(شبهات حول الحجاب) خطبة الشيخ د.صالح العصيمي الجمعة القادمة 4/3/1436 هـ بإذن الله
أبوبصير الحازمي
1436/03/03 - 2014/12/25 09:55AM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله،نحمده،ونستعينه،ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهد الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له،تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،وخليله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد ... فاتقوا الله- عباد الله- حق التقوى؛واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى. واعلموا بأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم،وأن شر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار .
عباد الله،لقد نالت المرأة المسلمة شرفا عظيما،ومكانا عاليا؛حينما خاطبها الجبار،جل في علاه،بما خاطب به أزواج النبي،صلى الله عليه وسلم، وبناته،فقال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)،لقد فرحت الصحابيات،رضوان الله عليهن،حين نزلت الآية، واستجبن لأمر الله؛(فخرجت نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان؛من أكسية سود يلبسنها) . إن هذه الآية نص صريح،وأمر واضح يجب ألا يكون محلا للنقاش،في وجوب تغطية الوجه؛ولكن هناك من روعه الجلباب،وأفزعه تحجب الصالحات، وأحزنه عدم التبرج والسفور في هذه البلاد؛فتحمس حماسا لا مثيل له لمحاربته .
عباد الله،إن تغطية المرأة وجهها- في أقل أحواله- مستحب للقواعد من النساء؛فعلى غيرهن من باب أولى،ولم يقل أحد من أهل العلم قاطبة: إن تغطية المرأة لوجهها مباح؛فهو عند أهل العلم: إما على الوجوب- وهو الراجح- وإما على الاستحباب،مع كراهة كشف الوجه؛ومع ذلك فقد أجمعوا على وجوب تغطيته في أوقات الفتن،وفي حق الشابات،لكن بعض المفتونين بفعلهم المحموم وصنيعهم المذموم؛إما يحاربون واجبا،أو مستحبا،فلم يسبقهم في هذا الهجوم على الحجاب أحد يوثق في علمه ودينه؛فعجبا والله ! لم نقرأ لهم مقالا واحدا أوردوا فيه أدلة تحريم كشف الرأس أو القدمين،أو تحريم خروج المرأة متبرجة في أبحاثهم؛فليس لهم من أبحاث إلا أن الأغاني مباحة،مع أن أئمة العلماء على تحريمها،وما سبق ابن حزم،رحمه الله، أحد في إباحتها،وهو من علماء القرن الخامس،بل حتى الإمام ابن حزم،ومن وافقه من المتأخرين الذين لا يعتد بمخالفتهم للقرون المفضلة؛على أنها مكروهة أو مباحة،ومع ذلك نجد هؤلاء القوم لا يبحثون إلا في هذه المسائل، وكانت ثالثة الأثافي منهم،وطامة الطوام الدالة على منهجهم؛جعلهم الصلاة مع الجماعة سنة،فعجبا والله،لا يجد خيرة خلق الله،صلى الله عليه وسلم،رخصة لأعمى،كبير السن،شاسع الدار عن المسجد،ليس له قائد تنضبط معه مواعيده ؛ بأن يصلي في بيته، وهم يرخصون لنشطاء أقوياء،ولو كانت الصلاة مع الجماعة سنة لما هم،صلى الله عليه وسلم،بتحريق بيوت من تركوها؛لأن تارك السنة لا يأثم،فكيف يعاقب؟! وهذه المسألة يجب ألا تكون محلا لنقاش أو لخلاف-كما يزعمون ويدعون- لكن هؤلاء المفتونين يقض مضاجعهم - فيما يظهر والله أعلم- امتلاء المساجد بالمصلين،ويفزعهم تحجب نساء المؤمنين،ويقلقهم عزوف الأتقياء عن سماع آلات اللهو والمجون؛إلا من ابتلي بها منهم،مع اعترافه أنها ذنب ومنكر،غفر الله لنا ولهم .
