شفاء لما في الصدور
د. منال محمد أبو العزائم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم ومثله معه من السنة المطهرة. وهو رسالة الله للبشرية، وكلامه المقدس الذي هدى به الناس، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وأعجز به العالم وأسكتَ به أفواه الطاعنين. وذلك لرصانتِه ومتانته وجميل نظمه وعظيم آياته. وهو نور الله الذي نستهدي به في الأرض حتى لا نضيع ونحيد عن جادة الطريق. معجزاته لا تنتهي وآياته في تجدد دائم. شهد له الناس في مشارق الأرض ومغاربها بالتميز والإعجاز. وكم من حقائق اكتشفها الناس ثم وجدوا القرآن قد سبقهم إليها بمئات السنين. وكم من أسرار في الكون أشار الله إليها في آياته البينات قبل أن يصل اليها البشر أو حتى يعلموا بوجودها. ومع كل هذا الإعجاز نجده مكسوٌ بحلة الجمال الأدبي والبلاغة الربانية والإعجاز اللغوي. قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ). آياته كريمةٌ بكرم قائلها، ومهيبة بعظمته وجلاله. فلا أحد ينكر سحر بيانه حتى ولو كان كافراً. ولا أحد ينكر حقائقه العلمية التي أدهش بها العلماء والباحثين. وهو مع ذلك يشكل دليل المستخدم للبشرية الذي يرشدهم لكيفية استخدام أعمارهم وأموالهم وأنفسهم حتى تسهل عليهم الحياة ويصلون لجنة الخلد التي هي دار السلام والخلود. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[1]. ففيه أوامر الله وتعاليمه التي نأتمر بها ونستهدي بهديها ونقيم بها العدل والخلافة على الأرض. فكم من ضال بعيد عن القرآن تاه الطريق وأصابه اليأس والاكتئاب، وأظلمت عليه الحياة بأوجاعها وآلامها ومتاهاتها. فإن رُِفع عنَّا القرآن فأين نذهب؟ وماذا نفعل بحالنا؟ وكيف سندبر أمورنا ونتخذ قرارتنا على وجه الأرض؟ وكيف سنتعايش مع بعضنا البعض؟ وما الذي سيحفظ لنا حقوقنا ويهذب لنا أخلاقنا ويطبب لنا قلوبنا؟ تلك القلوب التي كانت حائرة حتى وجدت كلام الله، فأصبحت متعطشة لحبه وملاقاته ... ولكن لا سبيل لذلك؛ حيث قضى الله ألا نراه في هذه الحياة الدنيا. ولكنه أرسل لنا سراجه المنير الذي نور حياتنا، وحبله المتين الذي نتمسك به ونتصبر حتى نلقاه يوم موتنا. ونسأل الله أن يكون ذلك هو أسعد أيامنا. وأن يحشرنا في زمرة حفظته إلى أعلى الجنان. حيث نلقاه وننظر إليه دون حجاب، ونمتع أبصارنا برؤيته وهو ضاحك الينا وراضٍ عنا. فنبرد اشواقنا التي أرَّقَّت ليلنا وخالطت نومنا ويقظتنا. تلك الأشواق التي لا تنتهي إلا بالموت والنجاة. أنها أشواق من وراء الخوف والحياء مما فعلت أيدينا. ونعوذ بالله أن نكون من المحرومين؛ الذين لن يروه ولن يطالوا الأمن منه. إن هذا خوف لا ينتهي ما دمنا أحياء ... خوف من الرفض والإبعاد، ومن الذل والخسران، ومن المعاصي والتقصير. فليس لنا إلا القرآن يطبب قلوبنا ويكبح من أشواقها ومخاوفها. إنه كلام رب العالمين الذي يُطرِب الأسماع وتسري آثار آياته في أرواحنا بموجات عذبة سلسة ... تهدِّئ أعصابنا وتسكِّن جروحنا وأحزاننا، وتشفي أسقامنا. إنه دواء هذه الدنيا ولقاحها الذي يحمينا ويحفظنا من الأمراض الروحية والجسدية. قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[2]. نعم هو كذلك … شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين. فكم من ساعات عصيبة تمر بنا ولا ييسرها أو