شرف المؤمن قيام الليل

الشيخ نواف بن معيض الحارثي
1445/11/22 - 2024/05/30 12:10PM

الخطبة الأولى: شرف المؤمن قيامُ الليل

الحمدُ للـهِ الذي خلقَ الخلقَ بقدرتِه، ومَنَّ على من شاءَ بطاعتِه، وخذلَ من شاءَ بحكمتِه، فسبحانَ اللـهِ الغنيِّ عن كلِّ شيءٍ، فلا تنفَعُه طاعةُ من تقرَّبَ إليه بعبادتِه، ولا تضرُّه معصيةُ من عصاهُ لكمالِ غِناهُ وعظيمِ عزَّتِه، وأشهد أن لا إله إلا اللـهُ وحدَه لا شريكَ له في إلاهيَّتِه، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وخيرتُه من خليقتِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحابتِه صلاةً وسلامًا كثيرًا.          أما بعد: فأوصيكم ...

عن سَهْلِ بن سعدٍ t ، قال: جاءَ جِبريلُ عليه السَّلامُ إلى النَّبيِّ r فقال: يا مُحمَّدُ، عِشْ ما شئْتَ، فإنَّكَ ميِّتٌ، وأحْبِبْ مَن أحْبَبتَ فإنَّكَ مُفارِقُه، واعمَلْ ما شئْتَ فإنَّكَ مَجْزِيٌّ بهِ. ثمَّ قالَ: يا مُحمَّدُ، شَرَفُ المُؤمِنِ قِيامُ اللَّيلِ، وعِزُّه استِغْناؤُه عنِ النَّاسِ) الحاكم وغيرُه .

أَيَّها المؤمنونَ: عِبادةٌ جليلةٌ، وقُربَةٌ عظيمةٌ، وسُنَّةٌ نبويةٌ، ومدرسةٌ إيمانيةٌ، طَرِيقُ الصالحينَ وسَبِيلُ العامِلينَ، وخَلوةٌ بربِّ العالمينَ، من أفضلِ الطاعاتِ بعدَ الفريضةِ، قال r(أفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ: صلاةُ الليلِ» م. وقالr «أحبُّ الصلاةِ إلى اللـهِ: صلاةُ الليل»؛ متفق عليه.

قيامُ الليلِ من أخصِّ أعمالِ أولياءِ اللـهِ ممَّن سبَقَنا من الأممِ؛ قال r: (عليكم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّه دَأَبُ الصالحينَ قبْلَكم، وهو قُرْبةٌ لكم إلى ربِّكم، ومكفرةٌ للسيِّئاتِ، ومنهاةٌ عن الإثمِ) ابنُ خزيمةَ.

أمر اللـهُ رسولَه r بقيامِ الليلِ، فكان r يقومُ  في كل ليلةٍ ممتثلاً أمرَ ربِّه (يا أيُّها المزملُ قُمِ الليلَ إلا قليلاً نِصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً أو زدْ عليه ورتِّلِ القرآنَ ترتِيلاً إنِّا سنلقي عليك قَوْلاً ثقيلاً إنَّ ناشئةَ الليلِ هي أَشَدُ وطئَاً وأقومُ قِيلاً)

 

عن ابنِ عباسٍ y قال: بِتُّ عِنْدَ خَالَتي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسولُ اللَّـهِ rمع أهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إلى السَّمَاءِ، فَقالَ (إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ واخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الألْبَابِ)، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ واسْتَنَّ ، فَصَلَّى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أذَّنَ بلاَلٌ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ )خ.

وعن عائشةَ t قالتْ: مِن كلِّ الليلِ قد أوْتَر رسولُ اللـهِ rمِن أوَّلِ اللَّيْلِ وأوسَطِه وآخِرِه، فانْتَهى وتْرُه إلى السَّحَرِ)خ.م.

وقام r شكراً للـهِ تعالى حتى تفطرتْ قدماه ويقول: «أفلا أُحبُّ أن أكونَ عبدًا شَكورًا؟ خ.

حثَّ r على قيامِ الليلِ، فقال: أيُّها الناسُ، أفْشُوا السلامَ، وأطْعِموا الطعامَ، وصَلُّوا والناسُ نِيامٌ، تَدْخلوا الجَنَّةَ بسلامٍ) الترمذي.

امتثلَ الصحابةُ y وغيرُهم هذا التوجيهَ النبويَّ فكانوا (قليلاً من الليلِ ما يهجعونَ).

