شكْوى الصحابة رضي الله عنهم لأغنياءِ زمانهم, وفضل الذكر وأثره 23-2-1435
أحمد بن ناصر الطيار
1435/02/23 - 2013/12/26 19:09PM
الحمد لله الواحدِ الأحد, أحقُّ مَن شُكِرَ وحُمد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفردُ الصمد, لم يتخذ والدةً ولا ولد, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أعظم مَن صلى لله وسجد, وأزهدُ من قنت لله وعَبد, لا يطلبُ ما فُقِدْ, ويأكل ما وجد, صلى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه وأزواجه, وسلم تسليمًا كثيرًا, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الهد, {ومن يتق الهق يجعل له من أمره يُسرًا}.
أمة الإسلام, لقد سمعنا في مجالسنا في هذا الزمان, مَن يشتكي الأغنياء والتجار, وما هم فيه من رغدِ العيشِ والاسْتئثار, فهل سمعنا شكْوى الصحابة رضي الله عنهم, لأغنياءِ وتُجَّارِ زمانهم, فهي أغربُ شكوى سُمِعت في التاريخ, فما أجمل أنْ نُمتع أسماعنا, ونُحرك قلوبنا بسماعها, وأخذِ العبرةِ منها.
ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه, أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حزينين مهمومين, فقَالُوا يا رسول الله: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ, أي أهلُ الأموال الكثيرة, بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى, وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
أي أنَّ الأغنياء والتجار, فازوا في الجنة بالدرجات العُلى, والنعيمِ المقيمِ فيها.
فتعجَّب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقَالَ: « وَمَا ذَاكَ ». قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ, وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ.
الله أكبر, إنها همَّةُ الصحابة العظماء, والقادةِ الأجلاء, همَّةٌ تَتَضَعْضَعُ دونها الجبالُ الراسية, والبحارُ الْمُتلاطمة, والحصونُ المنيعة, إنها همَّةٌ جعلتْ منهم رجالاً صنعوا التاريخ, وفتحوا وطهَّروا الأرض, فرضي الله عنهم وأرضاهم, وأخزى الله من تنقَّصهم وآذاهم.
وقارنوا حالنا بحالهم, نحن نشتكي إلى بعضنا؛ اسْتئثار الأغنياء بالأموال والمتاع والطعام, وهم يشتكون إلى بعضهم, اسْتئثار الأغنياء بالدرجات العلى في الجنان.
نحن نشتكي الأغنياء؛ لأنهم سبقونا ببناء القصور والدُّور, وهم يشتكونهم لأنهم سبقوهم بالدرجات والأجور, والفوزِ في دارِ السرورِ والحبور.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبُّه بالكرام فلاح
انظروا ما ذا قال هؤلاء, الذين في ظاهرهم فقراء, وفي باطنهم وهمَّتهم أغنياءُ عظماء, قالوا: يا رسول الله, الأغنياءُ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, فنحن وهم في ذلك سواء, لكنَّهم يَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ, وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ, لأنَّ عندهم من الأموال ما ليس عندنا, فلن نهنأ بعيشٍ واطْمئنان, ونحن نرى أحداً يسبقنا إلى الجنان.
همُّه لله لا في غيره ... ولأجل الله مولاه خضعْ
فَلمَّا سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولهم, وعرف شكواهم, طمْأنهم بكلامٍ جميل, ووعدهم بأجرٍ جزيل, لهم ولكلِّ مَن جاء بعدهم فقال: أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ, أَيْ مِنْ أَهْل الْأَمْوَال, الَّذِينَ اِمْتَازُوا عَلَيْكُمْ بِالصَّدَقَةِ والعطاء.
وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ, أي: تسبقون به أمثالكم, الذين لا يقولون هذه الأذكار.
وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ, إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟.
فتعجَّب هؤلاء الفقراءُ رضي الله عنهم, من هذا العمل العظيم, الذي إذا عملوه أدْركُوا بِهِ مَنْ سَبَقَهم, وَسْبقُوا بِهِ مَنْ بَعْدَهم, وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهم, إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعوا, فقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ, دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ مَرَّةً».
الله أكبر, من قال هذا الذكر اليسير, يكون أجرُه كالمتصدق والمنفق؟, فما أوسع وأعظم فضل الله تعالى.
ولا عجب - يا عباد الله- فهذا الذكر من أفضل وأعظم الأعمال, فهو سببٌ لغفران الذنوب, قال صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ, وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىيءٍ قَدِيرٌ, غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
وقائلهنَّ لا يخيب أبدًا, قال صلى الله عليه وسلم «مُعَقِّبَاتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ, ثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ تَسْبِيحَةً, وَثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ تَحْمِيدَةً, وَأَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ تَكْبِيرَةً». رواه مُسلم
وإذا كان هذا هو فضل هذا الذكر العظيم: فينبغي أن نَهْتم بمعاني هذه الألفاظِ ونستحضرَها, حتى يكون تأثيرُها أقوى، فالتسبيح معناه التنزيه، فإذا قال الذاكر سبحان الله, فمعناه: أُنزه الله تعالى عن النقائص والعيوب.
وإذا قال: الحمد لله، فإنه يستحضرُ نِعم الله عليه, في بدنه ودينه وأهله, فيشكرُه ويحمدُه عليها، ويعترفُ بأنه المنعمُ المتفضلُ عليه وعلى غيره.
وإذا قال: الله أكبر، يستحضر عظمةَ الله وكبرياءَه, وأنه أكبر من كلِّ شيء, أكبر من الدنيا ومتاعها, أكبر من الملوك والوزراء والرؤساء.
فيستحضرُ هذه المعاني عندما يقولُها, فيكونُ لها أثرٌ في عقيدته وسلوكه، هذا هو السبب في شرعية هذه الأذكار, التي جعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمةً مقام الصدقة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وكلُّ قولٍ رَتَّبَ الشارع ما رتب عليه من الثواب, فإنما هو القول التام, كقوله صلى الله عليه وسلم : « مَن قال في يومٍ سُبحَانَ الله وبِحَمْدِه مائة مرّة, حُطّت عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر », وليس هذا مُرتَّباً على مجرّد قول اللسان". ا.ه كلامه
ونحن نرى واقع كثيرٍ مِمَّن يقول هذه الأذكار بعد الصلوات, يقولُها بعجلةٍ وعدمِ تأمُّلٍ بمعانيها ومدلولاتِها, بل بعضُهم يقولها وهو يلتفتُ يمنةً ويسرة بغفلة, وبعضهم يقولُها وهو مشغولُ البال والفكر, وهذا سببٌ لعدم حصول الأجر الوافر للذاكر, وعدمِ تأثير الذكر عليه, فللذِّكرِ لذَّةٌ وحلاوةٌ وبركةٌ على الذاكر, الذي يذكر الهق بقلبه قبل لسانه.
نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا من الذاكرين, وأنْ يرفع درجاتنا في عليِّين, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: وهذه الشكوى من الفقراء للأغنياء, حصلتْ لفقراءَ من الصحابةِ غيرِهم, فليست هذه الشكوى الغريبةُ الفريدة, مُقْتصرةً على بعض الصحابة فقط, بل هذا هو حال الصحابةِ كلِّهم, فقد ثبت في صحيح مسلم , أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ, يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. فقَالَ لهم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ, إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً, وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ, وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ, وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ, وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ, وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ, وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ».
فالفقراءُ ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم, أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة.
وقد يقول قائل: كيف يتَسَاوى فَضْلُ هَذَا الذِّكْر, مع فَضْلِ التَّقَرُّب بِالْمَالِ, مَعَ شِدَّة الْمَشَقَّة فِيهِ، ونفعِه المتعدي للآخرين؟ أَجَابَ العلماء : بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم أَنْ يَكُون الثَّوَاب عَلَى قَدْر الْمَشَقَّة فِي كُلّ حَالَة، وَاسْتَدلّوا لِذَلِكَ, بِفَضْلِ كَلِمَة الشَّهَادَة مَعَ سُهُولَتهَا, عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَات الشَّاقَّة.
"والْعَمَل الْقَاصِر الذي لا يتعدى, كالذكر وقراءة القرآن, قَدْ يُسَاوِي العمل الْمُتَعَدِّي, كالصدقة والجهاد" .
بل هناك أمرٌ أعجب وأعظم, وهو أنَّ الإنسان يُكتب له أجر الصدقةِ كاملة, ليس بهذا الذكر, بل بأمرٍ أسهلُ وأيسرُ منه, وهو النيَّةُ الصادقة الجازمة, أنَّه لو كان له مثل ما عند الغني, لتصدَّق وأنفق وأعطى.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, في الحديث الذي روه الإمام أحمد وصححه الألباني :" وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ, فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ..
فالحديثُ صريحٌ في أنَّ الْمُنْفِقَ وَالْمُتَمَنِّيَ, هما فِي الْأَجْر سَوَاء, بشرط أنْ يكونَ الْمُتَمَنِّيْ صَادِقَ النِّيَّة.
فما أعظم أثرَ النيَّة الصالحة الصادقة, وما أسهلها على الْمُوَفَّقين, وما أصعبها وأشدَّها على الغافلين.
نسأل الله تعالى أنْ يُصلح سرائرنا, ويُعليَ همَّتنا, ويغفرَ تقصيرنا وذنوبنا, إنه على كل شيءٍ قدير.
فاتقوا الله عباد الهد, {ومن يتق الهق يجعل له من أمره يُسرًا}.
أمة الإسلام, لقد سمعنا في مجالسنا في هذا الزمان, مَن يشتكي الأغنياء والتجار, وما هم فيه من رغدِ العيشِ والاسْتئثار, فهل سمعنا شكْوى الصحابة رضي الله عنهم, لأغنياءِ وتُجَّارِ زمانهم, فهي أغربُ شكوى سُمِعت في التاريخ, فما أجمل أنْ نُمتع أسماعنا, ونُحرك قلوبنا بسماعها, وأخذِ العبرةِ منها.
ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه, أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حزينين مهمومين, فقَالُوا يا رسول الله: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ, أي أهلُ الأموال الكثيرة, بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى, وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
أي أنَّ الأغنياء والتجار, فازوا في الجنة بالدرجات العُلى, والنعيمِ المقيمِ فيها.
فتعجَّب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقَالَ: « وَمَا ذَاكَ ». قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ, وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ.
الله أكبر, إنها همَّةُ الصحابة العظماء, والقادةِ الأجلاء, همَّةٌ تَتَضَعْضَعُ دونها الجبالُ الراسية, والبحارُ الْمُتلاطمة, والحصونُ المنيعة, إنها همَّةٌ جعلتْ منهم رجالاً صنعوا التاريخ, وفتحوا وطهَّروا الأرض, فرضي الله عنهم وأرضاهم, وأخزى الله من تنقَّصهم وآذاهم.
وقارنوا حالنا بحالهم, نحن نشتكي إلى بعضنا؛ اسْتئثار الأغنياء بالأموال والمتاع والطعام, وهم يشتكون إلى بعضهم, اسْتئثار الأغنياء بالدرجات العلى في الجنان.
نحن نشتكي الأغنياء؛ لأنهم سبقونا ببناء القصور والدُّور, وهم يشتكونهم لأنهم سبقوهم بالدرجات والأجور, والفوزِ في دارِ السرورِ والحبور.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبُّه بالكرام فلاح
انظروا ما ذا قال هؤلاء, الذين في ظاهرهم فقراء, وفي باطنهم وهمَّتهم أغنياءُ عظماء, قالوا: يا رسول الله, الأغنياءُ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, فنحن وهم في ذلك سواء, لكنَّهم يَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ, وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ, لأنَّ عندهم من الأموال ما ليس عندنا, فلن نهنأ بعيشٍ واطْمئنان, ونحن نرى أحداً يسبقنا إلى الجنان.
همُّه لله لا في غيره ... ولأجل الله مولاه خضعْ
فَلمَّا سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولهم, وعرف شكواهم, طمْأنهم بكلامٍ جميل, ووعدهم بأجرٍ جزيل, لهم ولكلِّ مَن جاء بعدهم فقال: أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ, أَيْ مِنْ أَهْل الْأَمْوَال, الَّذِينَ اِمْتَازُوا عَلَيْكُمْ بِالصَّدَقَةِ والعطاء.
وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ, أي: تسبقون به أمثالكم, الذين لا يقولون هذه الأذكار.
وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ, إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟.
فتعجَّب هؤلاء الفقراءُ رضي الله عنهم, من هذا العمل العظيم, الذي إذا عملوه أدْركُوا بِهِ مَنْ سَبَقَهم, وَسْبقُوا بِهِ مَنْ بَعْدَهم, وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهم, إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعوا, فقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ, دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ مَرَّةً».
الله أكبر, من قال هذا الذكر اليسير, يكون أجرُه كالمتصدق والمنفق؟, فما أوسع وأعظم فضل الله تعالى.
ولا عجب - يا عباد الله- فهذا الذكر من أفضل وأعظم الأعمال, فهو سببٌ لغفران الذنوب, قال صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ, فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ, وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىيءٍ قَدِيرٌ, غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
وقائلهنَّ لا يخيب أبدًا, قال صلى الله عليه وسلم «مُعَقِّبَاتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ, ثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ تَسْبِيحَةً, وَثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ تَحْمِيدَةً, وَأَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ تَكْبِيرَةً». رواه مُسلم
وإذا كان هذا هو فضل هذا الذكر العظيم: فينبغي أن نَهْتم بمعاني هذه الألفاظِ ونستحضرَها, حتى يكون تأثيرُها أقوى، فالتسبيح معناه التنزيه، فإذا قال الذاكر سبحان الله, فمعناه: أُنزه الله تعالى عن النقائص والعيوب.
وإذا قال: الحمد لله، فإنه يستحضرُ نِعم الله عليه, في بدنه ودينه وأهله, فيشكرُه ويحمدُه عليها، ويعترفُ بأنه المنعمُ المتفضلُ عليه وعلى غيره.
وإذا قال: الله أكبر، يستحضر عظمةَ الله وكبرياءَه, وأنه أكبر من كلِّ شيء, أكبر من الدنيا ومتاعها, أكبر من الملوك والوزراء والرؤساء.
فيستحضرُ هذه المعاني عندما يقولُها, فيكونُ لها أثرٌ في عقيدته وسلوكه، هذا هو السبب في شرعية هذه الأذكار, التي جعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمةً مقام الصدقة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وكلُّ قولٍ رَتَّبَ الشارع ما رتب عليه من الثواب, فإنما هو القول التام, كقوله صلى الله عليه وسلم : « مَن قال في يومٍ سُبحَانَ الله وبِحَمْدِه مائة مرّة, حُطّت عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر », وليس هذا مُرتَّباً على مجرّد قول اللسان". ا.ه كلامه
ونحن نرى واقع كثيرٍ مِمَّن يقول هذه الأذكار بعد الصلوات, يقولُها بعجلةٍ وعدمِ تأمُّلٍ بمعانيها ومدلولاتِها, بل بعضُهم يقولها وهو يلتفتُ يمنةً ويسرة بغفلة, وبعضهم يقولُها وهو مشغولُ البال والفكر, وهذا سببٌ لعدم حصول الأجر الوافر للذاكر, وعدمِ تأثير الذكر عليه, فللذِّكرِ لذَّةٌ وحلاوةٌ وبركةٌ على الذاكر, الذي يذكر الهق بقلبه قبل لسانه.
نسأل الله تعالى أنْ يجعلنا من الذاكرين, وأنْ يرفع درجاتنا في عليِّين, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: وهذه الشكوى من الفقراء للأغنياء, حصلتْ لفقراءَ من الصحابةِ غيرِهم, فليست هذه الشكوى الغريبةُ الفريدة, مُقْتصرةً على بعض الصحابة فقط, بل هذا هو حال الصحابةِ كلِّهم, فقد ثبت في صحيح مسلم , أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ, يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ, وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. فقَالَ لهم: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ, إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً, وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ, وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ, وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ, وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ, وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ, وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ».
فالفقراءُ ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم, أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة.
وقد يقول قائل: كيف يتَسَاوى فَضْلُ هَذَا الذِّكْر, مع فَضْلِ التَّقَرُّب بِالْمَالِ, مَعَ شِدَّة الْمَشَقَّة فِيهِ، ونفعِه المتعدي للآخرين؟ أَجَابَ العلماء : بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم أَنْ يَكُون الثَّوَاب عَلَى قَدْر الْمَشَقَّة فِي كُلّ حَالَة، وَاسْتَدلّوا لِذَلِكَ, بِفَضْلِ كَلِمَة الشَّهَادَة مَعَ سُهُولَتهَا, عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَات الشَّاقَّة.
"والْعَمَل الْقَاصِر الذي لا يتعدى, كالذكر وقراءة القرآن, قَدْ يُسَاوِي العمل الْمُتَعَدِّي, كالصدقة والجهاد" .
بل هناك أمرٌ أعجب وأعظم, وهو أنَّ الإنسان يُكتب له أجر الصدقةِ كاملة, ليس بهذا الذكر, بل بأمرٍ أسهلُ وأيسرُ منه, وهو النيَّةُ الصادقة الجازمة, أنَّه لو كان له مثل ما عند الغني, لتصدَّق وأنفق وأعطى.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, في الحديث الذي روه الإمام أحمد وصححه الألباني :" وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ, فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ..
فالحديثُ صريحٌ في أنَّ الْمُنْفِقَ وَالْمُتَمَنِّيَ, هما فِي الْأَجْر سَوَاء, بشرط أنْ يكونَ الْمُتَمَنِّيْ صَادِقَ النِّيَّة.
فما أعظم أثرَ النيَّة الصالحة الصادقة, وما أسهلها على الْمُوَفَّقين, وما أصعبها وأشدَّها على الغافلين.
نسأل الله تعالى أنْ يُصلح سرائرنا, ويُعليَ همَّتنا, ويغفرَ تقصيرنا وذنوبنا, إنه على كل شيءٍ قدير.
المشاهدات 3447 | التعليقات 3
وإياك شيخ أبا محمد الغامدي, وهذا شرف لي ,, ويشرفني زيارتكم لموقعي: جامع عبد الله بن نوفل بالزلفي ,, ففيه جميع خطبي الصوتية والمقروءة وغيرها ..
بورك فيك شيخ أحمد
الخطبة رائعة جدا والطرح مميز وشيق نفع الله بك ذكرتنا بهمم أولئك الذين زهدوا في الدنيا ورغبوا فيما عند الله
عسانا بحبنا لهم أن يحشرنا ربي في زمرتهم
أبو محمد الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خير الجزاء أخي الكريم الشيخ أحمد خطبة رائعة ..
غدا ستكون خطبتي بإذن الله ..,,
تعديل التعليق