شعبان
عبدالله اليابس
1438/08/08 - 2017/05/04 14:38PM
شعبان الجمعة 9/8/1438هـ
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، فَضَّلَ بعض المخلوقات على بعض حتى في أوقات الدهر: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، فهو المتفرِّد بإيجاد خَلْقِه، المتوحِّد بإدرار رزقه.
أحْمده على الهدى وتسهيل طرقِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رَتْقِه وفَتْقِه، وأنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله والضلال عامٌّ فمحاه بمَحْقِه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم..
شهر شعبان يا أعز الشهور *** فيك نور يسمو على كل نور
ومعانٍ تسطرت في سطور *** بارك الله في الليالي الملاح
نعم .. أطل علينا شهر شعبان .. بعد أن تصرم من مضي رمضان العام الفائت سنة إلا شهر, مرت كمر السحاب, بحلوها ومرها, وصفائها وكدرها, ولد فيها أقوام .. ومات فيها آخرون, فاز فيها من فاز, وخاب فيها من خاب, والموعد عند رب العالمين.
أيها الإخوة .. سمي شهر شعبان بهذا الاسم لأن العرب كانت تتشعب فيه وتتقسم استعدادًا للغزو بعد شهر من الأشهر الحرم وهو رجب الذي حُرِّم فيه القتال, فكانت العرب في هذا الشهر تبدأ بالتشعب والتقسم استعدادًا للغارات والحروب, وقال بعضهم بأنه سمي بشعبان لتشعب العرب فيه بحثًا عن مواضع الماء, وقيل غير ذلك.
شهر شعبان .. جاء عند أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)).
نعم .. شهر يغفل الناس عنه.. بين شهر حرام وهو رجب وبين شهر الصيام والقيام وهو رمضان.
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق أنه شهر ترفع فيه الأعمال, فلذلك كان يُكثر فيه من الصيام, جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان, وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان, ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان كله, كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على صوم شعبان, فمالحكمة من تخصيصه دون غيره من الشهور بذلك؟
جاء عند الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان؛ تعظيمًا لرمضان. وفي إسناده مقال, فقال أهل العلم بناء على هذا الحديث وإن كان فيه ضعف أن الحكمة من صوم شعبان هي التعظيم لرمضان لأنه كالمقدمة له, وقال آخرون: أن الحكمة هي ما ورد في الحديث الآخر بأن شهر شعبان شهر يغفل الناس عنه لكونه بين رجب ورمضان, حيث يَحُّفُّ بهذا الشهر شهران عظيمان يشتغل بهما الناس فيصير مغفولاً عنه, روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ يصومون رجبًا فقال: فأين هم عن شعبان؟ وقال آخرون في الحكمة من صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان, لئلا يدخل في صيام رمضان على مشقة وكلفة, بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده, ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته, فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن, ليحصل التأهب لتلقي رمضان, وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن), كان السلف الصالح إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف يقرؤونها, وأخرجوا زكاة أموالهم, تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان, قال سلمة بن كُهَيلِ: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء, وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
أيها المسلمون .. ومما يشرع في شهر شعبان أن من عليه قضاء من رمضان لا يجوز له تأخيره حتى دخول رمضان الذي يليه من غير عذر، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ في شَعْبَانَ؛ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
لاشك أن في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة -كشهر شعبان - فوائد منها: أن يكون العمل فيه أخفى, وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام, فإنه سر بين العبد وربه ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء, صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد, كان إذا خرج من بيته إلى السوق خرج ومعه رغيفان, فيتصدق بهما ويصوم, فيظن أهله أنه أكلها, ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته.
وكان السلف يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه, فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أصبحتم صيامًا فأصبحوا مدهنين, اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام, فكان يجتهد في إظهار فطره للناس, حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في الجامع فيأخذ إبريقًا فيضع بِلْبِلَتَهُ في فيه ويمصه ولا يشرب منه شيئًا, ويبقى ساعة كذلك فينظر الناس إليه فيظنوا أنه يشرب الماء, وما يدخل في حلقه منه شيء.
كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عنهم, ريح الصيام أطيب من ريح المسك, تستنشقه قلوب المؤمنين وإن أُخفي, وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم,إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وجعل الظلمات والنور, ثم الذين كفروا بربهم يعدلون, أحمده تعالى وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, بعثه الله رحمةً للعالمين, بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا, فبلغ الرسالةَ أحسنَ البلاغ, وأدى الأمانة أتم الأداء, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. إن التاجر الحصيف يستعد قبل دخول الموسم بالتحضير والإعداد, وتدريب العمال على البيع والشراء, وها قد أقبل رمضان, موسم من مواسم الخير, موسم من مواسم التجارة .. مع الله, فأروا الله من أنفسكم خيرًا, واجعلوا شعبان تمهيدًا واستعدادًا لرمضان, خططوا لاستغلال رمضان من الآن بخطط مكتوبة, وبادروا لتمرين أنفسكم على الطاعة من الآن حتى لا تدخل عليكم السآمة والملل بعد مضي أيامٍ من رمضان.
(اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ).
قال بعض العارفين: شهر رجَب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، وقال بعضهم: مثل شهر رجب كالرّيح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، فمن لم يزرع في رجب ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!
يا من تريد غنيمةَ رمضان، اعمل على تحقيق شروطها من الآن. يا من تبتغي جائزة العيد، ضاعف طاعتك في شعبان وابتغ المزيد. كيف يسعد برمضان من لم يطهّر ماله من الحرام؟! كيف يفرح برمضان من هو غارق في وحل المسكرات والمخدّرات والآثام؟! كيف يتلذّد بالقرآن في رمضان من أخذ أموال الناس وجحدها, أو ماطل وتأخّر في ردّها بغير عذر؟! كيف يستفيد من رمضان من لم يطهّر لسانه من الغيبة والنميمة، وقلبَه من الحقد والغلّ والحسد؟!
يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها, وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها:
مضى رجب وما أحسنت فيه *** وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلاً *** بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرًا *** ويخلي الموت كرهًا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم ***فخير ذوي الجرائم من تدارك
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، فَضَّلَ بعض المخلوقات على بعض حتى في أوقات الدهر: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، فهو المتفرِّد بإيجاد خَلْقِه، المتوحِّد بإدرار رزقه.
أحْمده على الهدى وتسهيل طرقِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رَتْقِه وفَتْقِه، وأنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله والضلال عامٌّ فمحاه بمَحْقِه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم..
شهر شعبان يا أعز الشهور *** فيك نور يسمو على كل نور
ومعانٍ تسطرت في سطور *** بارك الله في الليالي الملاح
نعم .. أطل علينا شهر شعبان .. بعد أن تصرم من مضي رمضان العام الفائت سنة إلا شهر, مرت كمر السحاب, بحلوها ومرها, وصفائها وكدرها, ولد فيها أقوام .. ومات فيها آخرون, فاز فيها من فاز, وخاب فيها من خاب, والموعد عند رب العالمين.
أيها الإخوة .. سمي شهر شعبان بهذا الاسم لأن العرب كانت تتشعب فيه وتتقسم استعدادًا للغزو بعد شهر من الأشهر الحرم وهو رجب الذي حُرِّم فيه القتال, فكانت العرب في هذا الشهر تبدأ بالتشعب والتقسم استعدادًا للغارات والحروب, وقال بعضهم بأنه سمي بشعبان لتشعب العرب فيه بحثًا عن مواضع الماء, وقيل غير ذلك.
شهر شعبان .. جاء عند أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)).
نعم .. شهر يغفل الناس عنه.. بين شهر حرام وهو رجب وبين شهر الصيام والقيام وهو رمضان.