يجبرها إلا كلام الرحمن؛ الذي يرحم عباده ويلطف بهم ويخفف عنهم ويواسيهم في وحدتهم وآلامهم. قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)[3]. فكم يواسينا هذا الحديث ويدخل السرور على قلوبنا ويُخجل تواضعنا. فالله تعالى بقدر جلاله يذكرنا إذا ذكرناه، ويتقرب إلينا إذا تقربنا اليه، ويأتينا هرولة إذا أتيناه مشيا. فيا ربي ما أعظمك وأحلمك بنا وأصبرك على جهالاتنا وتقصيرنا وهفواتنا. فأنت ملك الملوك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها؛ ونحن لسنا إلا أفراداً من خلقك الذي خلقت منه ما لا يتسنى لنا عده أو حصره. نحن لسنا إلا بشر لا نقدر حتى على إطعام أنفسنا إن لم تتطعما ... ولا نقدر على السمع إن لم تسمعنا ولا على الإبصار إن لم تبصرنا. نحن لا نقدر على شيء إلا بحولك وقوتك. اعترفنا لك بالتوحيد والوحدانية، وبالقدرة والابداع، وبالعظمة والجلال. ونعلم أنك قادر على إهلاكنا بما كسبت أيدينا. فنسألك يا الله أن تعفو عنا وترحمنا إذا أتانا ملك الموت، وأن تثبتنا عند السؤال إذا سألنا الملكين، وأن تنور قبورنا إذا صرنا إليها واستقرينا تحت ترابها. يا رب آنسنا فيها بكلامك كما ءانستنا به فوق الأرض، واجعلها روضة من رياض الجنة ونعيماً من نعيمها. واجعل القرآن الكريم رفيقنا فيها وأنيسنا وجليسنا؛ عندما يتركنا الاحباب ويلقوا على وجوهنا التراب ثم ينصرفوا وينسوا أمرنا ومآلنا. ولا يبقى لنا فيها إلا أعمالنا وكلامك الذي رتلناه وتنعمنا بسماعه في الدنيا، وكان البلسم الشافي لقلوبنا. قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)[4]. نعم سنرجع فرادى، وحيدين مستوحدين؛ لا أم ولا أب ولا زوج ولا ولد. لا بيت ولا أهل ولا مال. لا حاسوب ولا هاتف ولا انترنت. لا شيء على الإطلاق سوى كفن وعمل إما يهلكنا أو ينجينا بفضل الله. ونسأل الله تعالى أن نكون من الناجين وليس الهالكين.
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء احزاننا وذهاب همومنا وغمومنا. ربنا لا تجعلنا من الهاجرين له، ولا من المرائين به. ونعوذ بك من أن يكون وقراً على قلوبنا وآذاننا وعمىً على أعيننا. ونعوذ بك من أن يكون شهيداً علينا يوم القيامة، وخصيماً لنا في يومٍ تشخص فيه الأبصار. اللهم سامحنا على التقصير فيه وعدم الإتقان. وسامحنا على كل ظلم ارتكبناه في حق أنفسنا وحق عبادك. ربنا ارضِى عنا خصومنا ومظلومينا، وامح ذلاتنا وذنوبنا، وبيض وجوهنا وصفحاتنا، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك يا أرحم الراحمين. يا ستير استر قبحنا بسترك الجميل، وعطِّر ذكرنا وآثارنا في الأرض، وأصلح ما بيننا وبين خلقك. ربنا لا تجعلنا كالجسور التي يعبر عليها الناس إلى الجنة ثم تنهار في نار جهنم. اللهم نعوذ بك من شرور أنفسنا وما اقترفته أيدينا، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك من أن نكون من أصحاب النار. اللهم أجرنا منها ومن حرها وغليانها يا رب العالمين. يا الله انت قادر على تعذيبنا وانا نسترحمك ونقف ببابك ونلجأ إليك … فارحمنا برحمتك يا رحمن وارحم والدينا وأهلنا والمسلمين أجمعين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] يونس 57.
[2] الإسراء 82.
[3] أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) بإختلاف يسير.
[4] الأنعام 94.