عباد الله،إن أدلة وجوب تغطية الوجه واضحة لمن حماه الله من اتباع المتشابه ،ووفقه لاتباع المحكم،فوالله لو لم يوجد دليل على ذلك الوجوب إلا قوله تعالى : (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)؛ لكفى، فبماذا يعرف الإنسان إلا بوجهه ؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
عباد الله،ها هم أئمة أهل العلم من أهل السنة والجماعة من المفسرين؛قد أوجبوا تغطية الوجه عند بيانهم لمعنى الآية كابن جرير،وابن كثير؛ حيث قال في بيانها نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما:( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب، ويبدين عينا واحدة .بل ونجد إمام المتكلمة أبا بكر الرازي يتابعهم على ذلك الوجوب، بل ها هو إمام المعتزلة الزمخشري يسير على نهجهم؛فيقول في بيان معنى الآية:(يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن)،وهو-كما لا يخفى-إمام في اللغة،وحجة في فهم معانيها. بل لو رجعت لتفاسير الأئمة كالجصاص،والطبري،والقرطبي، والبيضاوي،والكلبي المالكي،وابن حيان اللغوي الشهير،وجلال الدين المحلي، وغيرهم من أئمة التفسير؛لوجدتهم يتفقون على نفس المعنى عند بيانها بأنه يدل على وجوب تغطية الوجه . قال الإمام السيوطي،رحمه الله، : (هذه آية الحجاب في حق سائر النساء؛ ففيها أوجب الله عليهن ستر الرأس والوجه).وقال الشوكاني،رحمه الله : ( يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة ) ، وقال علامة الشام، ومحدثها،وشامتها جمال الدين القاسمي، رحمه الله:( وفيها ستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن) وقال كبير مفسري نجد،وأحد أكابر علمائها،علامة القصيم السعدي رحمه الله : ( هذه الآية تسمى آية الحجاب، فيغطين وجوههن وصدورهن،وهذه الآية تدل على وجود أذية إذا لم يحتجبن ) انتهى كلامه رحمه الله،وقال العلامة ابن باز،رحمه الله،في بيان معنى الآية : (أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور، والوجه،وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة؛فلا يفتن،ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن) .
عباد الله، كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وعجيب أمرهم يدعون المحكم،ويعملون بالمتشابه؛فيعرضون عن هذه الآية،ويبحثون عن أقوال مرجوحة في بيانها،ثم يوجبون الحجاب على أمهات المؤمنين فقط مستدلين بقوله تعالى :( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ)، فقالوا : ومفهوم المخالفة يدل على عدم وجوبه على غيرهن ، وما أدري -والله- كيف خصصوها بأمهات المؤمنين ؟! مع أنها دليل على وجوب الحجاب ، على جميع النساء، يقول إمام المفسرين ابن جرير،رحمه الله، في بيانها:( وإذا سألتم أزواج رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج؛ فاسألوهن من وراء ستر بينكم وبينهن ) انتهى كلامه رحمه الله .
وقال بقوله عشرات من أئمة التفسير،وأما جعل الخطاب خاصا بنساء النبي، صلى الله عليه وسلم،وهن الطاهرات العفيفات التقيات النقيات؛فدليل على دخول غيرهن فيه من باب أولى، كما هو مقرر في علم الأصول؛ فالآية ليست خاصة بهن . ولقد علم في أصول الفقه أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه،فسبحان الله ! إذا كانت نساء النبي،صلى الله عليه وسلم،لا يحللن لأحد بعده إن فارقهن بطلاق أو وفاة؛ومع ذلك حذر الله من أن يطمع فيهن من في قلبه مرض؛فماذا يقال في غيرهن المحللات لنا بالنكاح ؟ هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير محجبات،وبارزات غير مستترات ؟! ولو قلنا بخصوصها؛ لكان المفهوم أيضا على منهجهم أن غيرهن يخضعن بالقول حتى يطمع فيهن من في قلبه مرض . فهل يقول بذلك عاقل فضلا عن مسلم ؟!
