صدقات البدن 1445/7/14ه

يوسف العوض
1445/07/13 - 2024/01/25 13:46PM
الخطبة الأولى
  عباد الله : يقول صلى الله عليه وسلم :" كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ علَى دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ".
عباد الله:جَعَلَ اللهُ كُلَّ أنواعِ الخَيرِ الذي يَبذُلُه الإنسانُ في حَقِّ نَفْسِه بالعِبادةِ، وفي حَقِّ غَيرِه بالمَعروفِ: مِن صَدَقاتِ البَدَنِ وما يَتمتَّعُ به مِنَ الصِّحَّةِ والعافيةِ. وفي هذا الحَديثِ يَذكُرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه على كُلِّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ صَدَقةٌ، في كُلِّ يَومٍ تَطلُعُ عليه الشَّمسُ، والسُّلامَى: هي المَفاصِلُ، فكُلُّ مَفْصِلٍ مِن مَفاصِلِ الإنسانِ عليه صَدَقةٌ للهِ تعالَى، مِن فِعلِ الطَّاعةِ والخَيرِ كُلَّ يَومٍ، وهذه الصَّدَقةُ تَكونُ بتَحَرُّكِها في الطَّاعةِ، واشتِغالِها بالعِبادةِ، فتَركيبُ هذه العِظامِ ومَفاصِلِها مِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على عَبْدِه، فيَحتاجُ كُلُّ عَظمٍ منها إلى صَدَقةٍ يَتصَدَّقُ بها ابنُ آدَمَ عنه؛ لِيَكونَ ذلك شُكرًا لِهذه النِّعمةِ، والمُرادُ صَدَقةُ نَدْبٍ وتَرغيبٍ، لا إيجابٍ وإلزامٍ؛ فإنَّه يَكفي في شُكرِ هذه النِّعَمِ أنْ يَأتيَ بالواجِباتِ، ويَجتَنِبَ المُحَرَّماتِ. ثمَّ أرشَدَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِبَعضِ وُجوهِ الطَّاعاتِ التي يَتصَدَّقُ بها الإنسانُ عَن مَفاصِلِه، فذَكَرَ أنَّ العَدْلَ بيْنَ اثنَيْنِ -صُلْحًا أو حُكمًا- يَكونُ صَدَقةً، والصُّلحُ خَيرٌ، لكِنْ إنْ عُلِمَ أنَّ الحَقَّ لِأحَدِهما فلا مَيْلَ عنه. ومنها: أنْ يُعينَ أخاه على رُكوبِ دابَّتِه وغَيرِها مِن وَسائِلِ النَّقلِ إنْ لم يَستَطِعِ الرُّكوبَ بنَفْسِه، أو يُعينَه بوَضعِ مَتاعِه عليها، فتلك صَدَقةٌ، والمَتاعُ هو: ما يُتمَتَّعُ به في السَّفَرِ مِن طَعامٍ وشَرابٍ وغَيرِهما، والمُرادُ بالأُخُوَّةِ هنا الدِّينيَّةُ لا النَّسَبيَّةُ؛ فالمُسلِمُ أخو المُسلِمِ، يَرجو له مِنَ الخَيرِ ما يَرجوه لِنَفسِه، فيَبذُلُ المُسلِمونَ بَعضُهم لِبَعضٍ كُلَّ أنواعِ المَعروفِ. ومِنَ الصَّدَقاتِ أيضًا: الكَلِمةُ الطَّيِّبةُ، سَواءٌ كانت طَيِّبةً في حَقِّ اللهِ تعالَى، كالتَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّهليلِ، أو في حَقِّ النَّاسِ، كحُسنِ الخُلُقِ؛ فإنَّها صَدَقةٌ. ومنها أيضًا: كُلُّ خُطوةٍ يَمشيها العَبدُ إلى الصَّلاةِ، سواءٌ بَعُدَتِ المَسافةُ أو قَصُرتْ. ومِنَ الصَّدَقاتِ: مَحوُ الأذى وإزالتُه عنِ الطَّريقِ، وهو كُلُّ ما يُؤذي المارَّةَ، فإذا أُميطَ عن طَريقِهم فإنَّه صَدَقةٌ. عباد الله :وفي حَديثِ مُسلِمٍ الذي يَرويه أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ويُجزِئُ مِن ذلك رَكعَتانِ يَركَعُهما مِنَ الضُّحى»، أي: يَكفي مِمَّا وَجَبَ على السُّلامَى مِنَ الصَّدَقاتِ صَلاةُ الضُّحَى، رَكعَتانِ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ عَمَلٌ بجَميعِ أعضاءِ البَدَنِ، وتَشمَلُ جَميعَ ما ذُكِرَ مِنَ الصَّدَقاتِ وغَيرِها.   الخطبة الثانية
عباد الله: ومن تأمل في قوله عليه الصلاة والسلام "والكلمة الطيبة صدقة" تيقن بالأثر! فما أحوجنا إلى الكلمة الطيبة مع المذنِبين المخطِئين، (إنَّ الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زَانَه، ولا يُنزَع من شيء إلا شَانَه) هكذا قال المعلِّم الرحيم ﷺ، لقد وسِع بكلمته الطيبة وقلبه الرحيم كلَّ مَن أخطأ، فعندما أُتي بالرَّجل الذي شرب الخمر فقال رجلٌ مِن القومِ: اللهم الْعَنْهُ، ما أكثرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فقال النبي ﷺ: (لا تَلعنُوه؛ فوالله ما عَلمتُ إلا أنه يُحبُّ اللهَ ورسوله) وحين غضب أصحابه ممَّن جاء يستأذن في الزِّنا؛ عالج مشكلته بكلماتٍ طيِّباتٍ ولمسةٍ حانيةٍ، فقام ذلك الرَّجل والزِّنا أبغض شيءٍ إلى قلبه وقال لأهل مكَّة بعد الفتح: (مَن أَغلقَ عليه بابَهُ فهو آمِنٌ، ومَن دخلَ المسجد فهو آمِنٌ، ومَن دخل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ) هذه الكلمة الطيبة صنعت الأعاجيب، وجعلت الناس يدخلون في دِين الله أفواجًا. عباد الله: كلمات طيبة غزت قلوبًا وحولت أصحابها إلى علماء فضلاء نفع الله بهم الأمة، قال ﷺ في عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: (نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يُصلي من الليل)، فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. وقال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: «كنتُ عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي ﷺ، فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جَمع هذا الكتاب؛ يعني: كتاب الجامع وقال الإمام الذَّهبي عن شيخه علَم الدين البرزالي: «وكان هو [أي: علم الدين البرزالي] الذي حبَّب إليَّ طلَبَ الحديث؛ فإنَّه رأى خطِّي فقال: خطك يشبه خطَّ المحدِّثين، فأثَّر قوله فيَّ، وسمعتُ» ومثل هذا كثير في تاريخ الأمة كلمات حوّلت أشخاصًا من حال إلى حال صاروا سادة وقادة للأمة.
المشاهدات 1137 | التعليقات 0