قال ابنُ عمرَ y في قوله (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) قال: "ذاك عُثمانُ بنُ عفَّانَ".

قال ابن كثيرٍ: "وذلك لِكثْرةِ صلاةِ أميرِ المؤمنينَ عُثمانَ بالليلِ وقراءتِه، حتى إنه رُبَّما قرأَ القُرآنَ في ركعةٍ".

وما تركَ ابنُ عمرَ y وهو غلامٌ قيامَ الليلِ منذُ قال r له: يا عبد اللـهِ! لا تكُن مثلَ فلانٍ؛ كان يقومُ الليلَ فتركَ قيامَ الليل) خ.

وعن ابنِ شمَّاسٍ، قال: "كنتُ أرى أحمدَ بنَ حنبلٍ يُحيِي الليلَ وهو غلامٌ".

عبادَ اللـهِ: قيامُ الليلِ سببٌ لِقُرْبِ الرَّبِّ من عبده القائم؛ قال r "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّـهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ" الترمذي.

قيامُ الليلِ سببٌ لِطَرْدِ الغفلةِ عن القلبِ؛ قالr :"مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْـمُقَنْطِرِينَ" أبو داود .

  ومن قامَ بجزءِ تباركَ وعمَّ قامَ بألفِ آيةٍ.

قيامُ الليلِ من أبوابِ الخيرِ وسببٌ لمحو الخطايا؛ قال r لمعاذٍ: "أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْـخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْـخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْـمَاءُ النَّارَ ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ" الترمذي.

 

قيامُ الليلِ سببٌ للفوزِ بمحبةِ اللـهِ تعالى؛ قال r :"ثَلاثةٌ يُحبُّهمُ اللـهُ تَعالى ويَضْحَكُ إِلَيْهِمْ ويَسْتَبْشِرُ بِهِمُ" ومنهم: "وَالَّذِي لَهُ امْرَأةٌ حَسَنَةٌ وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ فَيَقُومُ مِنَ اللَّيلِ، فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي وَلَوْ شَاءَ رَقدَ) البيهقي

قيامُ الليلِ سببٌ للفوز بالجِنانِ ورِضَى الرحمن(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ).

ثم ذَكَر جزاءَهم في الآخِرةِ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَـهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ولا يُصلِّي بالليلِ والناسُ نيامٌ إلاَّ مُخْلِصٌ يرجو ما عندَ اللـهِ.

قيامُ الليلِ من صفاتِ الأبرارِ؛ فعَنْ أَنَسٍ t قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا اجْتَهَدَ لأَحَدٍ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: "جَعَلَ اللـهُ عَلَيْكُمْ صَلاَةَ قَوْمٍ أَبْرَارٍ، يَقُومُونَ اللَّيْلَ، وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، لَيْسُوا بِأَثَمَةٍ، وَلاَ فُجَّارٍ" رواه عبدُ بنُ حُميد.

قيامُ الليلُ سببٌ للنَّجاةِ من الفِتَنِ؛ فعن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ r قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّـهِ r لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ:" سُبْحَانَ اللَّـهِ! مَاذَا أَنْزَلَ اللَّـهُ مِنَ الْـخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْـحُجُرَاتِ -يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ- لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ" خ.

قيامُ الليلِ اقتداءٌ بالنبيِّ r؛ فعن عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قال: قَالَتْ عَائِشَةُ t:"لاَ تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّـهِ rكَانَ لاَ يَدَعُهُ -لا في سفرٍ ولا حضرٍ-وَكَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ كَسِلَ صَلَّى قَاعِدًا" أبو داود .

وكان إذا نام مِنَ الليلِ أو مَرِضَ r صلَّى مِن النَّهارِ ثِنتي عشرةَ ركعةٍ . فأيُّ حرصٍ يدلُ هذا من النبيِّ r على قيامِ الليل؟ ألا يدلُ على فضلِه وعظيمِ أجرِه!

فحَرِيٌ بنا أنْ يكون لنا حَظٌ من قيام الليلِ (الصابرين والصادقينَ والقانتينَ والمنفقينَ والمستغفرينَ بالأسحارِ) بارك ...

