شجرة لا يسقط ورقها. خطبة 12 ذو القعدة 1438هـ (نص + بي دي إف).

عاصم بن محمد الغامدي
1438/11/12 - 2017/08/04 04:20AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله فالِقِ الحَبِّ والنَّوَى، عالم السر والنجوى، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وصلى الله وسلم على خير خلقه وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله - وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصوه، وتزينوا بلباس التقوى، وتقربوا إليه بما يحب ويرضى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

عباد الله:

من المخلوقات العجيبة، التي لها دور كبير في تحقيق التوازن البيئي على الأرض، الشجر والنبات، ومن أعظم مهامه، طرد الأكسجين النافع للبشر، والاستفادة من ثاني أكسيد الكربون الذي يخرجونه.

والنبات ألوانٌ وأشكال، فمنه العلاجُ النافعُ، والظلُّ الوارفُ، والغذاءُ المفيدُ، ومنه الزينةُ المجردةُ، والمظهرُ الحسنُ، ومنه السمُّ الزعافُ، والمنظرُ القبيحُ.

وربما أكلتَ من مزرعةٍ واحدةٍ ثمرتين متشابهتين، فوجدت فرقًا بينهما في الطعم واللون والجودة، وصدق الله تبارك وتعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

عباد الله:

الحياةُ كالنبات، كثيرةُ التقلبات، فَناؤها سريع، وحُسْنها يضيع، تذهب لذاتُها، ولا تنقضي حسراتُها، تزدان يومًا، وتذبل آخر، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}.

والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وحالُ المؤمن والمنافق مع القرآن له شبَه ببعض النباتات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ». [رواه البخاري ومسلم].

أيها المسلمون:

جلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرة مع أصحابه، فقال لهم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، ثم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ». [أخرجه البخاري ومسلم].

يا زينةَ الحقلِ يا سلطانةَ الشَّجَرِ

تيهي بإكليلكِ المخضَوْضر النَّضِرِ

النخلةُ نافعةٌ في كل أجزائها، كريمة حتى بعد مماتها، يستَخْدمُ سعفُها في سقف المنازل، والاتقاءِ من المطر، وخُوصُها في صناعة أدوات نافعة، وجِذْعُها في البناء، ونواها في إطعام البهائم، وثمرتُها تؤكل بلحًا، ورطبًا، وبُسْرًا، وحشفًا، وتمرًا، وتخزن في جميع فصول السنة.

أنا زادُ الفقيرِ في كلِّ وقتٍ

وطعامُ الملوكِ والأمراءِ

 

معدني طيب وأصلي كريم

وكثيرٌ للخارفين عطائي

وكذلك المؤمنُ نافعٌ في كل حياته، يستغل وقته في البذل لنفسه وأهله ومجتمعه، لا يألو جهدًا يستطيعه لخدمة دينه، سخَّر عقله للخير، وجسمه للعطاء، وماله للإنفاق، يستفيد الناسُ من لسانه وفكره وعمله وهيئته ولُبسه وسمته، وإذا مات فمِن ورائه علمٌ نافع، وولدٌ صالحٌ، وذكرٌ حسنٌ.

والنخلة ثابتةُ الأصلِ في الأرض، لا تُضعفها العواصف، ولا تغيِّرها تقلباتُ الفصول، ولا تؤثر فيها الرياح العاتية.

وكذلك المؤمن أصلُ إيمانه ثابت، لا تضعفه الأهواء، ولا تغيره الشبهات، ولا تؤثر فيه محاولات التغيير المستمرة للباطل، بل يصدُّ ذلكَ كلَّه بمنظرٍ حسنٍ، وشموخِ رأسٍ، وعزةِ نفسٍ.

والنخلةُ نَضِرةٌ عاليةُ، فروعُها كثيرةٌ، لا يسقطُ ورقُها ولا يتحاتُّ، دائمةُ البركةِ، والمؤمنُ عزيزٌ بدينه، قلبُه نضِرٌ بالقرآن، يبذل في كثير من أعمال الخير، وقته مبارك، لا تسقط له دعوة.

عباد الله:

في ارتفاع جذع النخلة، إشارة لنا لنرتفع عن الأحقاد، ونعلو على سفاسف الأمور، ونطلبَ القمة في كل شؤوننا، ولا نرضى بها بدلاً.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.

الخطبة الثانية:

الحمدلله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، وصلى الله على نبيه المصطفى، وعبده المجتبى، وعلى من سار على نهجه واقتفى وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:

فهل تعلمون أن الشجر يسجد لله تعالى؟ قال جل جلاله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}.

وفي يوم القيامة أنواع من الشجر، بعضها فيه كرامة أهلِها ونعيمهم، وبعضها والعياذ بالله فيه إهانتهم وعذابهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا». [رواه البخاري ومسلم]. ومن خاف مقام ربه، ومنع نفسه من هواها، فله جنتان كثيرة الأغصان، عديدة الألوان.

وفي جهنم أعاذنا الله منها شجرة خبيثة، {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}، شجرة الزقوم وما أدراك ما شجرة الزقوم، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}.

فشجرةُ الجنة تدرك بالخوف من الله، والإقبال عليه، وَ«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ». [رواه الترمذي وحسنه وصححه الألباني].

وإذا قلتَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].

والصدقةُ ولو بشق تمرة، سببٌ للنجاة من شجرة النار، فكونوا يا عباد الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسِنوا جوارَ نعم الله؛ فإنها قلَّ ما نفَرَت عن أهل بيتٍ فكادَت أن ترجِع إليهم، واتقوا الله وتوبوا إليه {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}.

 

ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على سيد الأولين والآخرين، وصاحب الشفاعة في يوم الدين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

المرفقات

لا-يسقط-ورقها

لا-يسقط-ورقها

المشاهدات 1235 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


آمين وإياكم أخي الكريم.