شموخ الصحيح

سامي بن محمد العمر
1440/06/23 - 2019/02/28 18:45PM

شموخ الصحيح

 في سنة (194ه) استقبلت الأمة الإسلامية مولد علم من أعلامها، وإمام من أئمتها؛

علمٌ إمامٌ ... نشأ يتيماً في كنف والدته، التي أحسنت تربيته والعناية به.

علمٌ ... صنعه الله على عينه، ورقاه بعناية منه في سلم المعالي؛ يتدرج فيه شيئًا فشيئًا حتى فاق الأقران، وسبق الأصدقاء والخلان؛

فبعد أن حفظ كتاب الله شرع في حفظ الحديث ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وأخذ يجمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من علماء بلده؛ حتى بلغ السادسة عشر فخرج للحج مع أمه وأخيه، ولم يرجع معهما بل طاف البلاد في طلب العلم، وحضر مجالس العلماء، والتقى بأكثر من ألف شيخ في مكةَ والمدينةِ والبصرةِ والكوفةِ وبغدادَ وبلادِ الشام ومصرَ وخراسانَ.

ولقد كان نادرة زمانه، وأعجوبة خلانه؛ في سرعة الحفظ، وصحة الوعي، وسيلان الذهن وغزارة العلم وسعة الاطلاع، مع ورع وزهد وعبادة قل نظيرها.

فمن دلائل حفظه قول ابن كثير: أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة.

وقوله عن نفسه: «أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَأَحْفَظُ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرَ صَحِيحٍ».

وأما ورعه فيدل عليه قوله:" أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً".

وأما زهده وعبادته: فكان كثير التلاوة كثير الصلاة كثير الذكر، متوقياً عن المال الحرام.

وفي يوم من أيام الطلب: كان شيخه إسحاق بن راهويه يحدثهم فيقول: (لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فوقع ذلك في قلبه فأخذ يجمع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث ويرتبها في كتاب واحد بحسب أبواب الفقه والعقائد؛ وكان لا يكتب فيه حديثا إلا استخار الله واغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين، وتيقن صحته.

فلما أتمَّ الكتاب: عرضه على أئمة زمانه من شيوخه؛ على: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة.

وأطبقوا على جلالته، وأجمعوا على علو كعبه في العلم ومكانته، وقوة حفظه للحديث وبراعته، وإتقانه لعلم العلل وصنعته، وجودة استنباطه الفقهي وروعته، وجرى الثناء عليه وعلى كتابه في كلامهم، وزينوا به كتبهم ومؤلفاتهم، فانتشر خبره، وذاع صيته، وتسابق الناس إليه، وقراءة كتابه عليه، ونشر الله له القبول فما يخلو بيت علمٍ من كتابه، ولا حلقة عالم من تدارس أبوابه، فكم شارح له ومختصر، ومستدرك ومنتصر، وكم كاشف عن أعلامه ومبهماته، ومبين لغريبه ومشكلاته، وكم راقم في أطرافه ورجاله، ومؤلف في تراجمه وأبوابه.

ونال لقب (أمير المؤمنين في الحديث) بلا منازع، وشهد العلماء لكتابه بالصحة بلا مدافع.

إنه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري؛ صاحب الصحيح الذي اختص بالمرتبة العليا، ووُصِف بأنه لا يوجد كتاب بعد كتاب الله مصنف أصحَّ منه في الدنيا، وذلك لما اشتمل عليه من جمع الأصح والصحيح، وما قرن بأبوابه من الفقه النافع الشاهد لمؤلفه بالترجيح، إلى ما تميز به مؤلفه عن غيره بإتقان معرفة التعديل والتجريح.

قال النسائي: "ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل"

وقال النووي: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان - البخاري ومسلم - وتلقتهما الامة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف؛ ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث".

وقال الذهبي: "أما جامعه الصحيح فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى"

وقال ابن حجر: "ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره؛ لَفنِيَ القرطاس ونفدت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له".

 عباد الله:

منذ أكثر من ألف عام؛ والأمة بعلمائها وعوامها مطبقون على تلقي هذا الصحيح بالقبول، وأنه أصح دليل يدلهم على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، وأسهل طريق لتحقيق أمر الله في قوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانهوا) وقوله (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)..

ذلك لأن البخاري رحمه الله لم ينشئ تلك الأحاديث من نفسه، ولم يؤلفها من خياله؛ بل تلقاها من أفواه المشايخ؛ كلٌ يقول حدثنا شيخنا فلان حتى يصل السند إلى الصحابي الذي أخذه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وكان عمل البخاري باختصار: أنِ انتقى من تلك الأحاديث التي جمعها أصحَّ ما فيها وأبعدَهُ عن الانتقاد؛ فرتبها وجودها في كتابه: الجامع الصحيح.

