صبرُ زوجةٍ-14-4-1443هـ-مستفادةٌ من خطبةِ الشيخِ هلالٍ الهاجريِ
محمد بن سامر
صبرُ زوجةٍ-14-4-1443هـ-مستفادةٌ من خطبةِ الشيخِ هلالٍ الهاجريِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسَاسًا وَمِنْهَاجًا، بِهِ تَسْعَدُ الأُسْرَةُ وَتَزْدَادُ سُرُورًا وَابتِهَاجًا، وَأشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، جَعَلَ الزَّوَاجَ مِنْ سُنَّتِهِ وَنَهْجِهِ وَطَرِيقَتِهِ-صَلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ-الطَّيِّبِينَ الأَطْهَارِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى دَارِ القَرَارِ.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
أَمَّا بَعْدُ: فإذا ذُكِرَ الصَّبرُ، ذُكِرَ مِنَ الرِّجالِ أيوبُ-على نبيِنا وعليه البركةُ والصلاةُ والسلامُ- شهدَ له بذلكَ اللهُ-تباركَ وتعالى- فقالَ: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، ولكنْ مَن هي مَضرِبُ المَثلِ في الصَّبرِ من النِّساء؟ من هي التي قالَ عنها ابنُ كثيرٍ-رحمَه اللهُ في تاريخِه-البدايةُ والنِّهايةُ-: "الصَّابرةُ، المُحْتَسِبةُ، المُكَابِدَةُ، الصِّدِّيقَةُ، البَّارَّةُ، الرَّاشِدَةُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-"؟ إنَّها زوجةُ أيوبَ عليهِ-الصلاةُ والسَّلامُ-، فعجبًا لتلكَ العائلةِ التي أصبحتْ مضرِبًا للصَّبرِ.
ذَكرَ أَهلُ التَّواريخِ والتَّفاسيرِ: "أنَّ أَيوبَ كَانَ رَجلًا كَثيرَ المالِ، وأَنَّهُ كَانَ عِندَه أَنعامٌ، وعَبيدٌ، ومَواشٍ، وأَراضٍ، وكَانَ لَهُ الكَثيرُ مِنَ الأولادِ والأهلِ، حَتى حَلَّ بِهِ البَلاءُ، وفَقدَ الأموالَ، وفَقدَ الأهلَ إلا زوجتَهُ، وابْتُليَ في جَسدِه بأنواعٍ مِنَ الأمراضِ، ولمْ يَبقَ مِنهُ عُضوٌ سَليمٌ سِوى قَلبِهِ ولِسانِهِ، يَذكرُ اللهَ-عَزَّ وجَلَّ-بهما، وطَالَ مَرضُه، حَتى عَافَهُ الجَليسُ، وأَوحشَ مِنهُ الأَنيسُ، وأُخرجَ من بَلدِهِ، وانقَطعَ عَنهُ النَّاسُ، ولم يَبقَ أَحدٌ يَحنو عَليهِ إلا زَوجتُه، كَانتْ تَرعَى لَهُ حَقَّهُ، وتَعرِفُ إحسانَهُ القَديمَ إليها، وشَفقتَهَ عَليها.
وبعدَ ذلكَ المالِ الوَفيرِ، والأولادِ الكثيرِ، وبعدَ أن كانتْ مُحاطةً بِخَدمٍ شَتَّى، تَأمرُ وتَنهى، لا تَعرفُ للتَّعبِ رَسْمًا، ولا تَذكرُ للجوعِ طَعْمًا، وإذا بِها في لحظةٍ، في فقرٍ عَريضٍ، وزوجٍ مريضٍ، فَكَانتْ تَتَرددُ إليهِ، وتُصلحُ من شَأنِه، وتُعينُه عَلى قَضاءِ حَاجتِه، وتَقومُ بمصلحتِه، وكَانتْ تَخدِمُ النَّاسَ بالأُجرةِ لتُطعمَ زَوجَها، وتَرجعُ من تَعبِ العَملِ عِندَ النَّاسِ، فتبدأُ في تَعبٍ جديدٍ في خِدمةِ زوجِها المُبتلى، ولمْ يَزدْهَا ذَلكَ إلا إشفاقًا عليهِ وصَبرًا، وطَمَعًا في ما عِندَ اللهِ واحتسابًا وأجرًا.
وفي قمةِ الخدمةِ لزوجِها والوفاءِ لهُ، حَدثَ موقفٌ من المواقفِ، فحَلَفَ أيوبُ-عليهِ الصلاةُ والسلامُ-إن عافاهُ اللهُ ليجلدنَّها مئةَ جَلدةٍ، فلم تتذمرْ، ولم تتسخَّطْ، وإنما صَبرتْ على زوجِها المريضِ.