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق أنه شهر ترفع فيه الأعمال, فلذلك كان يُكثر فيه من الصيام, جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان, وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان, ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان كله, كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على صوم شعبان, فمالحكمة من تخصيصه دون غيره من الشهور بذلك؟
جاء عند الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان؛ تعظيمًا لرمضان. وفي إسناده مقال, فقال أهل العلم بناء على هذا الحديث وإن كان فيه ضعف أن الحكمة من صوم شعبان هي التعظيم لرمضان لأنه كالمقدمة له, وقال آخرون: أن الحكمة هي ما ورد في الحديث الآخر بأن شهر شعبان شهر يغفل الناس عنه لكونه بين رجب ورمضان, حيث يَحُّفُّ بهذا الشهر شهران عظيمان يشتغل بهما الناس فيصير مغفولاً عنه, روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ يصومون رجبًا فقال: فأين هم عن شعبان؟ وقال آخرون في الحكمة من صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان, لئلا يدخل في صيام رمضان على مشقة وكلفة, بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده, ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته, فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن, ليحصل التأهب لتلقي رمضان, وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن), كان السلف الصالح إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف يقرؤونها, وأخرجوا زكاة أموالهم, تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان, قال سلمة بن كُهَيلِ: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء, وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
أيها المسلمون .. ومما يشرع في شهر شعبان أن من عليه قضاء من رمضان لا يجوز له تأخيره حتى دخول رمضان الذي يليه من غير عذر، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ في شَعْبَانَ؛ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
لاشك أن في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة -كشهر شعبان - فوائد منها: أن يكون العمل فيه أخفى, وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام, فإنه سر بين العبد وربه ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء, صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد, كان إذا خرج من بيته إلى السوق خرج ومعه رغيفان, فيتصدق بهما ويصوم, فيظن أهله أنه أكلها, ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته.
وكان السلف يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه, فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أصبحتم صيامًا فأصبحوا مدهنين, اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام, فكان يجتهد في إظهار فطره للناس, حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في الجامع فيأخذ إبريقًا فيضع بِلْبِلَتَهُ في فيه ويمصه ولا يشرب منه شيئًا, ويبقى ساعة كذلك فينظر الناس إليه فيظنوا أنه يشرب الماء, وما يدخل في حلقه منه شيء.
كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عنهم, ريح الصيام أطيب من ريح المسك, تستنشقه قلوب المؤمنين وإن أُخفي, وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم,إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وجعل الظلمات والنور, ثم الذين كفروا بربهم يعدلون, أحمده تعالى وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, بعثه الله رحمةً للعالمين, بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا, فبلغ الرسالةَ أحسنَ البلاغ, وأدى الأمانة أتم الأداء, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. إن التاجر الحصيف يستعد قبل دخول الموسم بالتحضير والإعداد, وتدريب العمال على البيع والشراء, وها قد أقبل رمضان, موسم من مواسم الخير, موسم من مواسم التجارة .. مع الله, فأروا الله من أنفسكم خيرًا, واجعلوا شعبان تمهيدًا واستعدادًا لرمضان, خططوا لاستغلال رمضان من الآن بخطط مكتوبة, وبادروا لتمرين أنفسكم على الطاعة من الآن حتى لا تدخل عليكم السآمة والملل بعد مضي أيامٍ من رمضان.
(اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ).
قال بعض العارفين: شهر رجَب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، وقال بعضهم: مثل شهر رجب كالرّيح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، فمن لم يزرع في رجب ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!
يا من تريد غنيمةَ رمضان، اعمل على تحقيق شروطها من الآن. يا من تبتغي جائزة العيد، ضاعف طاعتك في شعبان وابتغ المزيد. كيف يسعد برمضان من لم يطهّر ماله من الحرام؟! كيف يفرح برمضان من هو غارق في وحل المسكرات والمخدّرات والآثام؟! كيف يتلذّد بالقرآن في رمضان من أخذ أموال الناس وجحدها, أو ماطل وتأخّر في ردّها بغير عذر؟! كيف يستفيد من رمضان من لم يطهّر لسانه من الغيبة والنميمة، وقلبَه من الحقد والغلّ والحسد؟!
يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها, وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها:
مضى رجب وما أحسنت فيه *** وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلاً *** بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرًا *** ويخلي الموت كرهًا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم ***فخير ذوي الجرائم من تدارك
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
شعبان 9-8-1438هـ.docx
شعبان 9-8-1438هـ.docx