وهو صحيح البخاري: الذي أصبح من ذاك الزمان غُصة في حلوق أهل البدع والضلال، ودعاة الفساد والانحلال؛ حين يجدون فيه عن رسول الله عليه وسلم ما يقمع باطلهم ويقطع حجتهم؛ فلا سبيل بعد ذلك إلى شهواتهم، ولا طريق إلى نزواتهم إلا بالإطاحة به، والتشكيك فيه.

ولذا قد اعتادت الأمة أن يخرج عليها بين الحين والآخر مُزَيِّفون مُزيَّفون يدَّعون زورًا وبهتانًا أنهم علماء ومثَّقفون، يقلبون الحقائق ويَعتدون على الأصول، ويشككون بلا دليل ولا عقول.

أناس يخاصمون بفجور، ويهذون بغرور؛ لكي يقال عن الواحد منهم: إنه متحرر، مجدِّد، مبدع، وحيد عصره، ونادرة زمانه...

وأناس لا ناقة لهم في العلم ولا جمل، ولا أصل لهم فيه ولا بدل من أهل أعمدة الصحف والفن والرياضة.

كلهم يريدون - بزعمهم - هدم هذا الصرح المزيف، وإزاحة هذه الخرافة عن طريق التقدم والحرية والعقل.

العقل الذي يُحاكمون إليه سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقبلون ما وافق عقولهم منها ويردون ما لم تقبله.

وكأن جمهور العلماء من عصر البخاري وإلى اليوم مجموعة من البُله والمغفلين حتى مرت عليهم هذه الخرافة ولم يدروا بها، وعميت عيونهم عنها فلم يفطنوا لها؛ حتى جاء هؤلاء لينقذوا الأمة من صحيحِ أحاديثِ رسولهم صلى الله عليه وسلم، بعرضها على ميزان العقل.

أي عقل هذا؟ أعقل جدهم الذي علمهم المنطق ؟!

أم عقل أبنائه المعتزلة الزنادقة؟! أم عقل المستشرق ؟! أم عقل العالم بالذرة؟! أم الطبيب أم المهندس أم العامي؟؟

وكلهم يدعي أنه ذو عقل سليم فنسمع كلام من؟؟ ونصدق عقل من؟!

في زمنٍ يؤمن أهله بالتخصص إلا في علوم الشريعة التي أصبحت كلأً مباحاً لكل أحد، يهذي فيها دعاة التخصص فيما لا يخصهم؛ فيأتون بالعجب.

وقد أغناهم عن كل ذلك أهلُ الاختصاص في الحديث من جهابذة العلم وأسياده فقالوا: (هو أصح كتاب بعد كتاب الله ) وكفى بهذا رفعة ومكانة!

 

الخطبة الثانية

أما بعد:

 فيا شباب الإسلام ويا كهول العقيدة:

"لا تحاكموا نصوص الشريعة محاكمة عقلية نقدية؛ لأن منها ما يتعلق بالغيب الذي لا يعرفه العقل.

ومنها ما يتعلق بالمعجزات.

ومنها ما لم يظهر تأويله بعد.

(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)

فلنتأدب مع ديننا.

ولنتواضع أمام علمائنا.

ولا تجرفنَّ شهوة الشهرة رجلاً؛ لكي يبصق في وجه الشمس.

فالشمس هي الشمس، أسمى من أن يدنسها شيء.

وقديمًا قال العباس بن الأحنف:

هي الشمس مسكنها في السماء *** فعزِّ الفؤاد عزاءً جميلاَ

فلن تستطيع إليها الصعودَ *** ولن تستطيع إليك النزولاَ

فمن يبصق على الشمس، فإنما يبصق على نفسه!"([1])

واعلموا أن الهجمةَ المعاصرةَ على ثوابت دين الإسلام علي أيدي العلمانيين والليبراليين والقرآنيين! ومَنْ يُسَمَّون بالمفكرين وأدعياءِ العلم الشرعي وغيرهم،  هجمةٌ ممنهجةٌ ومخططٌ لها؛  فكونوا أمامها سدا منيعا، وسجلوا أسماءكم في سجل الشرف صيانة للدين ودفاعا عن سنة سيد المرسلين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...

([1]) من مقالة في النت بعنوان: أقزام تتطاول على شمس الأعلام البخاري الأشم، د محمد رفعت زنجير.

المشاهدات 970 | التعليقات 0