شهر رجب || سليمان بن جاسر الجاسر
الفريق العلمي
1438/06/29 - 2017/03/28 09:10AM
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فمن باب التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى أردت أن أذكر نفسي وإخواني المسلمين بما ورد في رجب رغبة في البيان وأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتبليغ لدينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل عبادة من العبادات إلَّا إذا كانت خالصة لله عز وجل صوابًا أي باتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم وقد بين الله عز وجل أثر اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
ومما لا شك فيه أن الله يختص ويختار بأمره وإرادته ما شاء فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وهذا الاختيار يدل على كمال حكمته وعلمه وقدرته ومما اختار سبحانه الأشهر الحرم ومن هذه الأشهر شهر رجب الذي بين جمادى وشعبان، فإليك نبذة مما جاء في شهر رجب، معناه، وبعض الأعمال البدعية المنتشرة فيه وأقوال أهل العلم في ذلك، زادنا الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعريف بشهر رجب:
شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «خَصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر» ا.هـ(1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الإثنى عشر شهرًا، وأن الله تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على منتِه بها وتقييضها لصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها» ا.هـ(2).
وفي الصحيحين(3) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «فإنما أضافه ـ أي رجب ـ إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتماد به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا» ا.هـ.(4).
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وأما إضافته ـ أي رجب ـ إلى مُضَر فقيل: لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنُسِب إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعة تحرِّمُ رمضان وتُحرِّمُ مُضَر رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَر وحقَّق ذلك بقوله: «الذي بين جمادى وشعبان» ا.هـ.(5)
معنى رجب، وسبب تسميته بهذا الاسم:
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده(6).
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبريء، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة(7).
وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي:
1- رجب: لأنه كان يُرجَّب في الجاهلية أي يُعظم.
2- الأصم: لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع فيه قعقعة السلام، ولا يسمع فيه صوت استغاثة.
3- الأصب: لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا.
4- رجم: بالميم لأن الشياطين ترجم فيه: أي تطرد.
5- الهرم: لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
6- المقيم: لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم.
7- المُعلى: لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور.
8- منصل الأسنة: ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي.
9- منصل الآل: أي الحراب.
10- المبريء: لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق.
11- المقشقش: لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له.
12- شهر العتيرة: لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة، وهي المسماة الرجبية نسبة على رجب(8).
13- رجب مضر: إضافة إلى مضر لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان، ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»(10). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه قالوا: وقد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم(11).
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له، فلذلك أضيف إليهم(12).
هل لشهر رجب مزية على غيره من الشهور؟
ينبغي علينا ألَّا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه شهر محرَّم يتأكد فيه اجتناب المحرمات لعموم قول الله عز وجل في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ولا له مزيد عبادة عن غيره من الشهور بحجة أنه شهر محرم، وقد روُي في هذا الشهر صلوات وأذكار لكنها ضعيفة لا تثبت بها حجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدرك هذا الشهر ولم يزد فيه على غيره وحري بكل مسلم أن يكون متبعًا لا مبتدعًا.
قال ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا.هـ(13).
بعض الأعمال البدعية المنتشرة في شهر رجب، انتشر عند بعض الناس بعض البدع التي تتعلق بهذا الشهر نذكر منها ما يلي:
1- الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
يحتفل بعض المسلمين بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في هذه الليلة، والواقع أنه لم يثبت كون هذه الليلة هي التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم فيها، فقيل إنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر(14)، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول(15).
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره»(16).
وحكى الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ ذلك القول عن بعض القُصَّاص(17).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ: «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها»... ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا»(18).
قال الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدّعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم فيها إلى الله عز وجل وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية، وكل شيء لم يثبت فهو باطل»(19).
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: «ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئًا من شعائر الأعياد أو شيئًا من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كان لم يثبت عمن عُرج به، ولم يثبت عن أصحابه الذي هم أولى الناس به، وهم أشد الناس حرصًا على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمها شيء، وفي إحيائها!»(20).
مما سبق يتبين أن تخصيص ليلة السابع والعشرين من رجب باحتفال يعود كل عام، يلحقها بالأعياد المحدثة، التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولهذا لم يفعل ذلك السلف، ولا عرفت عنهم، ولا تحدثوا عنها(21).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم»(22).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وكل ذلك [ومنه الاحتفال بالإسراء والمعراج] بدع عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين، مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد، والتبذير وإضاعة المال»(23).
وقال الشقيري ـ رحمه الله ـ: «وقراءة قصة المعراج، والاحتفال لها في ليلة السابع والعشرين من رجب بدعة»(24).
وسئل السيد محمد رشيد رضا عن الاحتفال بليلة المعراج، وما فيه من إيقاد السرج والأغاني فأجاب: «لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق والتفريق بين المسلمين»(25).
وقال الشيخ على محفوظ ـ رحمه الله ـ: «وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتون في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبًا كثيرة»(26).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ: «الاحتفال بذكر الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضّح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى.
المقصود أن الاحتفال بذكرى (الإسراء والمعراج) بدعة، فلا يجوز، ولا تجوز المشاركة فيه، ولا أوافق على أن تشارك الرابطة فيه لا بإرسال أحد من موظفيها، ولا بإنابة الشيخ القليقلي أو غيره عنها في ذلك»(27).