عباد الله،ومن أدلة وجوب تغطية الوجه في القرآن قوله تعالى :( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) قال الحافظ ابن حجر،رحمه الله:( فاختمرن أي غطين وجوههن )، وقال العلامة ابن عثيمين،رحمه الله، في بيان معنى الآية:( فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها؛كانت مأمورة بستر وجهها من باب أولى؛لأنه موضع الجمال والفتنة؛ فالناس عندما يطلبون جمال الصورة ينظرون للوجه،وإذا قيل : فلانة جميلة؛لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه؛فإن الوجه هو موضع الجمال،فكيف يفهم أن الشريعة تأمر بستر الصدر والنحر،ثم ترخص في كشف الوجه)؟
عباد الله، لقد أجمعت الأمة على وجوب تغطية الرأس والقدمين،لم يخالف في ذلك أحد،أليس الوجه بالتغطية أولى؟!( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
عباد الله،لقد أجمعت الأمة على مشروعية نظر الخاطب إلى مخطوبته،ولو كان كشف الوجه مباحا؛لما جاء الاستثناء للخاطب بجواز النظر إلى المخطوبة؛لأن من قالوا بكشف الوجه لم يحرموا النظر إليه؛ فلو كان الكشف مكروها،أو مباحا،والنظر إليه محرم؛ لكان هذا من التكليف بالمستحيل .فكيف يرخصون لها بكشف الوجه وهي تسير أمام الرجال؟ فهل يسير الرجال أمامهن مغممي الأعين ؟!
عباد الله، إن على المؤمن أن يتقي الله ويخشاه،ولا يتبع كل متقول مفتون ممن لا يعرفون إلا بإثارة الفتن،هدانا الله وإياهم للصواب،وحمانا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه،إنه هو الغفور الرحيم .
==========================
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه،والشكر له على عظم نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله،وحده لا شريك له،تعظيما لشأنه،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،وخليله،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وسلم تسليما كثيرا أما بعد..
فاتقوا الله-عباد الله-حق التقوى،واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى،واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى .
عباد الله، قال العلماء: (ما جاء مبطل بدليل إلا وكان الدليل ضده لا معه؛ فالدليل الذي يستدل به المبطل ينقلب بحمد الله إلى ضده ) فأقوى دليل يستدل به على جواز كشف الوجه-وهو من الأحاديث المتشابهة-؛ حديث الفضل،رضي الله عنه،وفيه: ( وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، تستفتي رسول الله،صلى الله عليه وسلم ؛ فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها؛ فالتفت النبي،صلى الله عليه وسلم -والفضل ينظر إليها- فأخلف بيده،فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ) ، أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة،وهذا الحديث -بفضل الله عز وجل- حجة عليهم لا لهم؛ لأن النبي،صلى الله عليه وسلم، أنكر على الفضل ابن عباس إنكارا باتا؛ بأن لوى عنقه، وصرفه عن النظر إليها إلى جهة أخرى، بل وأنكر عليه بيده.قال الإمام النووي،رحمه الله،في شرحه لهذا الحديث: (وفي هذا تحريم النظر للأجنبية وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه ) وقال ابن القيم،رحمه الله : وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا؛ لأقره عليه، قال الحافظ ابن حجر،رحمه الله : (وفي الحديث : منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر) . وقال القاضي عياض رحمه الله :( إن فعل النبي،صلى الله عليه وسلم، إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول) . بل قال العلامة الفوزان،رحمه الله : فهذا من غرائب الاستدلال؛ لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول؛ لأن الرسول،صلى الله عليه وسلم،لم يقر الفضل على ذلك،بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح؟ انتهى كلامه رحمه الله .فإن قال قائل : كيف جاز لها أن تكشف وجهها ؟
والجواب : إن الحديث لم ينص على أنها كانت كاشفة الوجه؛فإن وضاءة الإنسان ليست شرطا أن تعرف من وجهه ، فالوضاءة غير الجمال فلون اليد يدل على الوضاءة والعكس،وما يزيل الإشكال تماما عن هذا الحديث؛ما رواه الحافظ أبو يعلى بسند قوي: إن أعرابيا معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها للنبي،صلى الله عليه وسلم،رجاء أن يتزوجها، وابن عباس يلتفت إليها،ويأخذ النبي،صلى الله عليه وسلم،برأسه فيلويه ) انتهى . فكان النبي،صلى الله عليه وسلم،ينظر إليها نظر الخاطب،وابن عباس ينظر إليها نظرا لا يشرع له؛فمنعه النبي،صلى الله عليه وسلم،وأنكر عليه . وبهذا يستقيم الدليل،ويفهم المعنى؛فجمع الروايات هو المنهج الأسمى لفهم النص ،أما ترك المحكم،وتتبع المتشابه -وخاصة إذا عارضته أدلة أقوى منه- فهذا منهج غير سليم . وهناك أجوبة أخرى أعرضت عنها خشية الإطالة .
