شــدة الحــــر
فهد عبدالله الصالح
الحمد لله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى , وَ قَدَّرَ فَهَدَى , أحمده سبحانه على ما
أنعم وتفضل , وأشكره على ما خلق فأتقن , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
, وصفيه من خلقه , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله , فتقوى الله وصية الله للأولين والآخرين , والتقوى مستمسك الصالحين ,
وسبيل النجاة في الدنيا ويوم الدين .
أيها المسلمون : لقد ملئ هذا الكون الفسيح دلائل وآيات تدل بعظمتها
على العظيم سبحانه , ويكشف ما فيها على من عجائب الخلق وبدائعه قدرة الخالق وجميل
خلقه وإتقانه وصنعه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) وإتقان صنعه يتجلى لنا في كل شيء في هذا الوجود , فلا مصادفة ولا
خلل ولا نقص , ولا تفاوت ولا نسيان .
إن التفكير في هذا الملكوت وفي تعاقب الليل والنهار وحركة الأجرام
وتتابع فصول العام لهو عبادة تزيد الإيمان وتذكر بالآخرة .
ويحضرنا في هذه الأيام مشهد من مشاهد الاعتبار وأية من آيات التفكر
مشهد يصل القلوب بخالقها , وينفذ بها إلى عالم الآخرة , حيث كربة الموقف في
العرصات , وحيث النار بسمومها وعذابها , إنه هذا القيظ الشديد , بسمومه اللافح
وحرة المؤذي وشمسه اللاهبة وظله اليحموم , وليس هو بالحدث الجديد الذي يلفت كل نظر
, بل هو فصل معتاد مألوف معروف السبب , ومهما اعتدناه وألفناه وعرفنا تفسيره وتجلت
لنا أسبابه فذلك لا يذهب ما فيه من مشهد العظة والذكرى , وفي نار الدنيا ما يذكر
بنار الآخرة (أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ
نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ), وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم كان يجعل من مشاهد الحياة المألوفة
صلة لتذكر بعالم الآخرة بقوله (إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح
جهنم), وقال صلى الله عليه وسلم (أشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم , وأشد ما
تجدون من البرد من زمهرير جهنم), وكما للقيظ في حره وسمومه آية , فله في سببه آية
, فما القيظ إلا نتيجة لدنو الشمس نحونا قليلاً , كما إن زمهرير الشتاء من
انصرافها عنا قليلاً , حالتان متضادتان , سببهما دنو يسير أو انصراف يسير , ولو
دنت أكثر لاحترقت ولو بعدت أكثر لأماتت ببردها .
والحر – أيها المسلمون – عذاب يعذب الله به من يشاء من العصاة , ذكر
المفسرون في قصة قوم شعيب عليه السلام عن ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى
(فَأَخَذَهُمْ
عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قال : أرسل الله إليهم سموماً من جهنم , فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم
الحر فحميت بيوتهم وغلت مياههم في الآبار والعيون , فخرجوا من منازلهم هاربين
والسموم معهم , فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم , وسلط الله عليهم
الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم , ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء
فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها , فوجدوا لها برداً ولذة حتى إذا كانوا جميعاً
تحتها أطبقت عليهم وأمطرت عليهم ناراً فهلكوا , ونجى الله شعيباً والذين امنوا معه
.
وهو ابتلاء في نصرة الدين والذب عن حياضه , ففي السنة التاسعة من
الهجرة كانت غزوة تبوك , فالجو حار والمسافة بعيدة والعدو شرس فبرز موقف النفاق ,
وأخذ المنافقون يتلمسون الأعذار في التخلف عن الغزوة وكان من بين أعذارهم قولهم (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ), فإنهم يريدون أن يؤثروا الراحة والدعة في المدينة حيث طيب الثمار
ووفرة الظلال , فذكرهم الله تعالى بالحقيقة الأكيدة بقوله (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ
كَانُوا يَفْقَهُونَ).
وكذلك المشي إلى المساجد للجمع والجماعات وشهود الجنائز ونحوها من
الطاعات ,فشدة الحر تزيد في الأجور برحمة الله .