2- تخصيص رجب بالصيام:
من الأمور المبتدعة في شهر رجب: تخصيصه بالصيام، والمخصصين له استندوا إلى أحاديث بعضها ضعيف، وكثير منها موضوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم، أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان»(28).
وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»(29).
وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن صيام رجب»(30)، وفي إسناده نظر. لكن صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: لا تشبهوه برمضان.
ودخل أبو بكر رضي الله عنه فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب. فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض. وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أمر بصوم الأشهر الحرم». وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهذا في صوم الربعة جميعًا، لا من تخصص رجب»(31).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن تعظيم شهر رجب من الأمور المحدثة التي ينبغي اجتنابها، وأن اتخاذ شهر رجب موسمًا بحيث يفرد بالصوم مكروه عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره»(32).
وقال ابن قيم الجوزية في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع: «لم يصم الثلاثة الأشهر سردًا ـ رجب وشعبان ورمضان ـ كما يفعله بعض الناس، ولا صام رجبًا قط، ولا استحب صيامه، بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه(33)»(34).
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيدًا(35). وصح عنه أيضًا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان.
مما تقدم يتبين لنا أن شهر رجب لا يخصص بصيام دون غيره من الأشهر، فلم يأمر به صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا التابعون، ولا السلف الصالح، وكل ما ورد في صيامه من النصوص اتفق جمهور العلماء على أنها موضوعة إلا القليل منها ضعيف جدًا لا يصلح الاحتجاج به.
3- عتيرة رجب:
العتيرة: هي ذبيحة كانت تذبح للأصنام في العشر الأول من رجب فيصب من دمها على رأسها، وهي من أفعال أهل الجاهلية، وكان بعضهم إذا طلب أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا(36).
حكم العتيرة:
اختلف العلماء في حكم العتيرة على أقوال:
القول الأول: أن العتيرة مستحبة، وقد ذهب إليه ابن سيرين والشافعي وغيرهما رحمهم الله(37)، والدليل على ذلك ما رواه مخنف بن سليم قال: كنا وقوفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: «يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية»(38)، وأجابوا عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»(39)، أي لا عتيرة واجبة.
القول الثاني: أنها لا تستحب، لكن لا تُكره، واستدلوا بما رواه يحيى بن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو الباهلي قال: سمعت أبي يذكر أنه سمع جده الحارث بن عمرو لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع... فقال رجل من الناس: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع، وفي الغنم أضحيتها» وقبض أصابعه إلا واحدة(40).
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»، بثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد نفي الوجوب ـ كجواب الشافعي رحمه الله ـ السابق.
الثانية: أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم.
والثالث: أن المراد أنها ليست كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدماء.
القول الثالث: النهي عن العتيرة، وأنها باطلة، وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، وفعله بعض أهل الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما، ثم نهى عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا فرع ولا عتيرة». فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنها، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، والدليل على أن الفعل كان قبل النهي حديث نبيشة: «اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله عز وجل وأطعموا»(41)، أي اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا أي اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أي شهر كان لا أنها في رجب دون ما سواه من الشهور.
وقال أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما بأن أحاديث الإذن بالعتيرة منسوخة، ودليل النسخ أمران:
أحدهما أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي روى حديث لا فرع ولا عتيرة وهو متفق عليه، وأبو هريرة متأخر الإسلام أسلم في السنة السابعة من الهجرة، والثاني أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمرًا متقدمًا على الإسلام(42).
ثم إن هذا من باب العبادات، والعبادات توقيفية، فلو لم ينفها صلى الله عليه وسلم كانت منتفية، فإن أمور الجاهلية كلها منتفية، لا يحتاج إلى أن ينصص على كل واحد منها(43).
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول بالبطلان، لاتفاق جمهور العلماء على أن ما ورد في العتيرة منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»، وأن اللام في هذا الحديث تفيد النفي قياسًا على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة». ولما في العتيرة من التشبه بأهل الجاهلية، وهذا منهي عنه، ولأن الذبح عبادة، والعبادات توقيفية.
ولكن ليس هذا معناه أنه لا يجوز الذبح عمومًا في شهر رجب ولكن المراد بالنهي هو ما ينويه الذابح أن هذه الذبيحة هي عتيرة رجب، أو أنه ذبحها تعظيمًا لشهر رجب ونحو ذلك ـ والله أعلم ـ(44).
4- صلاة الرغائب:
أولاً: صفتها: وردت صفتها في حديث موضوع عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يصوم يوم الخميس (أول خميس من رجب) ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة يعني ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة و{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاث مرات، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين، فيقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال، وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار»(45).
ثانيًا: حكمها: قال النووي ـ رحمه الله ـ: «هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها»(46).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين»(47).
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما صلاة الرغائب: فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلًا»(48).
ثالثًا: حكم صلاتها جلبًا لقلوب العوام:
قال أبو شامة: «وكم من إمام قال لي: إنه لا يصليها إلا حفظًا لقلوب العوام عليه، وتمسكًا بمسجده خوفًا من انتزاعه منه، وفي هذا دخول منهم في الصلاة بغير نية صحيحة، وامتهان الوقوف بين يدي الله تعالى، ولو لم يكن في هذه البدعة سوى هذا لكفى، وكل من آمن بهذه الصلاة أو حسنها فهو متسبب في ذلك، مغر للعوام بما اعتقدوه منها، كاذبين على الشرع بسببها، ولو بُصِّروا وعُرِّفوا هذا سنة بعد سنةٍ لأقلعوا عن ذلك وألغوه، لكن تزول رئاسة محبي البدع ومحييها، والله الموفق.