الخطبة الثانية

الحمد لله...أما بعد : فيا عباد الله:

كلُّ الليلِ من بعد صلاةِ العشاءِ إلى الفجرِ زمنٌ لصلاةِ الليلِ، وأقلُّه ركعةٌ، ولا حدَّ لأكثرِه، وآخرُ الليلِ أفضلُه، قال r:«صلاةُ آخرِ الليلٍ مشهودةٌ» م.

وفي الثُّلُثِ الأخيرِ من الليلِ ينزِلُ ربُّنا إلى السماءِ الدُّنيا فيقولُ: «من يدعُوني فأستجيبَ له؟ من يسأَلُنِي فأُعطِيَه؟ من يستغْفِرُني فأغفِرَ له؟ متفق عليه.

الثلُثُ الأخيرُ منَ الليلِ أفضلُ أوقاتِ اللَّيلِ؛ تَصْفو فيه النُّفوسُ، وتَطيبُ فيه العِبادةُ، ويُستَجابُ فيه الدُّعاءُ، خصَّه اللـهُ تعالَى بالنُّزولِ فيه إلى السَّماءِ الدُّنيا، وتَفضَّلَ على عِبادِه فيه، وأفاضَ الخيرَ على مَن طلَبَه (إِنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحارِ هم يستغفرون)

وإذا أردتَ أن تعرِفَ وقتَ دخولِ الثُّلُثِ الأخيرِ مِن الليلِ، فانظر عددَ الساعاتِ التي بيْن أذانِ المغرِب وأذانِ الفجْرِ، واقْسمها على ثلاثةٍ، ثم أضِفْ ثُلُثي هذا الوقت إلى وقتِ أذان المغربِ، وناتجُ الجَمْع هو وقتُ دُخولِ الثُّلُثِ الأخيرِ مِنَ الليلِ.

قيامُ الليلِ مسنونٌ للرجالِ وللنساءِ، فقد طرقَ r ابنتَه فاطمةَ وزوجَها عليَّ بنَ أبي طالبٍ ليلاً، وقال لهما: «ألا تُصلِّيَان؟ متفق عليه.

قال الطبريُّ : "لولا ما علِمَ النبي rمن عِظَم فضلِ الصلاةِ في الليلِ ما كان يُزعِجُ ابنتَه وابنَ عمِّه في وقتٍ جعلَه اللـهُ لخلقِه سكَنًا، لكنَّه اختارَ لهما إحرازَ تلكَ الفضيلةِ على الدَّعَةِ والسُّكونِ"

و(رَحِمَ اللَّـهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمـَاءَ. رَحِمَ اللَّـهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْـمَاءَ ) أبو داود.

قيامُ الليلِ عزيزٌ، وهو أولُ ما يُفقَدُ من العبادةِ،

 قال ابنُ عمرَ y:"أولُ ما ينقُصُ من العبادةِ: التهجُّدُ بالليلِ" .

عباد الله: لعلَ البعضَ منّا ربَّما يستثقلُ قيامَ الليلِ، ويرى أنَّه شاقٌّ على النفسِ، وقد يكونُ ذلكَ في بدايةِ الأمرِ، وما أن تمرَّ فترةٌ حتى تفرحَ النفسُ به، وتشعرَ بالراحةِ والطُّمأنينةِ أثناءَ القيامِ وما قيامُ شهرِ رمضانَ عنَّا ببعيدٍ ، قال ابن حجرٍ: " في صلاةِ الليلِ سرٌّ في طِيبِ النفسِ".

السَّهرُ-عباد اللهِ-قد يمنَعُ قيامَ الليلِ، وإن قامَه أفقدَه الخشوعَ فيه، ومن نامَ على معصيَةٍ لم يَقُم في الأغلَبِ إلى طاعةٍ، وقراءةُ أذكارِ النومِ مُعينةٌ للاستِيقاظِ إلى صلاةِ الليلِ ...

قال عمرُ t: "لأنْ أشهدَ صلاةَ الصبحِ في الجماعةِ أحبُّ إليَّ من أن أقومَ ليلةً" مالكٌ.

وكم مِن أخٍ تَفْقِدُه مساجدُنا في صلاةِ الصبحِ، ولو كان ذلك التخلُّفُ بسببِ القيامِ، لكان الأمرُ أخفَّ ...ثم صلوا ...

 

المرفقات

1717060185_شرف المؤمن قيام الليل.docx

1717060186_شرف المؤمن قيام الليل.pdf

المشاهدات 239 | التعليقات 0