صُحْبَةُ الخِلّانِ 1443/10/12 هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أيّها المسلمون: يمرُّ علينا كلَّ جمعة ونحن نقرأُ في سورة الكهف هاتان الآيتان الكريمتان حيث قال ربي سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أمرانِ مهمانِ ينفعانِ المرءَ في دنياهُ وأخراهُ ، عشنا معَ الأولِ في رحابِ شهرِ رمضانَ وهوَ تلاوةُ آي القرآنِ الكريمِ والثاني نقفُ معهُ هذا اليومَ وقدْ حثَّ عليهِ القرآنُ كما سمعنا في آياتِ سورةِ الكهفِ الآنفةِ الذكرِ وهو صحبةُ الصالحين.
أيّها المسلمون: الصاحبُ الخيّرُ يمثلُ الخيرَ ويتمثلُ بهِ ويسعى لنشرِ الفضيلةِ ويتميزُ بها ، والصاحبُ السيئُ يمثلُ الشرَّ ويتمثلُ بهِ ويسعى للإفسادِ ويتمثلُ بهِ ، ولقدْ مثلَ النبيُ لهذهِ الحقيقةِ تمثيلاً رائعاً بليغاً ، وذلكَ فيما رواهُ الشيخانِ أنّهُ قالَ : " إنما مثلُ الجليسُ الصالحُ وجليسُ السوءِ : كحاملِ المسك ، ونافخِ الكيرِ ، فحاملُ المسكِ إما أنَ يحذيكَ ، وإما أنْ تبتاعَ منهُ ، وإما أنْ تجدَ منهُ ريحاً طيبةً ، ونافخُ الكيرِ إما أنْ يحرقَ ثيابكَ ، وإما أنْ تجدَ منهُ ريحاً منتنةً " ، فحاملُ المسكِ إنَ جالستهُ وتقربتَ منهُ ، إما أنَ يحذيكَ - أيْ يعطيكَ شيئا مما معهُ منَ المسكِ ، أوْ يطيبكَ ، فإنَ لمْ يكنْ هذا ولا ذاكَ فحسبكَ أنكَ لنْ تجدَ منهُ إلا ريحاً طيبةً ، فلنْ تعدمَ خيرا في الأحوالِ الثلاثةِ ، وأما عندما تجالسُ نافخَ الكيرِ – ونافخُ الكيرِ الحدادُ الذي ينفخُ في البوقِ ليؤججَ النّارَ ليلينَ الحديدُ ، إمّا أنْ يحرقَ ثيابكَ ، أوْ تطيرَ عليكَ شرارةٌ منهُ ، وإما أنْ تجدَ منهُ ريحةً منتنةً ، فلنْ تعدمَ الشرَّ والأذى في كلِ حالٍ .
أيّها المسلمون: وهذا الوصفُ الدقيقُ ينطبقُ على الصديقِ الصالحِ والصديقِ السيئِ ، فمنْ يجالسُ الصديقَ الصالحَ فهوَ كمنَ يجالسُ حاملَ المسكِ ، ومنْ يجالسُ صديقَ السوءِ ، كمنَ يجالسُ نافخَ الكيرِ ، وكم وكمٍ للصحبةِ منْ أثرٍ في توجيهِ سلوكِ الإنسانِ إمّا إلى الخيرِ وإما إلى الشرِّ ، وبالتالي فإنَّ لاختيارِ الصاحبِ في الدنيا دوراً هاماً في تحديدِ المصيرِ يومَ القيامةِ ، لأنَّ الصاحبَ الصالحَ يبصّركَ بعيوبكَ ، وينصحكَ إنْ أخطأتَ ، لا يجاملُكَ بمنكرٍ وقعتَ فيهِ ، يحفظُ عرضَكَ ويكفُ ألسنةَ الناسِ أنْ تنالَ منكَ ، الصاحبُ الصالحُ أنسٌ لكَ في الرخاءِ ، وعدةٌ لكَ في الشدّةِ والبلاءِ ، ثمَ بعدَ الموتِ سيبقى ذخرا لكَ بالدعاءِ .
أيّها المسلمون: وأمّا خلّانُ السوءِ فمنْ دأبِهم التبخيسُ بالهمّةِ ، والسخريةُ منَ العبادةِ ، والتثبيطُ منْ العزيمةِ ، يجذبونَ جليسَهم إلى مجالسَ لا تقومُ على شيءٍ مما يُرضي اللهَ عزَ وجلَ ؛ مجالسُ تُلبي الشهواتِ الآسنةَ، وتُسعدُ النّفسَ الأمّارةَ ، ثمَّ بعدَ ذلكَ تأتي العاقبةُ ، حزنٌ وندامةٌ ، وكمْ منْ إنسانٍ كانَ متجهاً بكليتهِ إلى ما يرضي اللهَ عزَ وجلَ ، يمضي نحوَ أهلِ الصلاحِ ومجالسِهم ، ويقومُ على نشرِ الفضيلةِ والإصلاحِ ما استطاعَ إلى ذلكَ سبيلاً ، لكنّه لمّا ركنَ إلى خلّانِ السوءِ انجذبَ إليهم ، وحجزوهُ عنِ السبيلِ الذي كانَ يمضي إليهِ ، وتحولتْ دفتُهُ منْ أقصى اليمينِ إلى أقصى اليسارِ وطاشتْ بوصلتهُ منْ أقصى الشمالِ إلى أقصى الجنوبِ فكانَ منَ الخاسرينَ .