وقد كان الرؤساء من أهل الكتاب يمنعهم الإسلام خوف زوال رئاستهم، وفيهم نزل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]»(49).
5- تخصيص العمرة في رجب:
يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقادًا منهم أن للعمرة فيه مزيد مزية، وهذا لا أصل له، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت ـ أي عائشة ـ: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهدُه، وما اعتمر في رجب قط»(50).
قال ابن العطار: «ومما بلغني عن أهل مكة ـ زادها الله تشريفًا ـ اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلًا»(51).
وقد نص الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ(52) على أن أفضل زمان تؤدى فيه العمرة: شهر رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، ثم بعد ذلك: العمرة في ذي القعدة؛ لأن عُمَرَه كلها وقعت في ذي القعدة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
6- الزكاة في رجب:
اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، قال ابن رجب عن ذلك: «ولا أصل لذلك في السُنة، ولا عُرف عن أحد من السلف... وبكل حال: فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحدٍ له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان»، ثم ذكر جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول... ونحو ذلك»(53).
وقال ابن العطار: «وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجبًا أو غيره»(54).
لا حوادث عظيمة في رجب:
قال ابن رجب: «وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك...»(55).
وجوب الالتزام بالسنة:
على الدعاة إلى ا لله أن يحرصوا على نشر دين الله وأن يلتزموا بالسنة، قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: «كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة»(56).
فيجب عليهم أن يتعلموا السنة، ويعلموها، ويدعون أنفسهم ومن حولهم إلى تطبيقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»(57)، ولله دَرُ أبي العالية حين قال لبعض أصحابه: «تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين أهلها العداوة والبغضاء»(58).
ومن قبله حذيفة رضي الله عنه: «يا معشر القراء: استقيموا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا»(59).
فتاوى خاصة بشهر رجب
1- سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكاف فيها والصمت، هل هو من الأعمال الصالحات أم لا؟
فأجاب رحمه الله بما يلي:
أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن أصحابه ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم إلى شعبان ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان من أجل شهر رمضان وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة لا يعتمد أهل العلم على شيء منها وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبة، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»، وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر لكن صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: «لا تشبهوه برمضان» ودخل أبو بكر رضي الله عنه فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب، فقال: «أتريدون أن تشبهوه برمضان؟» وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصوم الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهذا في صوم الأربعة جميعًا لا من يخصص رجبًا.
وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرًا بل كل من صام صومًا مشروعًا وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزًا بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم كمذهب أبي حنيفة ومالك والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعي.
وأما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم، لكن هل ذلك محرم أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه وغيره، وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: «إن هذا لا يحل، إن هذا عمل الجاهلية» وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: «من هذا؟»، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: «مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه» فأمره صلى الله عليه وسلم مع نذره للصمت أن يتكلم كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس ومع نذره ألا يستظل أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصيام فقط وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب واتخاذ ذلك دينا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله ومعلوم أن من يفعل ذلك؛ من نذر اعتكافًا ونحو ذلك إنما يفعله تدينًا ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام؛ فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربة ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله، وهذا حرام لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه فقد يكون معذورًا بجهله إذا لم تقم عليه الحجة فإذا لغه العلم فعليه التوبة.
وجماع الأمر في الكلام قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» فقول الخير وهو الواجب أو المستحب خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب فالسكوت عنه خير من قوله ولهذا قال بعض السلف لصاحبه: السكوت عن الشر خير من التكلم به، فقال له الآخر: التكلم بالخير خير من السكوت عنه وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9]، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكرًا لله تعالى»، والأحاديث في فضائل الصمت كثيرة وكذلك في فضائل التكلم بالخير، والصمت عما يجب من الكلام حرام سواء اتخذه دينا أو لم يتخذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن تحب ما أحبه الله ورسوله، وتبغض ما يبغضه الله ورسوله،وتبيح ما أباحاه الله ورسوله، وتحرم ما حرمه الله ورسوله(60).
2- سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ السؤال التالي:
يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة (27) منه فهل لذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب رحمه الله بما يلي:
تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة (27) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب، وهكذا الاحتفال بليلة (27) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها، ولم علمت لم يجز الاحتفال بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها.
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [متفق على صحته]، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» أخرجه مسلم في صحيحه، ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أخرجه مسلم أيضًا.
فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملًا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [أخرجه مسلم في صحيحه](61).
3- فتوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ عن حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج.
