شقائق الرجال.
عاصم بن محمد الغامدي
1438/02/18 - 2016/11/18 10:51AM
[align=justify]شقائق الرجال.
الخطبة الأولى:
الحمد لله فالق الحب والنوى، وخالق العبد وما نوى، المطلِّع على باطن الضمير وما حوى، صارفِ من شاء إلى الهدى وعاطف من شاء إلى الهوى، أحمده على صرف الهم والجوى، حمد من أناب وارعوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما نشر وطوى، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله وعود الهدى قد ذَوَى، فسقاه ماء المجاهدة حتى ارتوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فتقوى الله حياة القلوب، وبها النجاة عند علام الغيوب، كم قاطعٍ زمانه بالتسويف، بائعٍ دينه بالحبة والرغيف، مشترٍ للويل بتطفيف الطفيف، يتمنى العودَ إذا رأت نفسه ما يذهلُها {ولن يؤخر اللهُ نفسًا إذا جاء أجلُها}.
كم مشغولٍ بالقصور يعمرُها، لا يفكر في القبور ولا يذكرُها، يبيتُ الليالي في فكر الدنيا ويسهرها، وقع في أشراك المنايا وهو لا يبصرها، أفٍ لدنيا هذا آخرها وآهٍ لأخرى هذا أولها {ولن يؤخر اللهُ نفسًا إذا جاء أجلُها}.
أيها المسلمون:
العالم اليوم سريع التغير، كثير التقلب، ما كان ممنوعًا عند الكثيرين بالأمس، سمحوا به اليوم تحت الضغوطات المختلفة، وما كان من المهمات، طوته أرض النسيان.
ولم يسلم أحد من التأثر، فالواقع يضع الجميع على صفيح ساخن متحرك، من توقى السقوط آذاه الاحتراق.
وأكثر الخاسرين من المتأثرين، من نسي في خضم البحر الهائج طريقةَ السباحة، ووسيلةَ النجاة، فأرخى زمامه للمؤثرات تقوده ذات الشمال وذات اليمين، وسلَّمَ عقلَه للأفكار الجديدة دون خطام ولا لجام.
وأكبر الرابحين من وفقه الله، فكان سيدًا في مجتمعه، سدًا منيعًا أمام سيول الشهوات، وحصنًا حصينًا أمام هجوم الشبهات، مؤثرًا لا متأثرًا، قائدًا لا مقودًا، يحسن التعامل مع زمانه، واحتواءَ مَن حوله من أهله وجيرانه.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
عباد الله:
مما يحز في الخاطر، انسياق بعض المسلمين، وراء دعواتِ المغرضين، المتعلقة بتحرر المرأة وتحريرها، تحت شعاراتٍ ولافتات مختلفة، ظاهرُها فيه الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.
كانت المرأة في الجاهلية كائنًا مستعْبدًا، تورَث مع المتاع، وتلحِقُ العارَ بأهلها بمجرَّد ولادتها، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وربما ضاقت عليه الدنيا حتى يئدها، خشية الإملاق والعار.
أما حقوقها الزوجية فيخبرنا عنها ابن عبَّاس - رضي الله عنهما – بقوله: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِمْ صَدَاقَهَا". [رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح].
ولم يكن للطلاق عندهم عدد، فالزوجُ أحق بزوجته إن أرادها، وإن طلقها مئة مرة.
ويا له من ظلم شديد، وضرر أكيد، يلحق المرأة بهذه التصرفات، ويحطُّ من قدرها ومكانتها.
