شكر الله على نعمة الأمن وأثره باستقرار الأمة
عبد الله بن علي الطريف
شكر الله على نعمة الأمن وأثره باستقرار الأمة 1445/10/17هـ موافقة للتعميم
الحمد لله الذي بنِعْمَتِهِ كَثَّرَنا بعدَ القِلَّة، وأغنَانا بعدَ العَيْلَة، وجَمَعَنا بعدَ الفُرْقَة، وقوَّانَا بعدَ الضَّعْف، وآمَنَنا بعدَ الخَوْف، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]
أما بعد أيها الأحبة: قال الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة:126] المتأملُ للترتيب اللفظي لدعائه عليه السلام يجده بدأ بنعمة الأمن ذلك أن الأمن من أعظم نعم الله التي يجب أن نَذكرَها ونُذكِّر بها، وهي أعظمُ من نعمةِ الرزق والصحة؛ ولذلك قُدمت عليهما في هذه الآية الكريمة.! ذلك أن المرض والجوع يجد الإنسانُ من يداويه ويطعمه ويواسيه فيَصِحُ بإذن الله.. أما من فقد الأمنَ؛ فلا طعمَ مع فقدِهِ لطعامٍ يأكلُه.. أو شَرْبَةٍ يشربُها وهو متوجسٌ قلِقٌ من قصفٍ.. أو خائفٌ من مداهمة.. أو مذعورٌ من مطاردة.. أو ملهوفٌ على ضياعِ مالِه وأهلِه.. وأي لذة لخائفٍ في غفوةِ نومٍ يغفُوها تتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع.. وأي علمٍ وتعليم يُنْتَفَعُ به وسط أجواء محفوفة بالمخاطر.؟! إذ لا حياة هنية لمن فقد الأمن واستولى عليه الخوف فالضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من فقد الرزق وألم الجَسَد..
أيها الإخوة: إن وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح نفسه.. وتحلوا الحياة بعينيه.. ويتفتق بيانه بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.
ومن عَظيمِ ما جاءَ عَنْ النَّبيِّ ﷺ قوله: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». وفي رواية: «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها». رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه.
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرة، حوت مَعْنَى الحياةِ الحقة، والاستقرارِ الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرءِ صورةَ الحياة بكلِ تفاصيلها.. حُلوها ومرها.. وسهلِها وصعبِها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا ينشده الإنسان أكثر من مأوى آمن.. وعافية في البدن.. وتوفر في القوت يسد الجوعة.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فمن اجتمعت له تلك الثلاث حاز الدنيا كلَها بين يديه بمتعها.
إنها عبارات سهلة على كلِ لسانٍ، غيرَ أنَّ وصفَ النَّبيِّ ﷺ لها بكونها تُعادلُ حيازةَ الدنيا بحذافيرها يجعلُ كلَ واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقعِ حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرِها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أَمْنُ الْمَرءِ فِي سِرْبِهِ أيها الأحبة: مطلبُ الفردِ والمجتمعات على حدِّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلافِ مشاربها..
وكل مجتمعٍ يفقدُ الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقدٌ لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياةٍ يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهبِ الناهبين.. وجشعِ الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائرَ.. ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب يخشى القوارع..
وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة للأجيال الصاعدة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا دائمًا، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وانتهاكًا لحرماتها، ونهبًا لخيراتها.
أيها الأحبة: للأمن مصدران أساسيان، الأول: السلطة التنفيذية والقوة القضائية، والثاني: الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. ولن تتمكن أيّ دولة مهما أُوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بالسلطة والقوة القضائية وحدها، إذا لم يصاحبها الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة أولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. استجابة لرب العالمين القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: أمر الله بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمرُ دينهم ودنياهم إلا بطاعتِهم والانقياد لهم، طَاعةً لله ورغبةً فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. وَقَالَ عُبادَةُ بنُ الصَّامتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ»، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» رواه البخاري ومسلم.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين بحفظك واجمع كلمتنا ووحد صفوفنا، تحت قيادتنا، واكفنا شر الفرقة إنك جواد كريم.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد الله الذي أنعم علينا بالأمنِ والإيمان، والسلامةِ والإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعدَ الموحدين بالأمنِ من الخوف، والهدايةِ من الضلال، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً..
أَمَا بَعْدُ أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. واعلموا أن الأمن الذي نعيشه، ووحدة الصف التي تسود بلادنا، واجتماع الكلمة تحت قيادة واحدة، نعمة عظمى يجب علينا شكرها، فقد قال الله تعالى حاثًا على شكر نعمه عمومًا: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7] قال السعدي رحمه الله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي: أعلم ووعد، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) من نعمي (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) ومن ذلك أن يُزيل عنهم النعمة التي أنعم بها عليهم.. والشكر: هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها، وصرفها في مرضاة الله تعالى، وكفر النعمة ضد ذلك.. ونعمة الأمن ووحدة الصف، واجتماع الكلمة تحت قيادة واحدة، هو بفضل الله تعالى أولاً، ثم هو نتيجة لتحقيق عبادة الله تعالى وتوحيده، والالتزام بالشرع، عقيدة وسلوكاً والسمع والطاعة لمن ولاه اللهُ أمرنا.. وله آثار كثيرة، ومن أبرز ذلك.
ما ذكره سماحة المفتي حفظة الله بأن لاجتماع الكلمة والسمع والطاعة لولي الأمر فوائد كثيرة عظيمة ذكر منها: أنها سبب للخلوص من الفتن والمصائب.. لما أخبر النبي ﷺ عن الشر الذي يقع في آخر الزمان؛ قال آمراً حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ، قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». رواه البخاري.
ومنها حصول البركة والخير بالاجتماع يقول الله تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران:103]. ويخاطب النبي ﷺ الأنصار، فيقول لهم: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي». رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ومن آثار الاجتماع على ولي أمرٍ واحد: قوة المؤمنين، ورعب عدوهم منهم، فإن الأمة إذا اجتمعت كانت قوة لا تغلب، وإذا نظر الأعداء إليها فوجدوها قوة متماسكة منتظمة، بعضها يشد أزر بعض، ويقوي بعضها بعضا، ويعين بعضها بعضا، وينصح بعضها بعضا؛ أصبحت قوة لا تغلب، فتتحقق القوة للدولة فلا يتمكن منها الأعداء.. واحذروا سماع الشائعات التي يبثها دعاة الفتن الذين تسببوا على كثير من بلدان المسلمين بالحروب والدمار والشتات والانفلات، واكتوى أهلها بنار الخوف والرعب، وفقدوا الأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.. اللهم احفظ لنا أمننا وأمّن من فقد الأمن من المسلمين.. وصلوا وسلموا