عباد الله،أيترك كلام هؤلاء العلماء الثقات،الأثبات،الذين لهم في العلم والدعوة والغيرة على الإسلام باع،ويؤخذ بقول من لم يعرف من علمه إلا سنية صلاة الجماعة،ومحاربة تحجب العفيفة ؟! فلم نرهم أنكروا منكرا،أو حذروا من بدعة،أو غاروا على عقيدة؛بل يتبعون المتشابه،ويأخذون بشواذ الأقوال.
حمانا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحفظ النساء بالإسلام، وحماهن بالجلباب، ووقاهن كيد الفجار،ومكر المخادعين الأشرار .
اللهم احم بلادنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد الإسلام،اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى،وخذ بناصيته للبر والتقوى،واجعل عمله في رضاك، واجعله هاديا مهديا، وأصلح به البلاد والعباد. اللهم اهد شباب الإسلام والمسلمين،واجعلهم قرة أعين لآبائهم،اللهم احم نساء الإسلام من التبرج والسفور،ومشابهة أهل التبرج والسفور، اللهم ثبتنا على دينك .
إن الحمد لله،نحمده،ونستعينه،ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهد الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له،تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،وخليله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد ... فاتقوا الله- عباد الله- حق التقوى؛واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى. واعلموا بأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم،وأن شر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار .
عباد الله،لقد نالت المرأة المسلمة شرفا عظيما،ومكانا عاليا؛حينما خاطبها الجبار،جل في علاه،بما خاطب به أزواج النبي،صلى الله عليه وسلم، وبناته،فقال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)،لقد فرحت الصحابيات،رضوان الله عليهن،حين نزلت الآية، واستجبن لأمر الله؛(فخرجت نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان؛من أكسية سود يلبسنها) . إن هذه الآية نص صريح،وأمر واضح يجب ألا يكون محلا للنقاش،في وجوب تغطية الوجه؛ولكن هناك من روعه الجلباب،وأفزعه تحجب الصالحات، وأحزنه عدم التبرج والسفور في هذه البلاد؛فتحمس حماسا لا مثيل له لمحاربته .