أما جاهلية اليوم، فتصورها حالة العديد من المجتمعات الغربية، فقد ارتفعت في بعض الدول نسبة الأمهات اللواتي يدفعن نفقة الأطفال في السنوات الثلاث الأولى، وأدهى من ذلك إلزام المرأة إذا كانت غنية بنفقة زوجها حتى لو وقع الطلاق، ولهذا أصبح كثير منهم يعيشون بلا زواج سنوات عديدة، وربما ينجبون، ثم يهجر كل طرف منهم الآخر بأدنى خلاف، وفي أمريكا لوحدها أكثر من عشرة ملايين أسرة تعولها الأم لوحدها. [مرجع هذه المعلومات: http://www.alukah.net/social/0/28502/]، و[http://www.skynewsarabia.com/web/article/20418/%D8%A7%D9%94%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D9%82%D8%A9-%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%AC].
أما في شريعة الله تعالى، فقد حظيت المرأة بصيانة تامة، وحقوق كاملة، فخصها الله جل جلاله بأمور تناسب خلقتها، وأشركها مع الرجل في أمور لا تعارض فطرتها، وأكد على حقوقها، وحذر من ظلمها، وجعل لها شخصيتها المستقلة في تعاملاتها وتعاقداتها.
أيها المسلمون:
نصت الشريعة على أن التفاضل بين الأفراد بالتقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
والمرأةُ ذاتُ مسؤولية مستقلة عن مسؤولية الرجل؛ وهي مسؤولةٌ عن نفسها، وعبادتها، وبيتها، وجماعتها، ولا تقلُّ في مطلق المسؤولية عن مسؤوليةِ الرجل، ولهذا فالجزاء الأخروي لا علاقة له بجنس المكلف: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.
أما حقوق الميراث فمحفوظة للجنسين: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}.
وما يذكره البعض من التفاضل بين الذكر والأنثى، في كل حالات الميراث، جهلٌ وفهمٌ قاصر، ففي كثيرٍ من حالات الإرث في الإسلام، تأخذ المرأةُ ضعف ما يأخذه الرجل؛ لأن الأمر لا يتعلق بجنس الوارث، بل هي حكمة الله تعالى وشريعته، التي لا يملك المؤمن معها إلا التسليم.
والمرأة أمًا وزوجًا وأختًا وبنتًا، هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم ففي خطبة حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس، قَائلاً: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ لَكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلَا يُوَطِّئْنَّ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
ومن صيانة المرأة، ما رواه الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَالِ».
وقال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْتُ أَنَا وَهُوَ الجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ»، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ. [رواه الترمذي وصححه الألباني].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد عباد الله:
فقد كثر الحديث عن الولاية والقوامة، دون تفريق عند أكثر المتحدثين بها بين معانيها، وبعضهم يقصد التدليس بالتعميم، ويسعى إلى تزييف ما أثبته الشارع الحكيم.
أما القوامة فدرجة جعلها الله تعالى للرجل، المقصدُ منها قيادة المنزل، وعدم اضطراب حركته، وليس لها علاقة بالتسلط على المرأة، أو حرمانها من حقوقها، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
وهي كما قال الأول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
أما الولاية، فهي نوعان، ولاية على المال، وولاية على النفس، فولاية المال لا تكون إلا على القاصر سنًا أو عقلاً، وهي إما للأب أو لمن يقيمه الحاكم الشرعي من أهل الديانة والكفاءة والأمانة، والمقصد منها حفظ مال القاصر المولى عليه، وتنميته له، وعدم تضييعه.
أما ولاية النفس فهي ولاية التزويج التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن].
ومن حكم هذه الولاية صيانة المرأة عن البحث في حال الخطَّاب، الذي لا يعرف إلا من خلال مخالطة الرجال، وحفظ حياءها، عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ». [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وما عدا ذلك من التعاملات المالية، والتصرف في الأموال، فهي فيه مثل الرجل، سواء بسواء، تسأل عنه من أين اكتسبته، وفيم أنفقته، وتحاسب عليه، يوم تلقى الله.