وبقيَ في البلاءِ ثَمانيَ عشرةَ سنةً، حتى دعا ربَّه مُستغيثًا: (وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وكَانَ يَخرجُ إلى حَاجتِه فَتُمسكُهُ امرأتُه بَيدِهِ حَتى يصِلَ، ثُمَّ تنتظرُه حتى ينتهيَ لتُرجِعَهُ إلى البيتِ، فَلمَّا كَانَ ذَاتَ يَومٍ أَبطأَ عَليها، وأَوحَى اللهُ-تعالى-إلى أَيوبَ، أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، فاستَبطَأتْهُ، فَتلقَتْهُ تَنظرُ، وقد أَقبلَ عَليها، قد أَذهبَ اللهُ ما بهِ من البلاءِ، وهو أَحسنُ ممَا كَانَ، فلمَّا رَأتْهُ قَالتْ: أَيْ بَاركَ اللهُ فِيكَ، هَل رَأيتَ نَبيَّ اللهِ هَذا المبتلى؟ واللهِ ما رَأيتُ أحدًا أَشبهَ بِهِ مِنكَ يومَ كَانَ صَحيحًا، فَقَالَ: فإنِّي أَنا هو، ثُمَّ عوَّضَهُ اللهُ ما فَقَدَ، قالَ-تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فرزقَه اللهُ مالًا عظيمًا، وأصلحَ زوجَتَه الصَّابرةَ، ورزقَهما الذُّريَّةَ المباركةَ.
وأما القَسمُ بضَربِ زوجتِهِ مئةَ جَلدةٍ، فقالَ له اللهُ-تعالى-: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، ولأَنَّهُ لم يكنْ في شَرعِهم كفارةُ اليمينَ، أمرَه اللهُ-تعالى- أن يأخذَ كُومةً من حشيشٍ أو عيدانٍ أو عِذقِ نخلٍ فيضربَه بها ضربةً واحدةً، فجعلَ اللهُ-سبحانَهُ-لهذهِ المرأةِ الصَّابرةِ مخرجًا، جزاءً لصبرِها ووفائِها لزوجِها.
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فما تزالُ نساءُ المسلمينَ في وفاءٍ وصبرٍ مع أزواجِهِنَّ، في عَلاقةٍ قد بُنيَّتْ على المودةِ والرحمةِ، كما قالَ-تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فالرجلُ يعملُ خارجَ البيتِ ليأتيَ بالمالِ، والزوجةُ تعملُ داخلَ البيتِ لتُربيَّ العيالَ، وهكذا تتكاملُ الجهودُ، ويحصلُ المقصودُ، من بناءِ الأسرةِ الصالحةِ، التي هي نواةُ المجتمعِ الصَّالحِ.
ولكنْ يأبى أهلُ الإجرامِ، أن يروا أُسرةً تعيشُ في وئامٍ، فيأتونَ إلى الزَّوجةِ، ويقولونَ لها: أنتِ لستِ خادمةً، وإلى متى وأنتِ مُحتاجةٌ إليهِ؟ ينبغي أن تُطالبي بحقوقِكِ الضَّائعةِ، وتَرجعينَ إلى حُريَّتِكِ الرَّائعةِ، فأينَ هؤلاء من قولِه-عليه وآلهِ البركةُ والصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ-أفسدَ-امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا"، فعقدُ الزَّواجِ ليسَ عقدَ إجارةٍ وعملٍ، وإنَّما عقدُ موَّدةٍ ورحمةٍ وأملٍ.
وللأسفِ تتأثرُ بعضُ الزَّوجاتِ، ويحدثُ ما يُريدُه إبليسُ، فقدْ قالَ النبيُ-عليه وآلهِ البركةُ والصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إنَّ إبليسَ يضعُ عرْشَه على الماءِ، ثم يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهم منه منزِلةً أعظمُهم فتنةً، فيجيءُ أحدُهم فيقولُ: ما تركتُه حتى فَرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه، قال: فيُدْنِيه منه، ويَلْتَزِمُه، ويقول: نِعْمَ أَنتَ"، ولو كانَ يحضرُ مجلسَ إبليسَ بعضُ شياطينِ الإنسِ، لحَصلَ لهم التَّكريمُ والتقديرُ، لما يفعلونَه للأُسرِ من التَّفكيكِ والتَّدميرِ.
فاللهَ اللهَ في زوجاتِكم، أكرموهُنَّ، وأَحسنوا إليهِنَّ، واشكروهُنَّ، حتى لا يَجدَ الأشرارُ عليهِنَّ سَبيلًا.
يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنَّا من الظالمينَ، أسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمْهم واجعلْهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمينَ، اللهم إنَّي أسألك لي وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، وأَسْأَلُكَ لي ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، والدينِ والدنيا والأهلِ والمالِ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلُ لا إلهَ إلَّا هوَ عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيمِ، اللهُمَّ عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ والظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، اللهُمَّ إنَّا نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم، اللهُمَّ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ اللهِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1637243709_صبرُ زوجةٍ-14-4-1443هـ-مستفادةٌ من خطبةِ الشيخِ هلالٍ الهاجريِ.docx
1637243716_صبرُ زوجةٍ-14-4-1443هـ-مستفادةٌ من خطبةِ الشيخِ هلالٍ الهاجريِ.pdf