شيء عن التفكير والعقل البشري // محمد عبدالله الشهري

احمد ابوبكر
1435/08/09 - 2014/06/07 08:13AM
قانون التوافر : هناك قاعدة ذهبية يكررها الفقهاء : " عدم العلم ليس علما بالعدم " ، وهي تمثيل معاكس لقانون التوافر الذي تسير عليه عقولنا البشرية بشكل يومي دون أن نشعر . عندما تسأل طبيب جلدية مثلا عن توقعه لنسبه أورام القولون مثلا فالرقم غالبا سيكون أقل بكثير من الرقم الذي يتوقعه طبيب يعمل في جراحة القولون والمستقيم ، وعندما تسأل أحدا ما يعمل في مجال التحقيق عن توقعه لنسبة الجريمة سيكون الرقم كبيرا مقارنة بشخص طيب ومسالم حياته من عمله إلى بيته إلى مسجده . وبحسب ما يتوافر لدى ذاكرة الإنسان من مواقف وأحداث التي لاتعد مقياسا إحصائيا سيظهر الرقم أمامنا أكبر وأكبر . وصاحب كتاب " Thinking , Fast and Slow " ذكر مثالا جميلا لتوضيح كيف يعمل هذا القانون العقلي التلقائي فذكر أن حصول حادثة طيران كبيرة تغطيها وسائل الإعلام ستجعل الخوف يتسلل إلى أعماقنا والأسئلة تتوارد علينا حول أمن الطيران ، وحصول فيضانات كبيرة في مكان ما تزيد نسبة الاتجاه لشركات التأمين للتأمين على المنازل والسيارات ضد الفيضانات . والمثال الأكثر تكررا في واقعنا أن رؤيتنا لحادث مفجع على جانب الطريق ونحن نسير بسرعة هائلة ستجعلنا بلا إدراك نقلل السرعة لمدة لا تطول " خوفا من حصول حادث " ، وعندما يقل تأثير الحادث الذي رأيناه نبدأ بالعودة إلى ما كنا عليه ! .. $0 $0هناك دراسة طريفة ذكرها صاحب الكتاب المذكور على عدد من الأزواج ، وجد أن كل زوج يفترض أنه أكثر مساهمة من الآخر في استمرار الحياة الزوجية سعيدة وسالمة .. والتفسير سهل وواضح وفقا لهذا القانون وهو أن الإنسان يتذكر أفعاله ومواقفه أكثر مما يتذكر أفعال الآخرين ومواقفهم !$0 $0هذه أمثلة يسيرة لكنها تقودنا إلى أمثلة أكبر وأعمق ، حول قناعتنا وأفكارنا ومنطلقاتنا .. وتجعلنا أكثر حذرا وأقل ثقة في أحكامنا على الأشياء والأفكار والناس . خدعة الأرقام الصغيرة : كل يوم يمر علينا عدد من الإحصائيات التي تدرس جانبا من جوانب حياة الناس ، أو جانبا من جوانب مجتمع معين . والأرقام عادة لها هيبة وتقدير وشيء من القداسة تجعلنا نقبلها دون تمحيص أو تدقيق ... قبل سنوات كنت مشاركا في دراسة مع مجموعتي الدراسية حول نسبة الأطباء المدخنين في منطقة عسير ، وكنت من المكلفين بالتوجه إلى أحد المستشفيات خارج أبها . كانت صدمتي كبيرة حين وجدت أن 50 % من الأطباء مدخنون . هذا للوهلة الأولى لكن الحقيقة أن عدد الأطباء الذين جرى عليهم الاستطلاع في ذلك المستشفى كان 10 فقط وكانوا عددا قليلا جدا من عدد المشمولين بالدراسة . للأسف كثير من الأرقام المنشورة في وسائل الإعلام هي على هذه الصورة ، عدد قليل من المشاركين وتظهر على أنها دراسات علمية تستحق النشر والتعميم ! وهذا خطأ منهجي كبير . الطريف أنني اكتشفت من نفسي يوما ما ميلا إلى البحث والتدقيق خلف الأرقام والإحصائيات المنشورة في الإعلام حين تأتي النتيجة عكس ما أميل إليه ، في المقابل وجدت نفسي أقل حرصا على ذلك حين تأتي إحصائية تؤكد لي قناعات سابقة لدي .. وهذا شيء يقودنا لنوع من التفكير يسمى " الانحياز للتأكيد " .. والرقابة الصارمة على تلقائية العقل البشري صعبة جدا بل مستحيلة ، لكن نحتاج القليل منها على الأقل لنكون أكثر صدقا ،وتكون أحكامنا أقرب للعدل . الانحياز للتأكيد : عقلنا البشري بطبيعته ميال إلى ما يجعله أكثر راحة وهدوءا واستقرارا لنسلم من عناء التفكير بل من عناء العقد النفسية أحيانا . ولدى العقل البشري وسائل دفاعية كثيرة جدا تضمن للإنسان العيش بهدوء وراحة ضمير وسلامة من التأنيب والندم والقلق . ربما نتساءل كيف يمكن لإنسان ما أن يؤمن بخرافة من الخرافات ويتمسك بالإيمان بها ؟ وبأية طريقة يفكر المريض الذي يترك الطب القائم على دراسات أو أدلة ويتجه لعلاج قائم على حكايا الجدات ؟ . $0 $0عندما يرغب الإنسان في الاقتناع بشيء ما فإنه يصبح أعمى عن كل ما يناقضه ، ولايرى ما حوله إلا من الأشياء إلا ما يؤكد قناعته ويؤكدها أكثر ، وهذا هو الانحياز للتأكيد . وفي هذا أجرى بعض الباحثين دراسة على جمهوري فريقين متنافسين ، ووجه لهما سؤالا واحدا : ما الفريق الذي يلعب بخشونة ؟ فكان الجواب من كل جمهور أن الفريق المنافس هو الأكثر خشونة .. فحب الجمهور للفريق وتعصبهم له جعلهم لايرون أي شيء إلا ما يؤكد سوء الفريق الخصم ! هذا نراه كل يوم في تويتر مثلا ، كيف يأتي الخبر العابر سواء أكان صحيحا أم مصنوعا ، فيتلقاه المنتفعون منه لقناعتهم بالنشر والتضخيم والتعميم ليشمل التيار المنافس دون تحر للصدق والعدل أو طلب للحق ! ثر التكرار : " الطريقة المثلى لتجعل الناس يؤمنون بكذبة معينة هي أن تكررها دائما ، لأن الفكرة المألوفة من الصعب تمييزها عن الحق " ! داني كينمان . وهذا أثر خطير جدا ، وانتبه له العلماء المسلمون ، وتتكرر عبارة عمر رضي الله عنه : (أميتوا الباطل بعدم ذكره) ، (وإن لله عبادا يميتون الباطل بهجره) . وخطورة التكرار أن تنشأ أجيال على شيء تظنه حقيقة فتؤمن به ويصعب عليها التشكيك فيه أو هجره ، لأنه أمر صار له من الإلف ما يصعب معه أن يوضع على مشرحة النقد، وقد ذكر الطاهر بن عاشور كلاما مهما في تعليقه على قول الله تعالى : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " قال ابن عاشور : " لشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية ؛ فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب" ومن هذا نجد تفسيرا للانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه بعض مجتمعات اليوم ، بالتدرج والتكرار والإلف . وهنا تكمن خطورة الرسائل اليومية التي تأتي في قالب نكتة أو مشهد ضاحك أو مقطع يوتيوب ساخر . ومن يواجه تكرار أية فكرة في أي قالب لن يكون بمنأى عن الإيمان بها أو التأثر بها ، ويستوي في ذلك العامي البسيط والمتعلم المرتقي درجة عالية في سلم أكاديمي ! والإنسان " العاقل " الساعي للحق والعدل مطالب بأن لا يستسلم " لهواه " والرسائل التي يتلقاها ، وأن يضع أحكامه على مشرحة الدين والأخلاق الفاضلة والعلم المثبت ، وإلا كان واحدا كأبسط الناس لايملك أداة صحيحة للتمييز والنقد . والاعتماد على ما نسميه عقلا هو اعتماد على ركن ضعيف هار ، لأن من العسير جدا التمييز بين ماهو عقل وماهو هوى أو رغبة مجردة . والحقيقة أن هذا المجال شائق ومفيد ، ويبين ضعف الإنسان وضعف العقل البشري وهشاشته مع ثقته بذاته وأحكامه ! وما كتب هنا ليس إلا جزءا يسيرا من عالم كبير ومعقد . ومادة هذا المقال أوحاها إلي كتاب : " التفكير ، بسرعة وببطء " ، ومنهج دراسي على موقع جامعة هارفرد التعليمي بمسمى " علم التفكير اليومي " .. وربما يكون للحديث بقية.
المشاهدات 1068 | التعليقات 0