( شرح حديث: (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)
حامد ابراهيم طه
1438/02/24 - 2016/11/24 17:16PM
لمتابعة جديد الخطب نشرف بزيارتكم لموقعنا الرسمى الجديد على هذا الرابط
http://hamidibrahem.com/
الخطبة الأولى ( شرح حديث: (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: الآية2)
وروى مسلم في صحيحه (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ « الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ».
وروى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنِي جُلَسَاؤُهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لاَ أَدَعَ شَيْئاً مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
فَقُلْتُ دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ.
قَالَ « دَعُوا وَابِصَةَ ادْنُ يَا وَابِصَةُ ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً –
قَالَ - فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ « يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَوْ تَسْأَلُنِي ».
قُلْتُ لاَ بَلْ أَخْبِرْنِي. فَقَالَ « جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ».
فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ
« يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ».
إخوة الإسلام
تكمن عظمة هذا الدين الاسلامي في تشريعاته الدقيقة ، والتي تنظم حياة الناس ، وتعالج مشكلاتهم ، ومن طبيعة هذا المنهج الرباني أنه يشتمل على قواعد وأسس ، تحدد موقف الناس تجاه كل ما هو موجود في الحياة ،
فمن جهة : أباح الله للناس الطيبات ، وعرفهم بكل ما هو خير لهم ،
وفي المقابل : حرّم عليهم الخبائث ، ونهاهم عن الاقتراب منها ، وجعل لهم من الخير ما يغنيهم عن الحرام .
وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين باتباع الشريعة والتزام أحكامها ، فإن أول هذا الطريق ولبّه : تمييز ما يحبه الله من غيره ، ومعرفة المعيار الدقيق الواضح في ذلك .
وفي الآية السابقة ، والحديثين المتقدمين ، ما يبين ذلك ويدعو إليه :
فقوله صلى الله عليه وسلم : (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ): فالبر : هي لفظة جامعة ينطوي تحتها كل أفعال الخير وخصاله
فقال العلماء : البر قد يكون بمعنى الصلة ، وقد يكون بمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة ، وبمعنى الطاعة ، وهذه الأمور هي مجامع الخلق
وقال ابن دقيق العيد: (أمَّا البِرُّ فهو الَّذي يُبِرُّ فاعلَه، ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ.
والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرِّفق في المحاولة، والعدل في الأحكام، والبذل في الإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين) .
وقد فسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع (بما اطمأنَّت إليه النَّفس، واطمأنَّ إليه القلب) .
فالْبِرُّ هو الخير، وضده الإثم، وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ(حُسْنُ الْخُلُقِ) وإن كان البر يشمل حسن الخلق وغيره، ولكن المراد أن حسن الخلق هو أعظم خصال البر،
واعلموا أن البر يكون مع الخالق ومع الخلق :
فأما البر مع الخالق فهو يشمل جميع أنواع الطاعات الظاهرة والباطنة ، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز ) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (177) البقرة
فالبر الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر، واجتناب النهي ، ويُطلق على العبد بأنه من الأبرار إذا امتثل تلك الأوامر ، ووقف عند حدود الله وشرعه .
ومن البر مع الخالق سبحانه وتعالى : حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية ، فالإنسان ليس دائما مسرورا ، حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه، والذي قدر ذلك هو الله عز وجل ، فتكون أيها المؤمن حسن الخلق مع الله ، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه .
وأما البرّ مع الخَلْق إنما يكون بالإحسان في معاملتهم ، وذلك قوله : ( البرّ حسن الخلق ) ، وحسن الخلق هو بذل الندى، وكف الأذى ، والعفو عن المسيء ، والتواصل معهم بالمعروف ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه : " البرّ شيء هيّن : وجه طليق ، وكلام ليّن " .
والبر مع الخلق أوله بر الوالدين ، بل وبر أصدقائهم من بعدهم ، ففي الصحيحين
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ . قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ »
وفي صحيح مسلم أنه (صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ »
وقد سمي بر الوالدين برا حتى يجتهد المكلف في جلب أنواع الأعمال التي تسرهم، ويحسن بها إليهم، من أقوال وأفعال، وكذلك الإحسان إليهم بنفقة ونحوها،
أيها المسلمون
والبر، أمر فعلي، وأمر قولي، ومن صوره ، طلاقة الوجه والابتسامة في وجه أخيك المسلم ففي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ »
وفي سنن الترمذي (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)
فإدخال السرور في نفس أخيك ، تتقرب إلى الله بذلك، هذا من أعظم الحسنات؛
- وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا » رواه ابن ماجة
وفي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ
« إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا »
أيها المسلمون
ثم ننتقل إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ ), فحُسن الخُلُق يكتسب تارة بالفطرة، وتارة بالاكتساب،
أما الذي يكون بالفطرة: بأن يولد الإنسان حليمًا كريمًا حسن الأخلاق، وإلى ذلك جاءت الإشارة في حديث الأشج بن عبد القيس لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن فيكَ خَصلَتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ وَرَسُولُه: الحِلْمُ والأنَاةُ)، قال: يا رسولَ الله، أنا أتَخَلَّقتُ بهما أمِ جُبلتُ عليهما؟ قال: (بل اللهُ جبلك عليهما)، قال: الحمد لله الذي جَبَلَني على خَلَّتَيْنِ يحبُّهما اللهُ ورسولُه. ] رَوَاهُ أبو داود ، وأحمد، وصححه الألباني
وأما الذي بالاكتساب: فألا يولد كذلك، ولكنه يروض نفسه على اكتساب مكارم الأخلاق،
فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أوصني، فقال: (لاَ تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) رَوَاهُ البخاري
وهذا يدل على أن اكتساب صفة الحلم وعدم الغضب أمر مستطاع، وإلا لما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مرارًا، ومثله سائر مكارم الأخلاق، فمن لم يجبل عليها يتكلفها حتى تصبح خلقًا له.
وإن الأخلاق الحسنة في دين الإسلام عظيم شأنها ،عالية مكانتها، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام وهي : الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة الكبرى والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله .
بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والعقلاء يجمعون على أن الصدق والوفاء بالعهد والجود والصبر والشجاعة وبذل المعروف أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر والجبن والبخل أخلاق سيئة يذم صاحبها.
والدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإخلاص العمل له وإلى دينه تحتاج إلى الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، ويصعب توفر تلك الأخلاق فيمن يفقد الإيمان والتقوى
ولذا فيجب علينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شؤونه ومن ذلك حسن الخلق . وفي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاَةُ وَهْوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ ثُمَّ يُنْضَحُ ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ ).
وفي صحيح البخاري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »
وعن أم الدرداء قالت : قام أبو الدرداء ليلة يصلي ، فجعل يبكي ويقول : اللهم أحسنت خلقي فحسن خلقي ، حتى أصبح ، قلت : يا أبا الدرداء ، ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق ؟ فقال : يا أم الدرداء ، إن العبد المسلم يحسن خلقه ، حتى يدخله حسن خلقه الجنة ، ويسيء خلقه ، حتى يدخله سوء خلقه النار ، والعبد المسلم يغفر له وهو نائم ، قلت : يا أبا الدرداء ، كيف يغفر له وهو نائم ؟ قال : يقوم أخوه من الليل فيجتهد فيدعو الله عز وجل فيستجيب له ، ويدعو لأخيه فيستجيب له فيه
وقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : حُسْنُ الْخُلُقِ اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ .
وَعَنْ أَبِي الدرداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ( مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ,
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ....) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وَرَوَي أَيْضًا عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ سَاءَ دِينُهُ ، وَحَسْبُهُ مَوَدَّتُهُ.
وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ .
وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَاشِرْ أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلَاقِك فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ .
واعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق.
ويقول ابن حبان - رحمه الله تعالى - : "الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها"
وقد يتصور بعض الناس أن حسن الخلق محصور في الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة فقط، والحقيقة أن حسن الخلق أوسع من ذلك فهو يعني إضافة إلى الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة ، التواضع وعدم التكبر ولين الجانب، ورحمة الصغير واحترام الكبير ، ودوام البشر وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة وإصلاح ذات البين والتواضع والصبر والحلم والصدق وغير ذلك من الأخلاق الحسنة والأفعال الحميدة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "يأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال "
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( شرح حديث: (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم ( وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ, وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)
((والإثم))؛ أي: الذنب ((ما حاك في نفسك))؛ أي: تردد وتحرك، وهو ما وقع في القلب ولم ينشرح له الصدر، ولم يطمئن إليه القلب ويخاف فيه الإثم.
واعلموا أن للإثم علامتين، كما دل على ذلك الحديث المتقدم : علامة داخلية، وعلامة خارجية، أو علامة ظاهرة وعلامة باطنة
أما العلامة الداخلية أو الباطنية : فهي القلق والاضطراب، وعدم الطمأنينة، عند ممارسة هذا الفعل ، وما يحصل له من التردد في ارتكابه ، فهذا دليل على أنه إثم في الغالب . لقوله: (الْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ)،
وأما العلامة الخارجية أو علامته الظاهرية: فهي كراهة أن يطلع الناس عليه، خشية أن يذم وأن يلام على فعله.
فقد تكره أن يطلع على هذا الفعل الأفاضل من الناس ، والصالحون منهم وعظماؤهم وما داناهم، لا رعاؤهم، كما فهم من أداة التعريف،
ووجهه أن النفس مجبولة على محبة اطلاع الناس على خيرها، وكراهية اطلاعهم على شرها، ولم يزل ذلك ظاهرًا معروفًا.
ولا بد أن يكون الباعث على هذه الكراهية هو الدين ، لا مجرّد الكراهية العادية ، وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود رضي الله عنه :
" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ ".
وقوله: (الْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ) إنما هو خاص بمن شرح الله صدره للإسلام، وكان من الأتقياء، أما أهل الفجور فإن الإثم لا يحيك في صدورهم، بل ربما بعضهم يُسر به،
كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]،
فمن رأى سوء عمله حسنًا لا يمكن أن يَحِيكَ في صدره، وقد خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا القول رجلًا من الصحابة صالحًا مستقيمًا، يَحِيكَ الإثم في صدره ولم يخاطب به جميع الناس، فيكون إذًا قوله: (مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ) إنما هو خاص بالأتقياء والمؤمنين الصادقين، أما أهل الفجور فإن الإثم لا يحيك في صدورهم، وإن عدم كراهة اطلاع الناس على العيوب ليست من أخلاق المؤمنين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) رَوَاهُ البخاري
إذًا كراهة اطلاع الناس على العيوب والحياء من الناس هذه من أخلاق المؤمنين، أما إذا كان ما يستحي ولا يكره أن يطلع الناس على عيوبه، يفعل المعصية أمام الناس جهارًا نهارًا ولا يبالي هذه ليست من أخلاق المؤمنين.
واعلم أخي أن ما حاك به صدرك له ثلاث حالات
الحالة الأولى : إذا حاك في النفس أن أمرا ما منكر وإثم ، ثم جاءت الفتوى المبنيّة على الأدلة من الكتاب والسنة بأنه إثم ، فهذا الأمر منكر وإثم ، لا شك في ذلك .
الحالة الثانية : إذا حاك في الصدر أن هذا الأمر إثم ، وجاءت الفتوى بأنه جائز ، لكن كانت تلك الفتوى غير مبنيّة على دليل واضح من الكتاب أو السنة ،
فإن من الورع أن يترك الإنسان هذا الأمر ، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ، أي : حتى وإن رخّصوا لك في هذا الفعل ، فإن من الورع تركه لأجل ما حاك في الصدر ، لكن إن كانت الفتوى بأن ذلك الأمر جائز مبنية على أدلة واضحة ، فيسع الإنسان ترك هذا الأمر لأجل الورع ، لكن لا يفتي هو بتحريمه ، أو يلزم الناس بتركه .
والمفتي إنما يتكلم بحسب الظاهر -يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال- وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح فيبقى هو الحكم على نفسه، والتكليف معلق به، وإماطة الثواب والعقاب معلقة بعمله هو، فإذا بقي في نفسه تردد ولم تطمئن نفسه إلى إباحة من أباح له الفعل -فعليه أن يأخذ بما جاء في نفسه، من جهة أنه يمتنع عن المشتبهات أو عما تردد في الصدر.
وقد تكون الفتوى بأن ذلك الأمر ليس جائزا فحسب ، بل هو واجب من الواجبات ، وحينئذٍ لا يسع المسلم إلا ترك ما حاك في صدره ، والتزام هذا الواجب ، ويكون ما حاك في الصدر حينئذٍ من وسوسة الشيطان وكيده ، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في صلح الحديبية بأن يحلّوا من إحرامهم ويحلقوا ، ترددوا في ذلك ابتداءً ، وحاك في صدورهم عدم القيام بذلك ، لكن لم يكن لهم من طاعة الله ورسوله بد ، فتركوا ما في نفوسهم ، والتزموا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومثل ذلك إذا كان الإنسان موسوسا ، يظن ويشكّ في كلّ أمر أنّه منكر ومحرّم ، فإنه حينئذٍ لا يلتفت إلى الوساوس والأوهام ، بل يلتزم قول أهل العلم وفتواهم .
الحالة الثالثة : إذا لم يكن في الصدر شك أو ريبة أو اضطراب في أمرٍ ما ، فالواجب حينئذٍ أن يتّبع الإنسان قول أهل العلم فيما يحلّ ويحرم ؛ عملا بقوله تعالى :
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( الأنبياء : 7 ) .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (( استفت قلبك )) قال العلماء: ولا يقال لكل إنسان: استفت قلبك، وإنما يقال ذلك لمن كان في مثل الصحابي وابصة في قوة الفهم، وصفاء النفس، وسَعة العلم، والحرص على تحري الخير، فمثله لا يرجع لفتوى رضي الله عنه،
أما عامة الناس فلا يقال لأحدهم: استفت قلبك، وإنما يقال له: استفت العلماء الذين يميل قلبك إلى أمانتهم في العلم، فاسأل واعمل بفتواهم، وإن خالفت فتواهم ما في قلبك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]
فمن كان سليم القلب فإن الله -تعالى- قد يهبه فراسة يعرف بها الإثم، حتى إن نفسه لا تطمئن إليه ولا ترتاح له.
ولنعلم أن معرفة الحق من الفطرة: فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد « الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ ».
وفي ذلك دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، ورَكَزَ في الطباع محبته، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة". وهناك أمر دقيق بين الفتوى والتقوى: فيجب على المسلم أن يترك الفتوى إذا كانت بخلاف ما حاك في نفسه وتردد في صدره، لأن الفتوى غير التقوى والورع، ولأن المفتي ينظر للظاهر، والإنسان يعلم من نفسه ما لا يعلمه المفتي، أو أن المستنكر كان ممن شرح الله صدره، وأفتاه غيره بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فإن الفتوى لا تزيل الشبهة. ففي حديث النعمان بن بشير في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ )
أما إذا كانت الفتوى مدعمة بالدليل الشرعي، فالواجب على المسلم أن يأخذ بالفتوى وأن يلتزمها، وإن لم ينشرح صدره لها، ومثال ذلك الرخصة الشرعية، مثل الفطر في السفر والمرض، وقصر الصلاة في السفر .. وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا والتسليم.
أيها المسلمون
ثم نختم حديثنا بأهم الفوائد والدروس والعبر التي نستلهمها من هذا الحديث : ومنها :
- فضل حسن الخُلق؛ حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخُلق هو البِرَّ.
- إن ميزان الإثم أن يحيك بالنفس، ولا يطمئن إليه القلب.
- المؤمن يكره أن يطلع الناس على عيوبه.
- أنه متى أمكن الاجتهاد، فإنه لا يعدل إلى التقليد؛ لقوله: وإن أفتاك الناس وأفتوك.
- معجزة واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر الصحابيَّ وابصةَ بما في نفسه قبل أن يتكلم به. - قيمة القلب في الإسلام واستفتاؤه قبل العمل.
- أن الدين وازع ومراقب داخلي، بخلاف القوانين الوضعية، فإن الوازع فيها خارجي.
- إن الدين يمنع من اقتراف الإثم، لأنه يجعل النفس رقيبة على كل إنسان مع ربه
- ما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]. وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحاك في صدره شبهة موجودة ولم يجد من يفتيه فيه بالرخصة ولا من يخبره عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف بإتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .
- إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه
- أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا .
الدعاء
لمتابعة جديد الخطب نشرف بزيارتكم لموقعنا الرسمى الجديد على هذا الرابط
http://hamidibrahem.com/
http://hamidibrahem.com/
الخطبة الأولى ( شرح حديث: (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: الآية2)
وروى مسلم في صحيحه (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ « الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ».
وروى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنِي جُلَسَاؤُهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لاَ أَدَعَ شَيْئاً مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ فَقَالُوا إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
فَقُلْتُ دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ.
قَالَ « دَعُوا وَابِصَةَ ادْنُ يَا وَابِصَةُ ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً –
قَالَ - فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ « يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَوْ تَسْأَلُنِي ».
قُلْتُ لاَ بَلْ أَخْبِرْنِي. فَقَالَ « جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ».
فَقَالَ نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ
« يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ».
إخوة الإسلام
تكمن عظمة هذا الدين الاسلامي في تشريعاته الدقيقة ، والتي تنظم حياة الناس ، وتعالج مشكلاتهم ، ومن طبيعة هذا المنهج الرباني أنه يشتمل على قواعد وأسس ، تحدد موقف الناس تجاه كل ما هو موجود في الحياة ،
فمن جهة : أباح الله للناس الطيبات ، وعرفهم بكل ما هو خير لهم ،
وفي المقابل : حرّم عليهم الخبائث ، ونهاهم عن الاقتراب منها ، وجعل لهم من الخير ما يغنيهم عن الحرام .
وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين باتباع الشريعة والتزام أحكامها ، فإن أول هذا الطريق ولبّه : تمييز ما يحبه الله من غيره ، ومعرفة المعيار الدقيق الواضح في ذلك .
وفي الآية السابقة ، والحديثين المتقدمين ، ما يبين ذلك ويدعو إليه :
فقوله صلى الله عليه وسلم : (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ): فالبر : هي لفظة جامعة ينطوي تحتها كل أفعال الخير وخصاله
فقال العلماء : البر قد يكون بمعنى الصلة ، وقد يكون بمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة ، وبمعنى الطاعة ، وهذه الأمور هي مجامع الخلق
وقال ابن دقيق العيد: (أمَّا البِرُّ فهو الَّذي يُبِرُّ فاعلَه، ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ.
والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرِّفق في المحاولة، والعدل في الأحكام، والبذل في الإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين) .
وقد فسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع (بما اطمأنَّت إليه النَّفس، واطمأنَّ إليه القلب) .
فالْبِرُّ هو الخير، وضده الإثم، وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ(حُسْنُ الْخُلُقِ) وإن كان البر يشمل حسن الخلق وغيره، ولكن المراد أن حسن الخلق هو أعظم خصال البر،
واعلموا أن البر يكون مع الخالق ومع الخلق :
فأما البر مع الخالق فهو يشمل جميع أنواع الطاعات الظاهرة والباطنة ، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز ) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (177) البقرة
فالبر الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر، واجتناب النهي ، ويُطلق على العبد بأنه من الأبرار إذا امتثل تلك الأوامر ، ووقف عند حدود الله وشرعه .
ومن البر مع الخالق سبحانه وتعالى : حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية ، فالإنسان ليس دائما مسرورا ، حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه، والذي قدر ذلك هو الله عز وجل ، فتكون أيها المؤمن حسن الخلق مع الله ، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه .
وأما البرّ مع الخَلْق إنما يكون بالإحسان في معاملتهم ، وذلك قوله : ( البرّ حسن الخلق ) ، وحسن الخلق هو بذل الندى، وكف الأذى ، والعفو عن المسيء ، والتواصل معهم بالمعروف ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه : " البرّ شيء هيّن : وجه طليق ، وكلام ليّن " .
والبر مع الخلق أوله بر الوالدين ، بل وبر أصدقائهم من بعدهم ، ففي الصحيحين
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ . قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ »
وفي صحيح مسلم أنه (صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ »
وقد سمي بر الوالدين برا حتى يجتهد المكلف في جلب أنواع الأعمال التي تسرهم، ويحسن بها إليهم، من أقوال وأفعال، وكذلك الإحسان إليهم بنفقة ونحوها،
أيها المسلمون
والبر، أمر فعلي، وأمر قولي، ومن صوره ، طلاقة الوجه والابتسامة في وجه أخيك المسلم ففي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ »
وفي سنن الترمذي (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)
فإدخال السرور في نفس أخيك ، تتقرب إلى الله بذلك، هذا من أعظم الحسنات؛
- وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا » رواه ابن ماجة
وفي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ
« إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا »
أيها المسلمون
ثم ننتقل إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ ), فحُسن الخُلُق يكتسب تارة بالفطرة، وتارة بالاكتساب،
أما الذي يكون بالفطرة: بأن يولد الإنسان حليمًا كريمًا حسن الأخلاق، وإلى ذلك جاءت الإشارة في حديث الأشج بن عبد القيس لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن فيكَ خَصلَتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ وَرَسُولُه: الحِلْمُ والأنَاةُ)، قال: يا رسولَ الله، أنا أتَخَلَّقتُ بهما أمِ جُبلتُ عليهما؟ قال: (بل اللهُ جبلك عليهما)، قال: الحمد لله الذي جَبَلَني على خَلَّتَيْنِ يحبُّهما اللهُ ورسولُه. ] رَوَاهُ أبو داود ، وأحمد، وصححه الألباني
وأما الذي بالاكتساب: فألا يولد كذلك، ولكنه يروض نفسه على اكتساب مكارم الأخلاق،
فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أوصني، فقال: (لاَ تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) رَوَاهُ البخاري
وهذا يدل على أن اكتساب صفة الحلم وعدم الغضب أمر مستطاع، وإلا لما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مرارًا، ومثله سائر مكارم الأخلاق، فمن لم يجبل عليها يتكلفها حتى تصبح خلقًا له.
وإن الأخلاق الحسنة في دين الإسلام عظيم شأنها ،عالية مكانتها، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام وهي : الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة الكبرى والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله .
بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والعقلاء يجمعون على أن الصدق والوفاء بالعهد والجود والصبر والشجاعة وبذل المعروف أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر والجبن والبخل أخلاق سيئة يذم صاحبها.
والدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإخلاص العمل له وإلى دينه تحتاج إلى الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، ويصعب توفر تلك الأخلاق فيمن يفقد الإيمان والتقوى
ولذا فيجب علينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شؤونه ومن ذلك حسن الخلق . وفي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاَةُ وَهْوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ ثُمَّ يُنْضَحُ ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ ).
وفي صحيح البخاري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »
وعن أم الدرداء قالت : قام أبو الدرداء ليلة يصلي ، فجعل يبكي ويقول : اللهم أحسنت خلقي فحسن خلقي ، حتى أصبح ، قلت : يا أبا الدرداء ، ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق ؟ فقال : يا أم الدرداء ، إن العبد المسلم يحسن خلقه ، حتى يدخله حسن خلقه الجنة ، ويسيء خلقه ، حتى يدخله سوء خلقه النار ، والعبد المسلم يغفر له وهو نائم ، قلت : يا أبا الدرداء ، كيف يغفر له وهو نائم ؟ قال : يقوم أخوه من الليل فيجتهد فيدعو الله عز وجل فيستجيب له ، ويدعو لأخيه فيستجيب له فيه
وقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : حُسْنُ الْخُلُقِ اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ .
وَعَنْ أَبِي الدرداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ( مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ,
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ....) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وَرَوَي أَيْضًا عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ سَاءَ دِينُهُ ، وَحَسْبُهُ مَوَدَّتُهُ.
وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ .
وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَاشِرْ أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلَاقِك فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ .
واعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق.
ويقول ابن حبان - رحمه الله تعالى - : "الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها"
وقد يتصور بعض الناس أن حسن الخلق محصور في الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة فقط، والحقيقة أن حسن الخلق أوسع من ذلك فهو يعني إضافة إلى الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة ، التواضع وعدم التكبر ولين الجانب، ورحمة الصغير واحترام الكبير ، ودوام البشر وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة وإصلاح ذات البين والتواضع والصبر والحلم والصدق وغير ذلك من الأخلاق الحسنة والأفعال الحميدة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "يأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال "
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( شرح حديث: (الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم ( وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ, وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)
((والإثم))؛ أي: الذنب ((ما حاك في نفسك))؛ أي: تردد وتحرك، وهو ما وقع في القلب ولم ينشرح له الصدر، ولم يطمئن إليه القلب ويخاف فيه الإثم.
واعلموا أن للإثم علامتين، كما دل على ذلك الحديث المتقدم : علامة داخلية، وعلامة خارجية، أو علامة ظاهرة وعلامة باطنة
أما العلامة الداخلية أو الباطنية : فهي القلق والاضطراب، وعدم الطمأنينة، عند ممارسة هذا الفعل ، وما يحصل له من التردد في ارتكابه ، فهذا دليل على أنه إثم في الغالب . لقوله: (الْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ)،
وأما العلامة الخارجية أو علامته الظاهرية: فهي كراهة أن يطلع الناس عليه، خشية أن يذم وأن يلام على فعله.
فقد تكره أن يطلع على هذا الفعل الأفاضل من الناس ، والصالحون منهم وعظماؤهم وما داناهم، لا رعاؤهم، كما فهم من أداة التعريف،
ووجهه أن النفس مجبولة على محبة اطلاع الناس على خيرها، وكراهية اطلاعهم على شرها، ولم يزل ذلك ظاهرًا معروفًا.
ولا بد أن يكون الباعث على هذه الكراهية هو الدين ، لا مجرّد الكراهية العادية ، وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود رضي الله عنه :
" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ ".
وقوله: (الْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ) إنما هو خاص بمن شرح الله صدره للإسلام، وكان من الأتقياء، أما أهل الفجور فإن الإثم لا يحيك في صدورهم، بل ربما بعضهم يُسر به،
كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]،
فمن رأى سوء عمله حسنًا لا يمكن أن يَحِيكَ في صدره، وقد خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا القول رجلًا من الصحابة صالحًا مستقيمًا، يَحِيكَ الإثم في صدره ولم يخاطب به جميع الناس، فيكون إذًا قوله: (مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ) إنما هو خاص بالأتقياء والمؤمنين الصادقين، أما أهل الفجور فإن الإثم لا يحيك في صدورهم، وإن عدم كراهة اطلاع الناس على العيوب ليست من أخلاق المؤمنين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) رَوَاهُ البخاري
إذًا كراهة اطلاع الناس على العيوب والحياء من الناس هذه من أخلاق المؤمنين، أما إذا كان ما يستحي ولا يكره أن يطلع الناس على عيوبه، يفعل المعصية أمام الناس جهارًا نهارًا ولا يبالي هذه ليست من أخلاق المؤمنين.
واعلم أخي أن ما حاك به صدرك له ثلاث حالات
الحالة الأولى : إذا حاك في النفس أن أمرا ما منكر وإثم ، ثم جاءت الفتوى المبنيّة على الأدلة من الكتاب والسنة بأنه إثم ، فهذا الأمر منكر وإثم ، لا شك في ذلك .
الحالة الثانية : إذا حاك في الصدر أن هذا الأمر إثم ، وجاءت الفتوى بأنه جائز ، لكن كانت تلك الفتوى غير مبنيّة على دليل واضح من الكتاب أو السنة ،
فإن من الورع أن يترك الإنسان هذا الأمر ، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ، أي : حتى وإن رخّصوا لك في هذا الفعل ، فإن من الورع تركه لأجل ما حاك في الصدر ، لكن إن كانت الفتوى بأن ذلك الأمر جائز مبنية على أدلة واضحة ، فيسع الإنسان ترك هذا الأمر لأجل الورع ، لكن لا يفتي هو بتحريمه ، أو يلزم الناس بتركه .
والمفتي إنما يتكلم بحسب الظاهر -يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال- وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح فيبقى هو الحكم على نفسه، والتكليف معلق به، وإماطة الثواب والعقاب معلقة بعمله هو، فإذا بقي في نفسه تردد ولم تطمئن نفسه إلى إباحة من أباح له الفعل -فعليه أن يأخذ بما جاء في نفسه، من جهة أنه يمتنع عن المشتبهات أو عما تردد في الصدر.
وقد تكون الفتوى بأن ذلك الأمر ليس جائزا فحسب ، بل هو واجب من الواجبات ، وحينئذٍ لا يسع المسلم إلا ترك ما حاك في صدره ، والتزام هذا الواجب ، ويكون ما حاك في الصدر حينئذٍ من وسوسة الشيطان وكيده ، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في صلح الحديبية بأن يحلّوا من إحرامهم ويحلقوا ، ترددوا في ذلك ابتداءً ، وحاك في صدورهم عدم القيام بذلك ، لكن لم يكن لهم من طاعة الله ورسوله بد ، فتركوا ما في نفوسهم ، والتزموا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومثل ذلك إذا كان الإنسان موسوسا ، يظن ويشكّ في كلّ أمر أنّه منكر ومحرّم ، فإنه حينئذٍ لا يلتفت إلى الوساوس والأوهام ، بل يلتزم قول أهل العلم وفتواهم .
الحالة الثالثة : إذا لم يكن في الصدر شك أو ريبة أو اضطراب في أمرٍ ما ، فالواجب حينئذٍ أن يتّبع الإنسان قول أهل العلم فيما يحلّ ويحرم ؛ عملا بقوله تعالى :
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( الأنبياء : 7 ) .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (( استفت قلبك )) قال العلماء: ولا يقال لكل إنسان: استفت قلبك، وإنما يقال ذلك لمن كان في مثل الصحابي وابصة في قوة الفهم، وصفاء النفس، وسَعة العلم، والحرص على تحري الخير، فمثله لا يرجع لفتوى رضي الله عنه،
أما عامة الناس فلا يقال لأحدهم: استفت قلبك، وإنما يقال له: استفت العلماء الذين يميل قلبك إلى أمانتهم في العلم، فاسأل واعمل بفتواهم، وإن خالفت فتواهم ما في قلبك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]
فمن كان سليم القلب فإن الله -تعالى- قد يهبه فراسة يعرف بها الإثم، حتى إن نفسه لا تطمئن إليه ولا ترتاح له.
ولنعلم أن معرفة الحق من الفطرة: فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد « الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ ».
وفي ذلك دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، ورَكَزَ في الطباع محبته، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة". وهناك أمر دقيق بين الفتوى والتقوى: فيجب على المسلم أن يترك الفتوى إذا كانت بخلاف ما حاك في نفسه وتردد في صدره، لأن الفتوى غير التقوى والورع، ولأن المفتي ينظر للظاهر، والإنسان يعلم من نفسه ما لا يعلمه المفتي، أو أن المستنكر كان ممن شرح الله صدره، وأفتاه غيره بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فإن الفتوى لا تزيل الشبهة. ففي حديث النعمان بن بشير في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ )
أما إذا كانت الفتوى مدعمة بالدليل الشرعي، فالواجب على المسلم أن يأخذ بالفتوى وأن يلتزمها، وإن لم ينشرح صدره لها، ومثال ذلك الرخصة الشرعية، مثل الفطر في السفر والمرض، وقصر الصلاة في السفر .. وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا والتسليم.
أيها المسلمون
ثم نختم حديثنا بأهم الفوائد والدروس والعبر التي نستلهمها من هذا الحديث : ومنها :
- فضل حسن الخُلق؛ حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخُلق هو البِرَّ.
- إن ميزان الإثم أن يحيك بالنفس، ولا يطمئن إليه القلب.
- المؤمن يكره أن يطلع الناس على عيوبه.
- أنه متى أمكن الاجتهاد، فإنه لا يعدل إلى التقليد؛ لقوله: وإن أفتاك الناس وأفتوك.
- معجزة واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر الصحابيَّ وابصةَ بما في نفسه قبل أن يتكلم به. - قيمة القلب في الإسلام واستفتاؤه قبل العمل.
- أن الدين وازع ومراقب داخلي، بخلاف القوانين الوضعية، فإن الوازع فيها خارجي.
- إن الدين يمنع من اقتراف الإثم، لأنه يجعل النفس رقيبة على كل إنسان مع ربه
- ما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]. وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحاك في صدره شبهة موجودة ولم يجد من يفتيه فيه بالرخصة ولا من يخبره عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف بإتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .
- إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه
- أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا .
الدعاء
لمتابعة جديد الخطب نشرف بزيارتكم لموقعنا الرسمى الجديد على هذا الرابط
http://hamidibrahem.com/