السؤال: سؤال هذا عن احتفال في ليلة الإسراء والمعراج وهنا في السودان نحتفل أو يحتفلون في ليلة الإسراء والمعراج في كل عام هل هذا الاحتفال له أصل من كتاب الله ومن سنة رسوله الطاهرة أو في عهد خلفاءه الراشدين أو في زمن التابعين أفيدوني وأنا في حيرة وشكرًا لكم جزيلًا؟
الجواب:
أجاب الشيخ رحمه الله: ليس لهذا ا لاحتفال أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفاءه الراشدين رضوان الله عليهم وإنما الأصل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرُدُّ هذه البدعة لأن الله تبارك وتعالى أنكر على الذين يتخذون من يُشرعون لهم دينًا سوى دين الله عز وجل وجعل ذلك من الشرك كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» والاحتفال بليلة المعراج ليس عليه أمر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته يقوله في كل خطبة جمعة على المنبر: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة»، وكلمة «كل» بدعةهذه جملة عامة ظاهرة العموم لأنها مصدرة بكل التي هي من صيغ العموم التي هي من أقوى الصيغ «كل بدعة» ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من البدع بل قال: «كل بدعة ضلالة» والاحتفال بليلة المعراج من البدع التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم وعلى هذا فالواجب على المسلمين أن يبتعدوا عنها وأن يعتنوا باللب دون القشور إذا كانوا حقيقة معظمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تعظيمه بالتزام شرعه وبالأدب معه حيث لا يتقربون إلى الله تبارك وتعالى من طريق غير طريقه صلى الله عليه وسلم فإن من كمال الأدب وكمال الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتزم المؤمن شريعته وأن لا يتقرب إلى الله بشيء لم يثبت في شريعته صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فنقول إن الاحتفال بدعة يجب التحذير منها والابتعاد عنها ثم إننا نقول أيضًا إن ليلة المعراج لم يثبت من حيث التاريخ في أي ليلة هي بل إن أقرب الأقوال في ذلك على ما في هذا من النظر أنها في ربيع الأول وليست في رجب كما هو مشهور عند الناس اليوم فإذا لم تصح ليلة المعراج التي يزعمها الناس أنها ليلة المعراج ـ وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ـ لم تصح تاريخيًا كما أنها لم تصح شرعًا والمؤمن ينبغي أن يبني أموره على الحقائق دون الأوهام(62).
4- فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ عن حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فلا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة ا لدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى عظم منزلته عند الله ﻷ، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماء، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمسًا، فهي خمس في الفرض، وخمسون في الأجر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمرًا مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعًا لكانوا أسبق الناس إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ، وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك، علم أن الاحتفال بها، وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:31].
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: التحذير من البدع والتصريح بأنها ضلالة، تنبيها للأمة على عظم خطرها، وتنفيرًا لهم من اقترافها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة ل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية مسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة»، زاد النسائي بسند جيد: «وكل ضلالة في النار»، وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح بعدهم، التحذير من البدع والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدع والمنفرة منها.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة كفاية ومقنع لطالب الحق في إنكار هذه البدعة: أعني بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والتحذير منها، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان ما شرع الله لهم من الدين، وتحريم كتمان العلم، رأيت تنبيه إخواني المسلمين على هذه البدعة، التي قد فشت في كثير من الأمصار، حتى ظنها بعض الناس من الدين، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جيمعًا، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه(63).
حكم صوم أيام مخصوصة من شهر جب:
5- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:
هناك أيام تصام تطوعًا في شهر رجب، فهل تكون في أوله أو وسطه أو آخره؟
الجواب:
لم تثبت أحاديث خاصة بفضيلة الصوم في شهر رجب سوى ما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»(64)، وإنما وردت أحاديث عامة في الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والحث على صوم أيام البيض من كل شهر وهو الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والحث على صوم الأشهر الحرم، وصوم يوم الإثنين والخميس، ويدخل رجب في عموم ذلك، فإن كنت حريصًا على اختيار أيام من الشهر فاختر أيام البيض الثلاث أو يوم الاثنين والخميس وإلَّا فالأمر واسع، أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلًا في الشرع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.(65)
6- ما هو حكم الشرع في بعض الأمور التي تحدث هنا في مصر، مثل أن يقوم الخاطب بإرسال بعض الهدايا في المواسم، مثل شهر رجب وشعبان ورمضان وعاشوراء والعيدين، فهل هذا الأمر فرض أم سنة، وهل هناك حرج على من يفعل ذلك؟
الجواب: الهدايا بين الناس من الأمور التي تجلب المحبة والوئام، وتسل من القلوب السخيمة والأحقاد، وهي مرغب فيها شرعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين والحمد لله، لكن إذا قارن الهدية سبب غير شرعي فإنها لا تجوز؛ كالهدايا في عاشوراء أو رجب، أو بمناسبة أعياد الميلاد وغيرها من المبتدعات؛ لأن فيها إعانة على الباطل ومشاركة في البدعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله عليى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(66)
7- رأيت الناس يديمون الصيام في رجب وشعبان ويتبعونه بصيام رمضان بدون إفطار في هذه المدة فهل ورد حديث في ذلك وإن كان فما نص الحديث؟
الجواب: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهر رجب كاملًا ولا شهر شعبان كاملًا، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، بل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهرًا كاملًا إلَّا رمضان، وقد ثبت عن عائشة ل أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهر إلَّا رمضان وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» [رواه البخاري ومسلم]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله ولا يصوم» [رواه البخاري ومسلم]. فصيام رجب كله تطوعًا وشعبان كله تطوعًا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في صومه فكان بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه البخاري ومسلم].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(67)
8- حول القيام بالصيد في شهر رمضان وذي القعدة وذي الحجة، وشهر محرم، يقول بعض الناس: إن صيد البر من طيور وأرانب حرام، وسبق لي أن قمت بالصيد في هذه الأشهر الحرم الأربعة، أفيدوني جزاكم الله عنا خير الجزاء.
الجواب: لا حرج عليك في صيد البر في
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فمن باب التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى أردت أن أذكر نفسي وإخواني المسلمين بما ورد في رجب رغبة في البيان وأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتبليغ لدينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل عبادة من العبادات إلَّا إذا كانت خالصة لله عز وجل صوابًا أي باتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم وقد بين الله عز وجل أثر اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
ومما لا شك فيه أن الله يختص ويختار بأمره وإرادته ما شاء فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وهذا الاختيار يدل على كمال حكمته وعلمه وقدرته ومما اختار سبحانه الأشهر الحرم ومن هذه الأشهر شهر رجب الذي بين جمادى وشعبان، فإليك نبذة مما جاء في شهر رجب، معناه، وبعض الأعمال البدعية المنتشرة فيه وأقوال أهل العلم في ذلك، زادنا الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعريف بشهر رجب:
شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «خَصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر» ا.هـ(1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الإثنى عشر شهرًا، وأن الله تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على منتِه بها وتقييضها لصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها» ا.هـ(2).
وفي الصحيحين(3) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «فإنما أضافه ـ أي رجب ـ إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتماد به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا» ا.هـ.(4).
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وأما إضافته ـ أي رجب ـ إلى مُضَر فقيل: لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنُسِب إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعة تحرِّمُ رمضان وتُحرِّمُ مُضَر رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَر وحقَّق ذلك بقوله: «الذي بين جمادى وشعبان» ا.هـ.(5)
معنى رجب، وسبب تسميته بهذا الاسم:
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده(6).
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبريء، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة(7).
وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي:
1- رجب: لأنه كان يُرجَّب في الجاهلية أي يُعظم.
2- الأصم: لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع فيه قعقعة السلام، ولا يسمع فيه صوت استغاثة.
3- الأصب: لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا.
4- رجم: بالميم لأن الشياطين ترجم فيه: أي تطرد.
5- الهرم: لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
6- المقيم: لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم.
7- المُعلى: لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور.
8- منصل الأسنة: ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي.
9- منصل الآل: أي الحراب.
10- المبريء: لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق.
11- المقشقش: لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له.
12- شهر العتيرة: لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة، وهي المسماة الرجبية نسبة على رجب(8).
13- رجب مضر: إضافة إلى مضر لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان، ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»(10). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه قالوا: وقد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم(11).
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له، فلذلك أضيف إليهم(12).
هل لشهر رجب مزية على غيره من الشهور؟
ينبغي علينا ألَّا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه شهر محرَّم يتأكد فيه اجتناب المحرمات لعموم قول الله عز وجل في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ولا له مزيد عبادة عن غيره من الشهور بحجة أنه شهر محرم، وقد روُي في هذا الشهر صلوات وأذكار لكنها ضعيفة لا تثبت بها حجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدرك هذا الشهر ولم يزد فيه على غيره وحري بكل مسلم أن يكون متبعًا لا مبتدعًا.
قال ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا.هـ(13).
بعض الأعمال البدعية المنتشرة في شهر رجب، انتشر عند بعض الناس بعض البدع التي تتعلق بهذا الشهر نذكر منها ما يلي:
1- الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
يحتفل بعض المسلمين بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في هذه الليلة، والواقع أنه لم يثبت كون هذه الليلة هي التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم فيها، فقيل إنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر(14)، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول(15).
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره»(16).
وحكى الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ ذلك القول عن بعض القُصَّاص(17).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ: «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها»... ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا»(18).
قال الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدّعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم فيها إلى الله عز وجل وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية، وكل شيء لم يثبت فهو باطل»(19).
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: «ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئًا من شعائر الأعياد أو شيئًا من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كان لم يثبت عمن عُرج به، ولم يثبت عن أصحابه الذي هم أولى الناس به، وهم أشد الناس حرصًا على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمها شيء، وفي إحيائها!»(20).
مما سبق يتبين أن تخصيص ليلة السابع والعشرين من رجب باحتفال يعود كل عام، يلحقها بالأعياد المحدثة، التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولهذا لم يفعل ذلك السلف، ولا عرفت عنهم، ولا تحدثوا عنها(21).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم»(22).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وكل ذلك [ومنه الاحتفال بالإسراء والمعراج] بدع عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين، مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد، والتبذير وإضاعة المال»(23).
وقال الشقيري ـ رحمه الله ـ: «وقراءة قصة المعراج، والاحتفال لها في ليلة السابع والعشرين من رجب بدعة»(24).
وسئل السيد محمد رشيد رضا عن الاحتفال بليلة المعراج، وما فيه من إيقاد السرج والأغاني فأجاب: «لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق والتفريق بين المسلمين»(25).
وقال الشيخ على محفوظ ـ رحمه الله ـ: «وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتون في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبًا كثيرة»(26).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ: «الاحتفال بذكر الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضّح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى.
المقصود أن الاحتفال بذكرى (الإسراء والمعراج) بدعة، فلا يجوز، ولا تجوز المشاركة فيه، ولا أوافق على أن تشارك الرابطة فيه لا بإرسال أحد من موظفيها، ولا بإنابة الشيخ القليقلي أو غيره عنها في ذلك»(27).
2- تخصيص رجب بالصيام:
من الأمور المبتدعة في شهر رجب: تخصيصه بالصيام، والمخصصين له استندوا إلى أحاديث بعضها ضعيف، وكثير منها موضوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم، أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان»(28).
وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»(29).
وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن صيام رجب»(30)، وفي إسناده نظر. لكن صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: لا تشبهوه برمضان.
ودخل أبو بكر رضي الله عنه فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب. فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض. وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أمر بصوم الأشهر الحرم». وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهذا في صوم الربعة جميعًا، لا من تخصص رجب»(31).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن تعظيم شهر رجب من الأمور المحدثة التي ينبغي اجتنابها، وأن اتخاذ شهر رجب موسمًا بحيث يفرد بالصوم مكروه عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره»(32).
وقال ابن قيم الجوزية في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع: «لم يصم الثلاثة الأشهر سردًا ـ رجب وشعبان ورمضان ـ كما يفعله بعض الناس، ولا صام رجبًا قط، ولا استحب صيامه، بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه(33)»(34).
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيدًا(35). وصح عنه أيضًا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان.
مما تقدم يتبين لنا أن شهر رجب لا يخصص بصيام دون غيره من الأشهر، فلم يأمر به صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا التابعون، ولا السلف الصالح، وكل ما ورد في صيامه من النصوص اتفق جمهور العلماء على أنها موضوعة إلا القليل منها ضعيف جدًا لا يصلح الاحتجاج به.
3- عتيرة رجب:
العتيرة: هي ذبيحة كانت تذبح للأصنام في العشر الأول من رجب فيصب من دمها على رأسها، وهي من أفعال أهل الجاهلية، وكان بعضهم إذا طلب أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا(36).
حكم العتيرة:
اختلف العلماء في حكم العتيرة على أقوال:
القول الأول: أن العتيرة مستحبة، وقد ذهب إليه ابن سيرين والشافعي وغيرهما رحمهم الله(37)، والدليل على ذلك ما رواه مخنف بن سليم قال: كنا وقوفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: «يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية»(38)، وأجابوا عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»(39)، أي لا عتيرة واجبة.
القول الثاني: أنها لا تستحب، لكن لا تُكره، واستدلوا بما رواه يحيى بن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو الباهلي قال: سمعت أبي يذكر أنه سمع جده الحارث بن عمرو لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع... فقال رجل من الناس: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع، وفي الغنم أضحيتها» وقبض أصابعه إلا واحدة(40).
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»، بثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد نفي الوجوب ـ كجواب الشافعي رحمه الله ـ السابق.
الثانية: أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم.
والثالث: أن المراد أنها ليست كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدماء.
القول الثالث: النهي عن العتيرة، وأنها باطلة، وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، وفعله بعض أهل الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما، ثم نهى عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا فرع ولا عتيرة». فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنها، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، والدليل على أن الفعل كان قبل النهي حديث نبيشة: «اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله عز وجل وأطعموا»(41)، أي اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا أي اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أي شهر كان لا أنها في رجب دون ما سواه من الشهور.
وقال أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما بأن أحاديث الإذن بالعتيرة منسوخة، ودليل النسخ أمران:
أحدهما أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي روى حديث لا فرع ولا عتيرة وهو متفق عليه، وأبو هريرة متأخر الإسلام أسلم في السنة السابعة من الهجرة، والثاني أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمرًا متقدمًا على الإسلام(42).
ثم إن هذا من باب العبادات، والعبادات توقيفية، فلو لم ينفها صلى الله عليه وسلم كانت منتفية، فإن أمور الجاهلية كلها منتفية، لا يحتاج إلى أن ينصص على كل واحد منها(43).
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول بالبطلان، لاتفاق جمهور العلماء على أن ما ورد في العتيرة منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فرع ولا عتيرة»، وأن اللام في هذا الحديث تفيد النفي قياسًا على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة». ولما في العتيرة من التشبه بأهل الجاهلية، وهذا منهي عنه، ولأن الذبح عبادة، والعبادات توقيفية.
ولكن ليس هذا معناه أنه لا يجوز الذبح عمومًا في شهر رجب ولكن المراد بالنهي هو ما ينويه الذابح أن هذه الذبيحة هي عتيرة رجب، أو أنه ذبحها تعظيمًا لشهر رجب ونحو ذلك ـ والله أعلم ـ(44).
4- صلاة الرغائب:
أولاً: صفتها: وردت صفتها في حديث موضوع عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يصوم يوم الخميس (أول خميس من رجب) ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة يعني ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة و{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاث مرات، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين، فيقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال، وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار»(45).
ثانيًا: حكمها: قال النووي ـ رحمه الله ـ: «هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها»(46).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين»(47).
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما صلاة الرغائب: فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلًا»(48).
ثالثًا: حكم صلاتها جلبًا لقلوب العوام:
قال أبو شامة: «وكم من إمام قال لي: إنه لا يصليها إلا حفظًا لقلوب العوام عليه، وتمسكًا بمسجده خوفًا من انتزاعه منه، وفي هذا دخول منهم في الصلاة بغير نية صحيحة، وامتهان الوقوف بين يدي الله تعالى، ولو لم يكن في هذه البدعة سوى هذا لكفى، وكل من آمن بهذه الصلاة أو حسنها فهو متسبب في ذلك، مغر للعوام بما اعتقدوه منها، كاذبين على الشرع بسببها، ولو بُصِّروا وعُرِّفوا هذا سنة بعد سنةٍ لأقلعوا عن ذلك وألغوه، لكن تزول رئاسة محبي البدع ومحييها، والله الموفق.
وقد كان الرؤساء من أهل الكتاب يمنعهم الإسلام خوف زوال رئاستهم، وفيهم نزل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]»(49).
5- تخصيص العمرة في رجب:
يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقادًا منهم أن للعمرة فيه مزيد مزية، وهذا لا أصل له، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت ـ أي عائشة ـ: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهدُه، وما اعتمر في رجب قط»(50).
قال ابن العطار: «ومما بلغني عن أهل مكة ـ زادها الله تشريفًا ـ اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلًا»(51).
وقد نص الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ(52) على أن أفضل زمان تؤدى فيه العمرة: شهر رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، ثم بعد ذلك: العمرة في ذي القعدة؛ لأن عُمَرَه كلها وقعت في ذي القعدة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
6- الزكاة في رجب:
اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، قال ابن رجب عن ذلك: «ولا أصل لذلك في السُنة، ولا عُرف عن أحد من السلف... وبكل حال: فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحدٍ له حول يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان»، ثم ذكر جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول... ونحو ذلك»(53).
وقال ابن العطار: «وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجبًا أو غيره»(54).
لا حوادث عظيمة في رجب:
قال ابن رجب: «وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك...»(55).
وجوب الالتزام بالسنة:
على الدعاة إلى ا لله أن يحرصوا على نشر دين الله وأن يلتزموا بالسنة، قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: «كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة»(56).
فيجب عليهم أن يتعلموا السنة، ويعلموها، ويدعون أنفسهم ومن حولهم إلى تطبيقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»(57)، ولله دَرُ أبي العالية حين قال لبعض أصحابه: «تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين أهلها العداوة والبغضاء»(58).
ومن قبله حذيفة رضي الله عنه: «يا معشر القراء: استقيموا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا»(59).
فتاوى خاصة بشهر رجب
1- سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكاف فيها والصمت، هل هو من الأعمال الصالحات أم لا؟
فأجاب رحمه الله بما يلي:
أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولا عن أصحابه ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم إلى شعبان ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان من أجل شهر رمضان وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة لا يعتمد أهل العلم على شيء منها وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبة، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»، وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر لكن صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: «لا تشبهوه برمضان» ودخل أبو بكر رضي الله عنه فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب، فقال: «أتريدون أن تشبهوه برمضان؟» وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصوم الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهذا في صوم الأربعة جميعًا لا من يخصص رجبًا.
وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرًا بل كل من صام صومًا مشروعًا وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزًا بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم كمذهب أبي حنيفة ومالك والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعي.
وأما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم، لكن هل ذلك محرم أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه وغيره، وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: «إن هذا لا يحل، إن هذا عمل الجاهلية» وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: «من هذا؟»، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: «مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه» فأمره صلى الله عليه وسلم مع نذره للصمت أن يتكلم كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس ومع نذره ألا يستظل أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصيام فقط وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب واتخاذ ذلك دينا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله ومعلوم أن من يفعل ذلك؛ من نذر اعتكافًا ونحو ذلك إنما يفعله تدينًا ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام؛ فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربة ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله، وهذا حرام لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه فقد يكون معذورًا بجهله إذا لم تقم عليه الحجة فإذا لغه العلم فعليه التوبة.
وجماع الأمر في الكلام قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» فقول الخير وهو الواجب أو المستحب خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب فالسكوت عنه خير من قوله ولهذا قال بعض السلف لصاحبه: السكوت عن الشر خير من التكلم به، فقال له الآخر: التكلم بالخير خير من السكوت عنه وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9]، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكرًا لله تعالى»، والأحاديث في فضائل الصمت كثيرة وكذلك في فضائل التكلم بالخير، والصمت عما يجب من الكلام حرام سواء اتخذه دينا أو لم يتخذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن تحب ما أحبه الله ورسوله، وتبغض ما يبغضه الله ورسوله،وتبيح ما أباحاه الله ورسوله، وتحرم ما حرمه الله ورسوله(60).
2- سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ السؤال التالي:
يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة (27) منه فهل لذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب رحمه الله بما يلي:
تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة (27) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب، وهكذا الاحتفال بليلة (27) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها، ولم علمت لم يجز الاحتفال بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها.
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [متفق على صحته]، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» أخرجه مسلم في صحيحه، ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أخرجه مسلم أيضًا.
فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملًا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [أخرجه مسلم في صحيحه](61).
3- فتوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ عن حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج.
السؤال: سؤال هذا عن احتفال في ليلة الإسراء والمعراج وهنا في السودان نحتفل أو يحتفلون في ليلة الإسراء والمعراج في كل عام هل هذا الاحتفال له أصل من كتاب الله ومن سنة رسوله الطاهرة أو في عهد خلفاءه الراشدين أو في زمن التابعين أفيدوني وأنا في حيرة وشكرًا لكم جزيلًا؟
الجواب:
أجاب الشيخ رحمه الله: ليس لهذا ا لاحتفال أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفاءه الراشدين رضوان الله عليهم وإنما الأصل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرُدُّ هذه البدعة لأن الله تبارك وتعالى أنكر على الذين يتخذون من يُشرعون لهم دينًا سوى دين الله عز وجل وجعل ذلك من الشرك كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» والاحتفال بليلة المعراج ليس عليه أمر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته يقوله في كل خطبة جمعة على المنبر: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة»، وكلمة «كل» بدعةهذه جملة عامة ظاهرة العموم لأنها مصدرة بكل التي هي من صيغ العموم التي هي من أقوى الصيغ «كل بدعة» ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من البدع بل قال: «كل بدعة ضلالة» والاحتفال بليلة المعراج من البدع التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم وعلى هذا فالواجب على المسلمين أن يبتعدوا عنها وأن يعتنوا باللب دون القشور إذا كانوا حقيقة معظمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تعظيمه بالتزام شرعه وبالأدب معه حيث لا يتقربون إلى الله تبارك وتعالى من طريق غير طريقه صلى الله عليه وسلم فإن من كمال الأدب وكمال الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتزم المؤمن شريعته وأن لا يتقرب إلى الله بشيء لم يثبت في شريعته صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فنقول إن الاحتفال بدعة يجب التحذير منها والابتعاد عنها ثم إننا نقول أيضًا إن ليلة المعراج لم يثبت من حيث التاريخ في أي ليلة هي بل إن أقرب الأقوال في ذلك على ما في هذا من النظر أنها في ربيع الأول وليست في رجب كما هو مشهور عند الناس اليوم فإذا لم تصح ليلة المعراج التي يزعمها الناس أنها ليلة المعراج ـ وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ـ لم تصح تاريخيًا كما أنها لم تصح شرعًا والمؤمن ينبغي أن يبني أموره على الحقائق دون الأوهام(62).
4- فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ عن حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فلا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة ا لدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى عظم منزلته عند الله ﻷ، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماء، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمسًا، فهي خمس في الفرض، وخمسون في الأجر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمرًا مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعًا لكانوا أسبق الناس إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ، وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك، علم أن الاحتفال بها، وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:31].
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: التحذير من البدع والتصريح بأنها ضلالة، تنبيها للأمة على عظم خطرها، وتنفيرًا لهم من اقترافها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة ل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية مسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة»، زاد النسائي بسند جيد: «وكل ضلالة في النار»، وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح بعدهم، التحذير من البدع والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدع والمنفرة منها.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة كفاية ومقنع لطالب الحق في إنكار هذه البدعة: أعني بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والتحذير منها، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان ما شرع الله لهم من الدين، وتحريم كتمان العلم، رأيت تنبيه إخواني المسلمين على هذه البدعة، التي قد فشت في كثير من الأمصار، حتى ظنها بعض الناس من الدين، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جيمعًا، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه(63).
حكم صوم أيام مخصوصة من شهر جب:
5- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:
هناك أيام تصام تطوعًا في شهر رجب، فهل تكون في أوله أو وسطه أو آخره؟
الجواب:
لم تثبت أحاديث خاصة بفضيلة الصوم في شهر رجب سوى ما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»(64)، وإنما وردت أحاديث عامة في الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والحث على صوم أيام البيض من كل شهر وهو الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والحث على صوم الأشهر الحرم، وصوم يوم الإثنين والخميس، ويدخل رجب في عموم ذلك، فإن كنت حريصًا على اختيار أيام من الشهر فاختر أيام البيض الثلاث أو يوم الاثنين والخميس وإلَّا فالأمر واسع، أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلًا في الشرع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.(65)
6- ما هو حكم الشرع في بعض الأمور التي تحدث هنا في مصر، مثل أن يقوم الخاطب بإرسال بعض الهدايا في المواسم، مثل شهر رجب وشعبان ورمضان وعاشوراء والعيدين، فهل هذا الأمر فرض أم سنة، وهل هناك حرج على من يفعل ذلك؟
الجواب: الهدايا بين الناس من الأمور التي تجلب المحبة والوئام، وتسل من القلوب السخيمة والأحقاد، وهي مرغب فيها شرعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين والحمد لله، لكن إذا قارن الهدية سبب غير شرعي فإنها لا تجوز؛ كالهدايا في عاشوراء أو رجب، أو بمناسبة أعياد الميلاد وغيرها من المبتدعات؛ لأن فيها إعانة على الباطل ومشاركة في البدعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله عليى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(66)
7- رأيت الناس يديمون الصيام في رجب وشعبان ويتبعونه بصيام رمضان بدون إفطار في هذه المدة فهل ورد حديث في ذلك وإن كان فما نص الحديث؟
الجواب: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهر رجب كاملًا ولا شهر شعبان كاملًا، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، بل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهرًا كاملًا إلَّا رمضان، وقد ثبت عن عائشة ل أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهر إلَّا رمضان وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» [رواه البخاري ومسلم]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله ولا يصوم» [رواه البخاري ومسلم]. فصيام رجب كله تطوعًا وشعبان كله تطوعًا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في صومه فكان بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه البخاري ومسلم].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(67)
8- حول القيام بالصيد في شهر رمضان وذي القعدة وذي الحجة، وشهر محرم، يقول بعض الناس: إن صيد البر من طيور وأرانب حرام، وسبق لي أن قمت بالصيد في هذه الأشهر الحرم الأربعة، أفيدوني جزاكم الله عنا خير الجزاء.
الجواب: لا حرج عليك في صيد البر في