ومن مظاهر كون هذا الحر عقوبة ما يحصل من موت كثير من الزروع والأشجار
, وموت بعض الأسماك , وتلف بعض الآلات , وإزهاق أرواح كثير من المرضى ممن لا
يتحملون شدة الحر , وفوق ذلك كله الأموال الطائلة التي تنفق وتصرف لمقاومة الحر
الشديد لا سيما في الكهرباء .
أيها الإخوة في الله : إن مسئولية الإنسان عن الأرض هي مسئولية كاملة
عن جميع نطاقاتها الصخرية والمائية والهوائية والحياتية والتي يطلق عليها في
مجموعها تعبير (البيئة) وهي كل ما يحيط بالإنسان من مختلف صور المادة والطاقة
والحياة , وكذلك من نظم اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وشرعية , والإنسان
المستخلف على الأرض مؤتمن على بيئتها , ومسئول أمام الله وأمام الناس عن المحافظة
عليها , وانطلاقاً من ذلك فإن الاعتداء على أي من مكونات البيئة المادية أو
المعنوية هو مخالفة شرعية وأخلاقية .
وعندما يعبث الإنسان في هذه الكائنات ويفسد في الأرض فإن الفساد يظهر
في الأرض اقرؤوا قول الله جلا في علاه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ), إفساد للجو
بالتلوث الكيميائي والحراري والإشعاعي للبيئة , إفساد للبر والبحر بإلقاء النفايات
النووية فيها , مصادمة للطبيعة و هدر لمقومات الحياة مما أدى إلى ارتفاع غير مألوف
في درجات الحرارة في جميع دول العالم ووجود ظاهرة الاحتباس الحراري وكثرة الأمراض
وكل ذلك من إفساد بني آدم في الجو والبر والبحر وهي تنبيه من الله تعالى لعلهم
يرجعون إلى شرعه وحكمه فسنة الله ماضية في الأولين والآخرين (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين .......
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون : إن من أعظم ما يدفع به العذاب وتتقى به النار
الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات فذك والله هو الزاد وتلك هي الجنة , خرج
ابن عمر رضي الله عنهما في سفر ومعه بعض أصحابه , فوضعوا سفرة لهم , فمر بهم راع ,
فدعوه إلى أن يأكل معهم , فقال إني صائم , فقال ابن عمر في مثل هذا اليوم الشديد حرة
وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال : أبادر أيامي هذه الخالية
, أخذاً من قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
ومما ينجي من عذاب النار – بعد رحمة الله – القيام بما افترضه الله
ومنع النفس من الوقوع في المحرمات إن الله تعالى يقول (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
ومن ذلك أيضاً : سؤال الله الجنة والنجاة من النار , وفي الحديث
الصحيح الذي أخرجه النسائي والترمذي عن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة : اللهم أدخله الجنة , ومن
استجار من النار ثلاث مرات قالت النار : اللهم أجره من النار).
ولنتذكر إذا لفحنا سموم هذا القيظ عذاب السموم يوم القيامة , وإذا آذانا
حر الهاجرة فلنتذكر حر جهنم , ولنتمثل حين نفر من لهيب الشمس إلى الظل ذلك اليوم
العظيم , يوم العرض على الله وقد دنت الشمس من الخلائق قدر ميل لا يجدون ظلاً إلا
ظل عرشه جل جلاله , ولا يظل فيه إلا من يستحقه من صالحي عباده , فأين هي شمس
الدنيا من شمس الآخرة , وما تبلغ سويعات الهاجر من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
إن الاستباق إلى الظل في عرصات يوم القيامة لا يتأتي بحث الخطى
والإسراع إليه ركضاً كالناس في الدنيا , إنما هو بالاستباق بالخيرات والمسارعة إلى
الطاعات , المؤمنون الموقنون بوعد الله ووعيده خائفون وجلون من عذاب السموم عاملون
مسارعون بما يقربهم للرب الرحيم عاملون بطاعته تاركون معصيته (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ
هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
اللهم كما وقيتنا من حر الدنيا فقنا من حر الآخرة ، وكما رزقتنا الظل
في الدنيا فأظلنا في ظل عرشك يوم نلقاك ، فأنت الكريم المتفضل وأنت الرحيم الرحمن
اللهم صل على محمد ....