ولا أدل على استقلالها في حقوقها، من إثبات حق البيعة لها، على خطورته، وشدة أهميته، وهذا يعني أهلية النساء الكاملة للوفاء بالعقود والمواثيق، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذا بيان شيء من مكانة المرأة في دين الله، ليس كما يصوره أعداؤه، ولا كما يظنه بعض الغافلين، فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.[/align]
الخطبة الأولى:
الحمد لله فالق الحب والنوى، وخالق العبد وما نوى، المطلِّع على باطن الضمير وما حوى، صارفِ من شاء إلى الهدى وعاطف من شاء إلى الهوى، أحمده على صرف الهم والجوى، حمد من أناب وارعوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما نشر وطوى، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله وعود الهدى قد ذَوَى، فسقاه ماء المجاهدة حتى ارتوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فتقوى الله حياة القلوب، وبها النجاة عند علام الغيوب، كم قاطعٍ زمانه بالتسويف، بائعٍ دينه بالحبة والرغيف، مشترٍ للويل بتطفيف الطفيف، يتمنى العودَ إذا رأت نفسه ما يذهلُها {ولن يؤخر اللهُ نفسًا إذا جاء أجلُها}.
كم مشغولٍ بالقصور يعمرُها، لا يفكر في القبور ولا يذكرُها، يبيتُ الليالي في فكر الدنيا ويسهرها، وقع في أشراك المنايا وهو لا يبصرها، أفٍ لدنيا هذا آخرها وآهٍ لأخرى هذا أولها {ولن يؤخر اللهُ نفسًا إذا جاء أجلُها}.
أيها المسلمون:
العالم اليوم سريع التغير، كثير التقلب، ما كان ممنوعًا عند الكثيرين بالأمس، سمحوا به اليوم تحت الضغوطات المختلفة، وما كان من المهمات، طوته أرض النسيان.
ولم يسلم أحد من التأثر، فالواقع يضع الجميع على صفيح ساخن متحرك، من توقى السقوط آذاه الاحتراق.
وأكثر الخاسرين من المتأثرين، من نسي في خضم البحر الهائج طريقةَ السباحة، ووسيلةَ النجاة، فأرخى زمامه للمؤثرات تقوده ذات الشمال وذات اليمين، وسلَّمَ عقلَه للأفكار الجديدة دون خطام ولا لجام.
وأكبر الرابحين من وفقه الله، فكان سيدًا في مجتمعه، سدًا منيعًا أمام سيول الشهوات، وحصنًا حصينًا أمام هجوم الشبهات، مؤثرًا لا متأثرًا، قائدًا لا مقودًا، يحسن التعامل مع زمانه، واحتواءَ مَن حوله من أهله وجيرانه.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
عباد الله:
مما يحز في الخاطر، انسياق بعض المسلمين، وراء دعواتِ المغرضين، المتعلقة بتحرر المرأة وتحريرها، تحت شعاراتٍ ولافتات مختلفة، ظاهرُها فيه الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.
كانت المرأة في الجاهلية كائنًا مستعْبدًا، تورَث مع المتاع، وتلحِقُ العارَ بأهلها بمجرَّد ولادتها، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وربما ضاقت عليه الدنيا حتى يئدها، خشية الإملاق والعار.
أما حقوقها الزوجية فيخبرنا عنها ابن عبَّاس - رضي الله عنهما – بقوله: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِمْ صَدَاقَهَا". [رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح].
ولم يكن للطلاق عندهم عدد، فالزوجُ أحق بزوجته إن أرادها، وإن طلقها مئة مرة.
ويا له من ظلم شديد، وضرر أكيد، يلحق المرأة بهذه التصرفات، ويحطُّ من قدرها ومكانتها.
أما جاهلية اليوم، فتصورها حالة العديد من المجتمعات الغربية، فقد ارتفعت في بعض الدول نسبة الأمهات اللواتي يدفعن نفقة الأطفال في السنوات الثلاث الأولى، وأدهى من ذلك إلزام المرأة إذا كانت غنية بنفقة زوجها حتى لو وقع الطلاق، ولهذا أصبح كثير منهم يعيشون بلا زواج سنوات عديدة، وربما ينجبون، ثم يهجر كل طرف منهم الآخر بأدنى خلاف، وفي أمريكا لوحدها أكثر من عشرة ملايين أسرة تعولها الأم لوحدها. [مرجع هذه المعلومات: http://www.alukah.net/social/0/28502/]، و[http://www.skynewsarabia.com/web/article/20418/%D8%A7%D9%94%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D9%82%D8%A9-%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%AC].
أما في شريعة الله تعالى، فقد حظيت المرأة بصيانة تامة، وحقوق كاملة، فخصها الله جل جلاله بأمور تناسب خلقتها، وأشركها مع الرجل في أمور لا تعارض فطرتها، وأكد على حقوقها، وحذر من ظلمها، وجعل لها شخصيتها المستقلة في تعاملاتها وتعاقداتها.
أيها المسلمون:
نصت الشريعة على أن التفاضل بين الأفراد بالتقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
والمرأةُ ذاتُ مسؤولية مستقلة عن مسؤولية الرجل؛ وهي مسؤولةٌ عن نفسها، وعبادتها، وبيتها، وجماعتها، ولا تقلُّ في مطلق المسؤولية عن مسؤوليةِ الرجل، ولهذا فالجزاء الأخروي لا علاقة له بجنس المكلف: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.
أما حقوق الميراث فمحفوظة للجنسين: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}.
وما يذكره البعض من التفاضل بين الذكر والأنثى، في كل حالات الميراث، جهلٌ وفهمٌ قاصر، ففي كثيرٍ من حالات الإرث في الإسلام، تأخذ المرأةُ ضعف ما يأخذه الرجل؛ لأن الأمر لا يتعلق بجنس الوارث، بل هي حكمة الله تعالى وشريعته، التي لا يملك المؤمن معها إلا التسليم.
والمرأة أمًا وزوجًا وأختًا وبنتًا، هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم ففي خطبة حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس، قَائلاً: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ لَكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلَا يُوَطِّئْنَّ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
ومن صيانة المرأة، ما رواه الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَالِ».
وقال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْتُ أَنَا وَهُوَ الجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ»، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ. [رواه الترمذي وصححه الألباني].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد عباد الله:
فقد كثر الحديث عن الولاية والقوامة، دون تفريق عند أكثر المتحدثين بها بين معانيها، وبعضهم يقصد التدليس بالتعميم، ويسعى إلى تزييف ما أثبته الشارع الحكيم.
أما القوامة فدرجة جعلها الله تعالى للرجل، المقصدُ منها قيادة المنزل، وعدم اضطراب حركته، وليس لها علاقة بالتسلط على المرأة، أو حرمانها من حقوقها، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
وهي كما قال الأول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
أما الولاية، فهي نوعان، ولاية على المال، وولاية على النفس، فولاية المال لا تكون إلا على القاصر سنًا أو عقلاً، وهي إما للأب أو لمن يقيمه الحاكم الشرعي من أهل الديانة والكفاءة والأمانة، والمقصد منها حفظ مال القاصر المولى عليه، وتنميته له، وعدم تضييعه.
أما ولاية النفس فهي ولاية التزويج التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن].
ومن حكم هذه الولاية صيانة المرأة عن البحث في حال الخطَّاب، الذي لا يعرف إلا من خلال مخالطة الرجال، وحفظ حياءها، عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ». [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وما عدا ذلك من التعاملات المالية، والتصرف في الأموال، فهي فيه مثل الرجل، سواء بسواء، تسأل عنه من أين اكتسبته، وفيم أنفقته، وتحاسب عليه، يوم تلقى الله.
ولا أدل على استقلالها في حقوقها، من إثبات حق البيعة لها، على خطورته، وشدة أهميته، وهذا يعني أهلية النساء الكاملة للوفاء بالعقود والمواثيق، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذا بيان شيء من مكانة المرأة في دين الله، ليس كما يصوره أعداؤه، ولا كما يظنه بعض الغافلين، فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.[/align]