شِدَّةُ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم 17 ـ 1 ـ 1445هـ

عبدالعزيز بن محمد
1445/01/16 - 2023/08/03 14:58PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أيها المسلمون: جَعَلَ اللهُ هَذِهِ الحَيَاةَ مَعْبَراً إِلى الآخِرَةِ، فَأَوْدَعَ فِيْهَا مِنْ الدَّلائِلِ والآيَاتِ مَا فِيْهِ مُعْتَبَرٌ وَذِكْرَى.  آياتٌ.. تُذِكِّرُ الإِنْسانَ بِدارَ مَعَادِه. وأَحْوالٌ.. تُبَصِّرُهُ بِدَارِ مُنْقَلَبِه.  آياتٌ تَمُرُّ بالإِنْسَانِ في شَتَّى أَحْوَالِه.. يُدْرِكُ مِنْ خِلالِها أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُور.

آياتٌ.. يُبْصِرُها الإِنْسَانُ حَاضِرَةً.. فَيَسْتَدِلُّ بِها عَلى ما أُخْبِرَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ مُغَيَّبْ. يُبْصِرُ الإِنْسانُ آياتٍ.. ظَهَرَتْ فِيْها قُدْرَةُ اللهِ الباهِرَةِ. فَيُوقِنُ بِما يُماثِلُها مِنْ قُدْرَةِ اللهِ المَوعودَةِ في الآخِرَة. وكَمْ في القُرآنِ مِنْ آياتٍ قَرَنَ اللهُ فِيها القُدْرَتَيْن، وما يَفْقَهُ الآياتِ إِلا مَنْ عَقَلْ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} يابِسَةً هامِدَةً مُجْدِبَةً لا نَبَاتَ فِيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

قَرَنَ اللهُ القُدْرَتَيْن.. مُذَكِّرَاً أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلى ما تُشاهِدُونَ، قَادِرٌ على تَحْقِيْقِ ما تُوَعَدُون. مَنْ قَدِرَ عَلى إِحْياءِ الأَرَضِ بَعْدَ القَحْطِ، قَادِرٌ عَلى إِحياءِ النَّاسِ بَعَدَ المَوتِ. فَهوَ المالِكُ المُدَبِرُ القادِرُ العَظِيْم.

وآياتٌ أُخْرَى.. يَقْرِنُ اللهُ بِها بَينَ أَمْرَينِ.  بَيْنَ أَمْرٍ مُشَاهَدٍ وأَمْرٍ مُغَيَّبٍ. ولَولا الأَمْرُ المُشاهَدُ لَما أُدْرِكَ مَعْنَى الأَمْرِ المُغَيَّبْ {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} جَعَلْنا هَذِهِ النارَ التِي تُوقِدُونَها في الدُّنْيا.. تَذْكِرَةً لَكُمْ بِنارِ الآخِرَةِ التي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِين.  نارُكُمْ هذه المُحْرِقَةُ.. التَي تَطْهُوْنَ عَلَيْها طَعامَكُمْ، وتَصْهَرُونَ بِها مَعادِنَهُم، وبِها في شِدَّةِ البَرْدِ تَصْطَلُونَ، تُذِكِّرُكُمْ بِنارِ الآخِرَةِ التي هِيَ أَشَدُّ وأَعْظَم، وأَحَرُّ وأَحْرَقْ. فَتُورِثُكُمُ الذِّكْرَى يَقَظَةً وحَذَرَاً وخَوفاً. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً. قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» متفقٌ عليه {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ* لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

* وتَقَلُبُ الزَمانِ.. كَمْ فِيهِ للناسِ مِنْ مُعْتَبَر. يُدْرِكُ المرءُ في تَقَلُبِ الفُصُولِ ضَعْفَه. ويُبْصِرُ فِيه حَقارَةَ دُنْياه. فَبَرْدُ الشِّتاءِ يُؤلِمُهُ، وحَرُّ الصَيْفِ يُؤْذِيه. لَهِيْبُ الصَيْفِ يَقْطَعُ عَنْهُ كُلَّ مُتْعَةٍ، ولَفحُ السَّمُومِ يُلْجِئُهُ إِلى الظِلّ.

* شِدَّةُ الحرِّ التَيْ يُواجِهُها المرءُ في الدُّنْيا ولا يُقْوَى عَلى احْتِمالِها.. تَحْمِلُهُ على تَذَكُّرِ حَرِّ الآخِرَةِ. فَيَعْظُمُ خَوفُهُ ويَتَأَكَدُ حَذَرُه.  ويَسْعَى جاهِداً فِيْ طَلَبِ النَّجَاةِ مِن حَرٍّ يَوْمٍ لا يُطِيْقُ لَهُ دَفْعاً.

* شِدَّةُ الحَرِّ المُلْتَهِبَةِ.. تُذَكِرُ بِـحَرِّ يَومِ الحِسابِ، حَرِّ يَومِ المَحْشَرِ، حَرِّ يَومِ الوقُوفِ الطَوِيلِ لِفَصْلِ القَضاء بَينَ يَدَيِ الله. عَنِ المقْدَادِ بنِ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يكُونُ إِلَى رُكبتَيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجَامًا» قَالَ: وَأَشَارَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. رواه مسلم  

ولَنْ يَنْجُوَ مِنْ حَرِّ ذَلِكَ اليَومِ.. إِلا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُ الكَرامَةَ، وتَفَضَلَ عَلِيهِ بالإِحْسَانِ.. فَعَمِلَ في هَذِهِ الدُّنيا أَعمالاً يُدْرِكُ بِها رَحْمَةَ الله، و{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضْيَ اللهُ عنه أَن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله عز وجل وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إنِّي أخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

خِصالٌ تُنْجِيْ مِنْ حَرِّ ذَلِكَ المَوقِفِ، وَيُـجَازَى صَاحِبُها بِالكَرامِةِ في ظِلِ اللهِ يَومَ القِيامة.. فإِنْ تَخَطَّتْكَ واحِدَةٌ مِنْها، فَلْم تَقْدِرْ عَلى الاتِّصافِ والتَّخَلُّقِ بِها. فَلا تَتَخَطَّاكَ أُخْتُها. تَهَيَّأَ لِذاكَ المَوقِفِ بأَكْرَمِ ما اسْتَطَعْتْ مِنْ عَمَلْ. فَما بَعدَ المَوتِ للمُفَرِّطِينَ إِقالَةٌ، ولا للخاسِرِينَ في طَلَبِ النَجاةِ أَمَلْ.

قَلْبُ المُؤْمِنِ مُتَيَقِظٌ فَطِنْ، مُتَذِكِرٌ متَبَصِّرْ، يَلْسَعُهُ في الدُّنْيا لَهِيْبٌ مِنْ الحَرِّ.. فَيَفْزَعُ مُسْتَعِيْذاً باللهِ من حَرِّ جَهَنَّم.  حَرٌّ يُطْبِقُ عَلى بِقَاعٍ مِنَ الأَرْضِ.. فَيَسْتَنْفِرُ الناسُ في الوِقايَةِ مِنْهُ كُلَّ طَاقَاتِهِم.. يَلُوذُونَ مِنْهُ إِلى الظِّل. ويَتَوارَونَ عَنْهُ في الأَبْنِيَة، ويَعْكِفُونَ أَمامَ وَسائِلِ التَكْيِيف.   ذَاكَ الحَرُّ المُفْزِع.. إِنَّما هُو نَفَسٌ واحِدٌ مِنْ أَنْفاسِ جَهَنَّمْ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» متفق عليه وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنم» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَن لا إِله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشهدُ أَن محمداً عبدهُ ورسولُهُ النبي الأَمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِهِ وأَصحابِه أجمعين.

أَما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.

أَيُّهَا المُسْلِمُوْن: هَيَّأَ اللهُ لِلِعبادِ أَسْبابَ الحَياةِ، ويَسَّرَ لَهُمْ سُبُلَ العَيْشِ، وذَلَّلَ لَهُمْ في الأَرْضِ الصِّعابْ.  نِعَمٌ تَفَضَّلَ اللهُ بِها على العِبادِ.. ولَولا فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِم لمْ يُدْرِكُوها. ذَكَّرَ اللهُ العِبادَ بِبعْضِ هَذِهِ النِّعَمِ. وأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا بِحالِهِمْ لَوْ فَقَدُوْها {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ*لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنا هَذا الماءَ مِلْحاً أُجاجاً، فَلا هُوَ للشُرْبِ سَائِغٌ، ولا هُو لِلزَّرْعِ نَافِع. ولَكِنْ جَعَلْناهُ عَذْباً زُلالاً {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} فَهَلَّا شَكَرْتُمْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم.

* ثُمَّ ذَكَّرَ اللهُ العِبادَ بِمِنَّةٍ أُخْرَى.. ماءٌ في الأَرَضِ لَهُمْ مَخْزُونٌ، قَرْيْبٌ مِنْهُم لَو طَلَبُوه، ولَوْ غَارَ في أَعماقِ الأَرْضِ لَما اسْتَطَاعُوا أَنْ يُدْرِكُوه. لَو غارَ الماءُ في أَعْماقِ الأَرْضِ ونَزَلَ في قَعْرِها.. لَتَلاشَتْ قُدْرَةُ آلاتُكُم. ولَظَهَرَتْ حَقارَةُ مُعِدَّاتِكُم {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} يأَتِيْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وهو على كُلِّ شَيءٍ قَدِيْر.  فأَقِيْمُوا وُجُوهَكُم لَمَنْ يأَتِيْ بِما أَنْتُم عاجِزُونَ عَن الإِتيانِ بِه. وكُونُوا للهِ من الشَّاكِرِين.

وهَكَذا كُلُّ النِّعَمِ.. مَنْ عاشَ نَعِيْمَها، ولَمْ يَتَأَمَلْ في أَضْدادِها لَمْ يُدْرِكْ حَقِيقَةَ قِيْمَتِها.  رَكُوْنُنَا إِلى الظِّلِّ البَارِدِ في القَيْظِ المُلْتَهِبِ. لَنْ يَدْرِكَ عَظِيْمَ النِّعْمَةِ فِيْهِ مَنْ لَمْ يَلْفَحْهُ من القائِلَةِ هَبُوبٌ السَّمُوم. وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ.

لَهِيْبُ صَيْفٍ.. يُسِّرَتْ أَسْبابُ مُقَاوَمَتِه. فَلا تَكادُ تَجِدُ لِخُشُونَةِ الحَرِّ فِينا أَثَراً.  شَرَابٌ بَارِدٌ في يَومٍ قَائِظ، ومَسْكَنٌ باردٌ في يَومٍ صَائِف. ومركبٌ بارد في شَمْسِ مُحْرِقَة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}  * والمُؤْمِنُ التَقِيُّ.. لا يُقْعِدُهُ عَنِ العِبادَةِ حَرٌّ، ولا يَعْقِرُهُ عَنْها قَرّ. لَهُ فِيْ العِبادَةِ عَقْدٌ لا يُنْقَض، يَسْتَعيْنُ باللهِ فَيَقْوَى.  قَعَدَ المُخَلَّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ {وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} فَما أَغَنى عَنْهُم تَوَقِّي الحَرِّ شَيئاً.. حِينَ جاءَهُمْ مِنَ اللهِ الوَعِيد {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}  * المُؤْمِنُ.. يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ نَصَبٍ في العِبادَةِ يُؤْجَرُ عَلَيْه.. فَما حَلَّ الحَرُّ لِعَزَائِمِهِم قُوَّة، وما أَوْهَنَ الحَرُّ لِمَطالِبِهِم نَشاط. يُؤَدُنَ الفَرَائِضَ وبأَمْرِ اللهِ يَعْمَلُون. يُبادِرُونَ إِلى الجُمَعِ ولا يتَخَلَّفُونَ عَن الصَلَوات. خُطُواتُهُم في الحَرِّ إِلى ما يُرْضِيْ الله. لَنْ تَذْهَبَ في المِيزانِ سُدَى {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} 

* أَهْلُ الإِيْمانِ.. لَهُمْ قُلُوبٌ.. تَخْتَرِقُ الحَرَّ لا تَحْتَرِق. تُقاوِمُ العَقَباتِ لِتُدْرِكَ الدَّرَجَات. لَمَّا حَضَرَتْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الوَفاةُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا وَطُولَ الْبَقَاءِ فِيهَا لِكَرْيِ الأَنْهَارِ وَلا لِغَرْسِ الأَشْجار، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ ــ أَي ظَمَأَ الصِيامِ في شِدةِ الحَر ــ وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ)  * ولَمَّا نَزَلَ رَوْحُ بنُ زِنْبَاعٍ الجُذامِيُّ ــ أَحَدُ أُمَرَاءِ الشَّامِ في عَهدِ بَنِيْ أُمَيَّةَ ــ لَمَّا نَزَلَ عَلى مَاءٍ بَينَ مَكَة والمَدِينَةِ.. في ذَهابِهِ إِلى الحَجّ. أَمَرَ بالطَعامِ فَصُنِعْ، فَبَيْنَما هُوَ يَأَكُلْ. إِذْ انْقَضَ راعٍ مِنَ الجَبَلٍ يُرِيْدُ الماءَ لِغَنَمِه. فَدَعاهُ رَوحٌ إِلى الطَّعامِ.

فَقالَ الرَّاعِيْ: إِنِّيْ صَائِم!  قالَ لَه رَوْح: أَتَصُومُ في يَومٍ طَوِيْلٍ شَدِيْدِ الحَرّ؟ اْدْنُ فَاطْعَمْ مَعَنا. فَقالَ الرَّاعِيْ: أَفَأُغْبَنُ أَيَّامِيْ مِنْ أَجْلِ طَعَامِكْ؟ ثُمَّ انْثَنَى إِلى غَنَمِه.

فَقالَ رَوحٌ يُخاطِبُ نَفْسَه:

لَقَدْ ضَنَنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِيْ ** إِذْ جَادَ بِـهَا رَوْحُ بنُ زِنْبَاعِ

لَقَدْ بَخِلْتَ بِأَيَّامَكَ يَا راعِيْ أَن تَضِيْعَ بِلا ثَمَن. حِيْنَ أَضَعْتُها بِلا سَعيٍ لَهُ في الآخِرَةِ ثَمَنْ  {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً, وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}

 اللهم..

المرفقات

1691063884_شِدَّةُ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم 17 ـ 1 ـ 1445هـ.docx

المشاهدات 1047 | التعليقات 0