ؟!
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فالسببُ الثَّالثُ: هو المعنى العظيمُ الذي يُحِسُ بِهِ المُتصدِّقُ في قولِه-تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ثُمَّ يرى أخاهُ في موقفِ الحاجةِ مع قدرتِه على العَطاءِ، فيُعطيه عطاءَ الأخِ لا عطاءَ الفُقراءِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، فكيفَ يذوقُ الإنسانُ طعمَ الرَّاحةِ ولذةَ النَّومِ، وأحدُ أعضائهِ مكشوفٌ في البَردِ.
وهكذا المؤمنُ يتعاطفُ ويرحمُ إخوانَه المؤمنينَ، فإذا جلستَ أنت وأبناؤُك على مائدةِ العشاءِ السَّاخنِ في الليلةِ الباردةِ، قد آواكم بيتٌ دَافئٌ، وفِراشٌ ناعمٌ، فتذكَّرْ أنَّ لكَ إخوانًا أُخرجوا من بيوتِهم قَهرًا، فهم نُزلاءُ الخيامِ دَهرًا، لباسُهم العَراءُ، ولِحافُهم السَّماءُ، فَرُّوا من موتِ السَّلاحِ والحروبِ، فقتلَهم البردُ في الملاجِئ والدُّروبِ، ومنهم من هو بينَنَا لا نَفطنُ لهُ، فهم بينَ بردِ الشِّتاءِ والجوعِ، وبينَ الأحزانِ والدُّموعِ، ينظرُ إلى زوجتِه وأبنائِهِ وهم يشتكونَ، ولا يملكُ إلا دعاءَ خالقِ الكونِ، لِسانُ حالِ أحدِهم يقولُ:
أَتـدري كيـفَ قَابلنـي الشِّتاءُ*
وكيفَ يكونُ فيهِ الابتلاءُ
وكيفَ البردُ يفعلُ بالثَّنايا*
إذا اصطكَّتْ وجاوبَها الفَضاءُ
وكيف نبيتُ فيه على فراشٍ*
يجورُ عليه في الليلِ الغِطاءُ
أَتدري كيفَ جارُك يا بنَ ديني*
يهدِّدُه من الفَقـرِ العَناءُ
وكيفَ يداه تَرْتـَجِفانِ بُؤسًا*
وتَصْدِمُهُ الـمذلةُ والشقاءُ
يَصبُّ الزَّمهريرُ عليـه ثَلجًا*
فتَجْمُدُ فـي الشَّـرايينِ الدِّماءُ
خِرافُ الأرضِ يَكسوهُنَّ عِهنٌ*
وتَرفلُ تحتَـه نَعـمٌ وشَـاءُ
وللنَّملِ المساكنُ حيـنَ يَأتـي*
عليـهِ البردُ أو جَنَّ المسـاءُ
وهذا الآدمـيُ بغيرِ دَارٍ*
فهل تَرضى بما فعلَ الشِّتاءُ
يجوبُ الأرضَ مِنْ حَيٍّ لحيٍّ*
ولا أرضٌ تَـقيهِ ولا سَـماءُ
أَتلقاني وبي عَوزٌ وضِـيقٌ*
ولا تَحـنو؟ فما هذا الجفاءُ
أخـي باللهِ لا تجـرحْ شُعــوري*
ألا يكفيـكَ مـا جـرحَ الشــتـاءُ
اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.
اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ.
اللَّهُمَّ الطفْ بإخوانِنِا المستضعفينَ في غزةَ وبلادِ الشامِ، وغيرِها من بلادِ المسلمينَ، الطفْ بهم على كلِ حالٍ، وبلغهم من الفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ كن لهم ناصرًا ومعينًا يا ربَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ اكشف عنهم البلاءَ، واجعل لهم مَخرجًا، اللهمَّ أمِّنْ خائِفَهم، وأطعمْ جائعَهم، واسقِ ظامِئهم، وَاكْسُ عاريَهم، واشفِ مريضَهم، ورُدَّ غائبَهم، وفَرِّجْ همَّهم، ويسِّرْ أمرَهم.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، واجعلْ أَمرَهم لِنَصرِ دِينِكَ، ولإعلاءِ كَلمتِكَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى.
اللَّهُمَّ أصلحْ لنا وللمسلمينَ الدِّينَ والدُنيا والآخرةَ، واجعلِ الحياةَ زيادةً في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً منْ كلِّ شرٍ.
اللَّهُمَّ اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ.
اللَّهُمَّ يا شافي اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ والـمسالـمينَ.
اللَّهُمَّ اِكْفِنَا والمسلمينَ بحلالِكَ عن حرامِكَ، وأَغْنِنـَا بفضلِكَ عَمَّنْ سِواكَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ ورَحْـمَتِكَ فإنَّهُ لا يـَمْلِكُها إلا أنتَ.
اللَّهُمَّ اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه.
اللَّهُمَّ أنتَ حسبُنا ونِعْمَ الوكيلُ، عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ وعليكَ بالظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم.
اللَّهُمَّ إِنَّا والمسلمينَ مَغْلُوبُونَ مُسْتَضْعَفُونَ فانتصرْ لنا يا قويُ يا عزيزُ.
اللَّهُمَّ انصرْ المسلمينَ وجنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1702559784_صدقة الشتاء-2-6-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1702559784_صدقة الشتاء-2-6-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf