شهر الجود والمواساة
محمد ابراهيم السبر
خطبة: شهر الجود والمواساة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾. آل عمران: 102.
عباد الله: يهل علينا شهر رمضان المبارك ويفد بعد شوق وترقب المؤمنين لقيام لياليه العطرة، وصيام نهاره، وعمارته بسائر العبادات والمسابقة في الخيرات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة:183.
إن شهر رمضان يتميز عن غيره من الشّهور بأنّه شهر الجود والعطاء والبذل والسخاء؛ إذ إنّ الله تعالى قد جاد على عباده بنزول القرآن الكريم، وبعثة خاتم النبيين؛ لإخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور، وأيُّ جودٍ أعظم من هذا الجود!
إنّه شهرٌ يجود الله تعالى على عباده فيه بالرّحمة والمغفرة والعتق من النار، قال ﷺ: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدّم من ذنبه». متفق عليه.
إنّه شهر الجود والعطاء، والبذل والإحسان، شهر التّواصل والتّكافل، شهرٌ تغمر فيه الرّحمة قلوب المؤمنين، وتجود فيه بالعطاء أيدي المحسنين. ففي الصّحيحين عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله ﷺ أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلةٍ فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الرّيح المرسلة».
وهذا الحديث الشريف قاعدةٌ في الجود النّبويّ، والجود في الشّرع كما عرّفه الحافظ ابن حجر رحمه الله بأنّه: " إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعمّ من الصّدقة ". (الفتح 1/37).
ولمّا كان رمضان موسماً من مواسم الخيرات والقربات والتّنافس في اكتساب الحسنات والتّسابق في رقيّ الدّرجات كان له هذه المزيّة من الجود النّبويّ الّذي صوّره لنا هذا الحديث، ومن ذلك:
الجود بالعبادة من الصّيام والقيام وقراءة القرآن الكريم وذكر الله ودعائه كلّ ذلك من العبادات والطّاعات الّتي هي من مظاهر الجود وغنى النّفس بالعبادة، ولهذا ربط الحافظ ابن حجر رحمه الله بين الجود ومدارسة القرآن الّتي أشار لها الحديث قوله: " قيل الحكمة فيه أنّ مدارسة القرآن تجدّد له العهد بمزيد غنى النّفس، والغنى سبب الجود". (الفتح 1/37)
وقراءة القرآن العظيم جزءٌ من الجود بالعبادة، لكنّ إفرادها هنا لمزيّةٍ خاصّةٍ بهذا الشّهر: «حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن». فينبغي للمسلم أن يكثر من تلاوة القران الكريم في هذا الشهر المبارك، كما كان يفعل السلف الصالح، قال الزهري رحمه الله: "إذا دخل رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام".
والجود بالمال والصّدقة يدخل تحت الجود بالعبادة، قال الإمام الشافعي رحمه الله:" أُحبُّ للرّجل الزّيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله ﷺ ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم وتشاغل كثيرٍ منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم".
ومن أنواع الجود إطعام الطعام وهو عبادة جلية ثوابها عظيم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي ﷺ: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعر». متفق عليه
وشخصيّة النبي ﷺ هي مثال الجود ومدرسته التي يتعلم منها المسلمون، فقد كان أجودَ النّاس وأجزلهم عطاءً وأسخاهم نفساً ﷺ، وكان أجود ما يكون في رمضان، فاجتمع الجودان؛ جود رمضان، وجوده عليه الصلاة والسلام.
وكان جوده ﷺ بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النّفع إليهم بكلّ طريقٍ؛ من إطعامِ جائعهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، لم يزل على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، حتّى قالت خديجة رضي الله عنها في أوّل بعثته: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرّحم، وتقري الضّيف، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحقّ».
وكان ﷺ لا يمسك من المال شيئاً، صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه: «كان رسولُ الله ﷺ أحسنَ النّاس، وكان أجود النّاس، وكان أشجعَ النّاس»، وأخبر عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: «ما سُئل رسول الله ﷺ قطّ، فقال لا». رواه مسلم.
وقد ضرب النّبيّ ﷺ أروع أمثلة الجود والبذل والعطاء في هذا الشّهر المبارك، حتّى وصفه عبد الله بن عبّاس بأنّه: «أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ».
وبذلك اقتدى به الصحابة وسلف الأمة الصالحون وفي رمضان على وجه أخص؛ فقد كان كثيرٌ من السلف يواسون من إفطارهم، أو يؤثرون به، كابن عمر رضي الله عنهما وهو الذي يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعهم أهلهُ عنه لم يتعشَّ تلك الليلة!، وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين، كان يُعدّهما لفطره، ثمّ طوى وأصبح صائماً.
فلله درُّ تلك النّفوس ما أسخاها! وما أشدّ إيثارها! وما أعظم رغبتها فيما عند مولاها!
وهناك أمور تعين على التخلق بخلق الجود منها تعويد النّفس على الصدقة ولو بالقليل قال ﷺ: «اتقّوا النّار ولو بشقّ تمرةٍ» متفق عليه. والدّعاء؛ فقد كان عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف بالبيت يقول: "اللهمّ قني شحّ نفسي، لأنّ مَنْ وُقي شُحّ نفسه فقد فاز وأفلح" ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. الحشر: 9.
وكذلك المشاركة في المشاريع الخيرية الموثوقة عبر المنصات الرسمية والجمعيات الخيرية في رمضان وفي غيره، والسعي على الأرملة والمسكين خاصة ذوي الرحم والأقربين؛ فهي صدقة وصلة، وتحرّي مواضع وأزمنة الجود ووقت الفاقة والحاجة، فالمحتاجون حقاً أكثرُهم لا يسألون، كما أخبر الله عنهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلحَافًا﴾ البقرة: 273.
والبعض لا يتحرى في صدقاته وزكاته؛ حينما يدفعونها إلى أقرب سائل، ولا يتحرّون حاله، فأسهموا في زيادة جشع السائلين، وحرموا منها محتاجين متعفّفين، فالزكاة لا تعطى لغني ولا لمكتسب قوي، وهذا يوجب التثبت والحذر من الجهات المشبوهة أو عصابات التسول.
وكذلك التوازن في البذل وتقديم الأحق فالبعض يجعلها في جهة واحدة فلا يرى البذل في رمضان إلا في مشاريع التفطير دون غيرها، وتبذل أموال بإسراف، والتوسط مطلب وتحقيق كفاية الأقربين والجيران أولى وأحسن، وذلك بإطعام الطعام، وتوزيع السلال الغذائية، وكفالة اليتيم، وسداد ديون المساجين ومن تراكمت عليهم الديون، وإعانة ذويهم..
فاتّقوا الله عباد الله وتحرّوا في صدقاتكم؛ وأخرجوها طيبة بها نفوسكم حتّى تكون مقبولةً عند الله تعالى ربكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعدُ، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن شهر الجود والإحسان دونكم فجودوا جاد الله عليكم، وجودوا على أنفسكم بالعبادة وسائر أنواع الطاعة، وجودوا على أهليكم وذويكم، وجودوا على المستحقين بالبذل والصدقة: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ المزمل:20، ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾. التغابن: 17.
اللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان، اللهم كما وفقتنا لبلوغه فأعنا على صيامه وقيامه إيمانناً واحتسباً، واجعلنا ممن صام الشهر واستكمل الأجر وفاز بليلة القدر فأزحت عنه الذنب والوزر.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم وَفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.
اللهم انصر جنودنا المرابطين، وردهم سالمين ظافرين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.