أيّها المسلمون: وكمْ منْ إنسانٍ كانَ تائهاً في مجالسِ الخنا والشرودِ ، ثمَّ إنَّ صحبةً صالحةً انتشلتهُ مما هوَ فيهِ ، فتحوّلَ إلى محرابِ العبوديةِ للهِ ، حيثُ وجدَ عزّهُ وأنسهُ وسلواهُ معَ الذينَ يدعونَ ربهمْ بالغداةِ والعشيِ يريدونَ وجههُ ، فارتقى إلى مصافِ الصالحينَ في الدنيا والفالحينَ في الآخرةِ .
أيّها المسلمون: وإذا علمنا ما تنتجهُ الصحبةُ الصالحةُ والصحبةُ الفاسدةُ في الدنيا ، فتعالوا أحدثكمْ عنْ أثرِ كلٍ منْ الخُلّةِ الصالحةِ والخُلّةِ الفاسدةِ على مصيرِ الإنسانِ يومَ القيامةِ ، لوْ تمعنّا في كتابِ اللهِ عزَ وجلَ لوجدتمْ العديدَ منْ المشاهدِ التي توضحُ مصيرَ أناسٍ ذهبوا ضحيةَ صحبةِ سوءٍ في الدنيا ، انقطعوا عنْ السجودِ للهِ بعدَ أنْ ذاقوا لذتهُ ، كنتَ تراهُ في المسجدِ ، ثمَ إنّهُ أغمضَ عينيهِ وصمَّ أذنيهِ ورمى بنفسهِ في أحضانِ فئةٍ ضالةٍ ، فصارَ مظهرُهُ كمظهرهمْ ، وكلامُهُ ككلامِهمْ ، وهيئتهُ كهيئتهمْ ، وحرم نفسه من الحشر مع من يحشرهمْ اللهُ تباركَ وتعالى معَ الأصنافِ السبعةِ الذينَ ذكرهمْ النّبيُ في الحديثِ المتفقِ عليهِ تحتَ ظلِ عرشهِ يوم لا ظلَ إلا ظلهُ ، وعدَ منهمْ : " ورجلانِ تحابا في اللهِ : اجتمعا عليهِ ، وتفرقا عليهِ . . " ، فيكونوا في مأمنٍ منْ هولِ الموقفِ يومَ تدنو الشمسُ منْ رؤوسِ الخلائقِ ، ويشتدُ عليهمْ الكربُ .
الخطبة الثانية
أيّها المسلمون: وماذا بعدَ الحشرِ ؟! يقولَ النبيُ فيما رواهُ مسلمٌ في الحديثِ القدسيِ : قالَ اللهُ عزَ وجلَ : " المتحابونَ في جلاليّ لهمْ منابرُ منْ نورٍ يغبطهمْ النبيونَ والشهداءُ " ، يجعلُ اللهُ تعالى لهمْ منابرَ منْ نورٍ ، يغبطهمْ عليها حتى النبيونَ والشهداءُ ، والغبطةُ هيَ تمني تحصيلِ مثلَ ما للغيرِ منَ فضلٍ . فإنْ كنتَ ترى أنّكَ تحبُ الصالحينَ ولستَ منهمْ ، فإيّاكَ أنْ يُخرجكَ شعورُ الغربةِ عنْ دائرتهمْ ، فهمُ القومُ لا يشقى بهمْ جليسهمْ ، كما لا يشقى لحيظُ عيونهمْ ، حتى وإنْ قصُرتْ منكَ الهمةُ وضعفتْ العزيمةُ عنْ اللحاقِ بركبهمْ ، والنبيُ يقولُ فيما رواهُ الشيخانِ : " المرءُ معَ منْ أحبَّ " ، والحديثُ بشارةٌ لمنْ أحبَّ الصالحينَ حتى وإنْ كانَ منْ المقصرينَ . ونذيرُ سوءٍ ووعيدٌ لمنْ أحبَّ الفسقةَ والماجنينَ حتى ولوْ كان من العابدينَ ، لأنَ النبيَ قالَ فيما رواهُ أحمدُ في مسندهِ : " المرءُ على دينِ خليلهِ فلينظرْ أحدُكمْ منْ يخاللْ " ، فاحرصْ على مصاحبةِ منْ ينهضكَ حالهُ ، ويذكركَ باللهِ مقالهُ ، ويدعو لكَ بالرحمةِ غدا إذا ما ارتحلتَ إلى اللهِ عزَ وجلَ . والنبيُ يقولُ محذرا فيما رواهُ أبي داودَ والترمذي : " لا تصاحبْ إلا مؤمناً ، ولا يأكلْ طعامكَ إلا تقيٌّ " .
المرفقات
1652324476_صحبة 2.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق