شدة الحر

محمد بن خالد الخضير
1440/10/18 - 2019/06/21 00:05AM

الخطبة الأولى

 الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على من بعثه الرحمن رحمة للعالمين وهادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أَمَّا بَعْدُ :

فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

عباد الله، نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، إلاّ أنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.

نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلاً مع الصيف وما يحمل من عبر.

 مَن مِنّا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟! كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر، فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحر؟!

روى الشيخان وغيرهما أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أي: أخروها حتى يبرد الجوّ-؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، وعند ابن ماجه قال صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب: أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".

أيها الأحبة: إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم". رواه النسائي بإسناد صحيح.

في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم"، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها"

فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟

يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود  قال: سمعت رسول الله  يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)).

تفر من الهجيـر وتتقيـه      فهلا مـن جهنم قد فررتـا

ولستَ تطيق أهونها عذابا       ولو كنت الحديـد بِها لذبتا

ولا تنكر فإن الأمر جـد       وليس كما حسبتَ ولا ظننتا

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

أيها المؤمنون: لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصايف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟! كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟!

يقول: "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا". رواه النسائي بإسناد صحيح.

 صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين، والمحروم من حُرم. يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".

أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب

خرج ابن عمر -رضي الله عنه- في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حرّه وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.

فهلم -عباد الله- نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24].

 

 بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه.أَمَّا بَعْدُ، عباد الله، من أعظم طاعات الحر الشديد: سقي الماء، سواء بحفر الآبار في المناطق الفقيرة الحارة، أو تسبيل البرادات في المساجد والأسواق وطرق الناس، أو توفير المياه المعلبة الباردة، ولا سيما لمن يحتاجونه كالعمال والمتسوقين ونحوهم؛ فإن صدقة الماء من أعظم الصدقات كما جاء في الحديث أن سعد بن أبي عبادة رضي الله عنه أنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» رواه أبو داود ، وروى الإمام أحمد من حديث سعد بن عبادة أيضًا، أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأتصدق عنها؟ قال:نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: (سقي الماء)،قال سعد: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة،وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما:أي الصدقة أفضل؟فقال: الماء،ثم قال:ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ﴾ [الأعراف:50].وقد قال بعض التابعين:من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء،وإذا غفرت ذنوب الذي سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحدا

ومن شكر الله تعالى على هذه النعمة: رحمة من يعملون في الهاجرة، ويتعرضون أكثر نهارهم للشمس الحارقة، ومواساتهم، وتلمس ما يخفف ذلك عنهم.

ولاننس رجال أمننا الذين يقومون بحفظ الأمن في بلادنا ويؤدون واجبهم في شدة الحر على الحدود وفي المساجد والطرقات فلهم الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله حقهم أن يشكروا ويُدعى لهم جزاء ما يقدمونه من هذا العمل الجليل.أسال الله أن يحرم وجههم عن النار

عباد الله، صلُّوا بعد ذلك على الهادي البَشِير، والسِّراج المنير.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد،

اللهم أعز الإسلام والمسلمين  وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد،اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على حُدود بلادِنا، اللهم كُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، ووفِّق رجال أمنِنا في برك وبحرك وجوك يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا ،وارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا،

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

المرفقات

الحر-محمد-الخضير

المشاهدات 864 | التعليقات 0