شتان ما بين دمعتين

د. منصور الصقعوب
1433/12/23 - 2012/11/08 08:02AM
[font="]شتان ما بين دمعتين[/font]
[font="]الخطبة الأولى

[/font]
[font="]الدموع لا تخرج من العين بسهولة, بل لربما سعى الإنسان أن يخرجها لكنها لا تخرج إلا عند وجود ما يثيرها, ويدفعها للذرف, على حسب تفاوت الناس في اهتمامهم[/font]
[font="]من الناس من تكون اهتماماته سطحية, فتجده يبكي ويحزن لأجل أمورٍ تافهة, بل إن من الناس من ربما بكى لفوات معصية أو لأمر محرم, ومن الناس من علت هممهم ورقت اهتماماتهم فلا تذرف لهم عين إلا في أشرف الأمور, وهو رضا الله والجنة[/font]
[font="]في اليومين الماضيين رأيت شابين تذرف دموعهما, ولكن شتان ما بين دمعة ودمعة.[/font]
[font="]فأما الأول فيبكى لهزيمة فريقه الكروي, وحين أبديت عجبي من ذلك قيل إن ثمة من ربما فقد صوابه مهتماً بهذه السطحيات من متابعة المباريات ومن الناس من مات متأثراً بتعصبٍ وترقب.[/font]
[font="]وأما الآخر فشابٌ في مقدّم المسجد قام الواعظ متكلماً وحين سمع الشابُ ذكر الجنة وصحبة المصطفى [/font][font="]<[/font][font="] فيها بكى وطال بكاؤه شوقاً للدار وللصاحب, فشتان ما بين الدمعتين[/font]
[font="]واستمعت كما استمع غيري لمقطع صوتي فيه اتصالان من فتاتين على إحدى القنوات كلٌ منهما تبكي.[/font]
[font="]فأما الأولى فلا تكاد تميز صوتها من البكاء وهي تخبر عن حبها وإشادتها وإعجابها بلاعب غربي نصراني, وأما الأخرى فتسابق دموعُها حديثَها وهي تخبر عن شوقها للجهاد في سبيل الله ورغبتها في نصرة المسلمين والذود عن حماهم, فشتان ما بين الدمعتين[/font]
[font="]نعم أيها المبارك؛ قل لي بم تهتم أقل لك من أنت, فعلى قدر اهتمامك تضع نفسك, وحين كانت اهتمامات المسلمين وبكاؤهم على عدم قدرتهم على التهيؤ للجهاد, حكى الله ذلك عنهم فقال ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً..) حين كانت الدموع تذرف لأجل مثل هذه المُثُل أعزهم الله, وحين رأيت من يبكى لأجل مسلسل تلفزيوني أو لأجل ضياع مجد كروي رأيت حال المسلمين على ما هي عليه الآن[/font]
[font="]معشر المسلمين[/font][font="]: قطرة من الدموع ربما غيرت واقع امريء من العصيان إلى رياض الإيمان, ربما كانت سبباً لرضا الرحمن, وربما كانت لكسب الثواب ومضاعفة الأجر والإحسان, وفي القرآن أثنى الله على الدامعة عيونهم من خشيته بأنهم (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) وحين عدّ المصطفى [/font][font="]<[/font][font="] سبعة يظلهم الله في ظله قال منهم [/font][font="]"[/font][font="]ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه[/font][font="] "[/font]
[font="]بل ولن تمس النارُ عيناً بكت خوفاً من الله, وفي الحديث أنه [/font][font="]<[/font][font="] قال " عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله "[/font]
[font="]وأحب ما تقدمه لله دمعة صادقة من قلب مخبت, وفي الحديث " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله "[/font]
[font="]معشر الكرام[/font][font="]: متى ذرفت دموع سيد المرسلين, ومتى تسقط دموع الصحابة والصالحين, دعونا نستعرض بعضاً من مواطن استعبارهم وبكائهم, لترى أن اهتماماتهم تدور حول مراضي ربهم, وما أروعها من لحظة حين تبكي خوفاً من مولاك لا تريد بذلك رياء ولا سمعة, ولا دنيا ولا فزعاً وألماً, بل خوفاً من يوم زلت القدم.[/font]
[font="]أتى [/font][font="]<[/font][font="] إلى ابن مسعود فقال له (اقرأ علي القرآن) قال فقلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ ، قال : (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه سورة النساء ، حتى جئت إلى هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال " حسبك الآن " فالتفت إليه ، فإذا عيناه تذرفان.[/font]
[font="]وعند المقابر بكى, وقد روى مسلم عن أبي هريرة [/font][font="]ا [/font][font="]قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله... الحديث[/font]
[font="]ولما رأى النبي [/font][font="]<[/font][font="] أصحابه يحفرون قبراً لدفن أحد المسلمين وقف على القبر وبكى ثم قال : (أي إخواني، لمثل هذا فأعدوا)[/font]
[font="]وفي صلاته موطن تنزل لدمعاته, قال ابن الشخير [/font][font="]ا[/font][font="]: أتيت رسول الله [/font][font="]<[/font][font="] وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء[/font]
[font="] [/font]
[font="]أما الصحابة رضي الله عنهم فكانوا يبكون عند مواعظه [/font][font="]<[/font][font="], خطب مرةً فقال (عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) فما أتى على الصحابة يومٌ أشدَ منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين " . والخنين : هو البكاء [/font]
[font="]كانوا يبكون إذا تذكروا النار, فابن مسعود كان إذا مر بالحدادين وقد أخرجوا حديدا من النار ويذيبونه يظل ينظر لهم ويبكي, وكان غيره إذا وقف عند تنور الخباز يتذكر حر النار فيبكي.[/font]
[font="]ووقف أحدهم على من يشوي اللحم والرؤوس فطال بكاؤه وقال تذكرت ( تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون)[/font]
[font="]كانوا يبكون حين يذكرون طول السفر وقلة الزاد من العمل, بكى أبو هريرة [/font][font="]ا[/font][font="] في مرضه فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : (أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي)[/font]
[font="]كانوا يبكون إذا فاتتهم الطاعات, فقد نقل في سيرة سعيد بن عبد العزيز أنه فاتته صلاة الجماعة فبكى وأطال حزناً على ما فاته, وحين بكى إياس بن معاوية على موت أمه عوتب فقال:[/font][font="] [/font][font="]كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها[/font]
[font="]كانوا يبكون حين يُحرمون من الخيرات, فكم ذرفت دموع وهي تودع المجاهدين لكنها لا تجد راحلة, وكم ذرفت وهي تودع الحجيج لكنها لا تجد نفقة, وهل يلام من بكى شوقاً لبيت الله الحرام فحيل بينه وبين ذلك؟![/font]
[font="]كانوا يبكون حين تمر بهم الآيات, وربما ظل أحدهم ليلة يردد آية ويبكي, وابن رواحة [/font][font="]ا[/font][font="] وضع رأسه يوماً لينام فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عز وجل (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) فلا أدري أأنجو منه أم لا[/font]
[font="]وقرأ رجل عند عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرق الناس[/font]
[font="]كانوا يبكون عند شهود الجنائز, وزيارة القبور, لأن القلوب حية, وقال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعاً باكياً أو متقنعا متفكراً.[/font]
[font="]إنهم قومٌ كانوا يرون الدموع طيباً يتطيب به المؤمن, وقال بكر المزني: إنما طيب المؤمن الماء المالح هذه الدموع فأين من يتطيبون بها؟.[/font]
[font="]كانوا يرون عيناً لا تبكي لا خير فيها, وقد اشتكى[/font][font="] [/font][font="]ثابت البناني عينيه فقال له الطبيبُ: اضمن لي خصلة تبرأُ عيناك فقال: وما هي؟قال:لا تبكِ فقال:وما خير في عين لا تبكي؟ [/font]
[font="]لمثل هذه الأمور من الكمالات تستحق أن تنزل الدمعات, فطوبى لمن بكى خشية من الله, ويا خسارة من هيج الحزنُ قلبه ودمعت عينُه لأمر محرم أو أمر تافه[/font]
[font="]كلاهما خرج الدمع من عينه ولكن شتان ما بين دمعتين.[/font]
[font="] [/font]
[font="]الخطبة الثانية:[/font]
[font="]الحمد لله وحده: [/font][font="]وموطن ينبغي أن تنزل فيه الدمعات وتسكب فيه العبرات, إنه حال المسلمين اليوم في أنحاء من الأرض[/font]
[font="]حُقَ لعينٍ أن تبكي وهي ترى حال المسلمين في بلاد الشام, حين ترى أباً شاكياً وطفلا باكياً, كم تبكي العين وهي ترى هناك يداً بلا جسد, وجسداً بلا رأس, وبيتاً متهدماً على أهله تناثر معه متاعهم وبقايا لباسهم, وطفلاً مات وهو متحضن أمه, وصغاراً ونساءً تجز رؤوسهم بالسكاكين, وأسرة ألجأتهم الحاجة للمكث في خيام بلا فرش ولا طعام [/font]
[font="]وبرغم التقدم وبشائر الخير من هناك فإن القلب الحي تدمع عينه حين يرى قهر الرجال ومشاهد التعذيب للمسلمين, والدمعة المطلوبة هي التي يتبعها العمل فيسعى بعدها إلى نصرة إخوانه بدعم مالي ومناصرة معنوية, ودعوة صادقة يرفعها لرب البرية, وهنا فحُق لنا أن نقول بأن بلاد الشام اليوم أحوج ما تكون للدعم بعدما خبا حين انسلخ رمضان, فهي ميدان نصرة وجهاد, ومكان إطعام فقير ومسكين, فابذل من مالك وصدقاتك, وقدِّم إن كنت قد حججت قيمة حج نفلك لإخوانك هناك فلربما بما تدفع حفظت عورة وسددت جوعة وحقنت دماً ونصرت مسلماً[/font]
[font="]معشر الكرام[/font][font="]: وحق لعين أن تدمع وهي تسمع عن حال الأسرى في العراق ممن حكم عليهم الرافضة بالإعدام, وهاهم يعدمون واحداً واحداً أمام نظر العالم الصامت, فتراق دماء خرجت نصرة للمسلمين وجهاداً لأعداء الدين, لترفع الحرج عن الأمة وتذود عن أعراض المسلمين[/font]
[font="]وينبغي أن يكون بعد الدموع عملٌ للنصرة, فإن تعذرت النصرة المباشرة فالدعاء لهم أنكى الأسلحة وأبلغ طرائق النصرة[/font]
[font="]عباد الله:[/font][font="] وحق لعين أن تدمع على حال المسلمين في بورما, وهو يرى البؤس يعلو محيا المسلمين هناك, ويسمع عن حال المهجّرين والمعذّبين, وينبغي أن تتبع الدمعة هبةٌ لمالٍ تدفعه وأمرٍ من النصرة تعمله. [/font]
[font="]وجماع الأمر معشر الكرام[/font][font="]: فعلى أحوال المسلمين؛ حُقّ لعين أن تُريق دُموعَها ولا خير في عينٍ بذلك تبخلُ, وينبغي أن يتبع الدموع مشروع, فالموفق من كانت دمعته وقوداً لرفع همته وإزالة غشاوة غفلته, فسعى للنصرة وبذل ما يقدر لرفع الكربة[/font]
[font="]وقد آن أن نختم الحديث بما به بدأ, شتان ما بين دمعتين, دمعةٍ تنزل في سبيل الشيطان أو في أمر لا بمحرم لكنه مما يزري بالإنسان, وبين من يبكي خشية من الملك العلام أو نصرةً لأهل الإسلام .[/font]
[font="] [/font]
المشاهدات 3517 | التعليقات 2

جزاك الله خير وبارك فيك


بارك الله فيك ونفع بك..