عباد الله،إن تغطية المرأة وجهها- في أقل أحواله- مستحب للقواعد من النساء؛فعلى غيرهن من باب أولى،ولم يقل أحد من أهل العلم قاطبة: إن تغطية المرأة لوجهها مباح؛فهو عند أهل العلم: إما على الوجوب- وهو الراجح- وإما على الاستحباب،مع كراهة كشف الوجه؛ومع ذلك فقد أجمعوا على وجوب تغطيته في أوقات الفتن،وفي حق الشابات،لكن بعض المفتونين بفعلهم المحموم وصنيعهم المذموم؛إما يحاربون واجبا،أو مستحبا،فلم يسبقهم في هذا الهجوم على الحجاب أحد يوثق في علمه ودينه؛فعجبا والله ! لم نقرأ لهم مقالا واحدا أوردوا فيه أدلة تحريم كشف الرأس أو القدمين،أو تحريم خروج المرأة متبرجة في أبحاثهم؛فليس لهم من أبحاث إلا أن الأغاني مباحة،مع أن أئمة العلماء على تحريمها،وما سبق ابن حزم،رحمه الله، أحد في إباحتها،وهو من علماء القرن الخامس،بل حتى الإمام ابن حزم،ومن وافقه من المتأخرين الذين لا يعتد بمخالفتهم للقرون المفضلة؛على أنها مكروهة أو مباحة،ومع ذلك نجد هؤلاء القوم لا يبحثون إلا في هذه المسائل، وكانت ثالثة الأثافي منهم،وطامة الطوام الدالة على منهجهم؛جعلهم الصلاة مع الجماعة سنة،فعجبا والله،لا يجد خيرة خلق الله،صلى الله عليه وسلم،رخصة لأعمى،كبير السن،شاسع الدار عن المسجد،ليس له قائد تنضبط معه مواعيده ؛ بأن يصلي في بيته، وهم يرخصون لنشطاء أقوياء،ولو كانت الصلاة مع الجماعة سنة لما هم،صلى الله عليه وسلم،بتحريق بيوت من تركوها؛لأن تارك السنة لا يأثم،فكيف يعاقب؟! وهذه المسألة يجب ألا تكون محلا لنقاش أو لخلاف-كما يزعمون ويدعون- لكن هؤلاء المفتونين يقض مضاجعهم - فيما يظهر والله أعلم- امتلاء المساجد بالمصلين،ويفزعهم تحجب نساء المؤمنين،ويقلقهم عزوف الأتقياء عن سماع آلات اللهو والمجون؛إلا من ابتلي بها منهم،مع اعترافه أنها ذنب ومنكر،غفر الله لنا ولهم .
عباد الله،إن أدلة وجوب تغطية الوجه واضحة لمن حماه الله من اتباع المتشابه ،ووفقه لاتباع المحكم،فوالله لو لم يوجد دليل على ذلك الوجوب إلا قوله تعالى : (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)؛ لكفى، فبماذا يعرف الإنسان إلا بوجهه ؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
عباد الله،ها هم أئمة أهل العلم من أهل السنة والجماعة من المفسرين؛قد أوجبوا تغطية الوجه عند بيانهم لمعنى الآية كابن جرير،وابن كثير؛ حيث قال في بيانها نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما:( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب، ويبدين عينا واحدة .بل ونجد إمام المتكلمة أبا بكر الرازي يتابعهم على ذلك الوجوب، بل ها هو إمام المعتزلة الزمخشري يسير على نهجهم؛فيقول في بيان معنى الآية:(يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن)،وهو-كما لا يخفى-إمام في اللغة،وحجة في فهم معانيها. بل لو رجعت لتفاسير الأئمة كالجصاص،والطبري،والقرطبي، والبيضاوي،والكلبي المالكي،وابن حيان اللغوي الشهير،وجلال الدين المحلي، وغيرهم من أئمة التفسير؛لوجدتهم يتفقون على نفس المعنى عند بيانها بأنه يدل على وجوب تغطية الوجه . قال الإمام السيوطي،رحمه الله، : (هذه آية الحجاب في حق سائر النساء؛ ففيها أوجب الله عليهن ستر الرأس والوجه).وقال الشوكاني،رحمه الله : ( يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة ) ، وقال علامة الشام، ومحدثها،وشامتها جمال الدين القاسمي، رحمه الله:( وفيها ستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن) وقال كبير مفسري نجد،وأحد أكابر علمائها،علامة القصيم السعدي رحمه الله : ( هذه الآية تسمى آية الحجاب، فيغطين وجوههن وصدورهن،وهذه الآية تدل على وجود أذية إذا لم يحتجبن ) انتهى كلامه رحمه الله،وقال العلامة ابن باز،رحمه الله،في بيان معنى الآية : (أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور، والوجه،وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة؛فلا يفتن،ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن) .
عباد الله، كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وعجيب أمرهم يدعون المحكم،ويعملون بالمتشابه؛فيعرضون عن هذه الآية،ويبحثون عن أقوال مرجوحة في بيانها،ثم يوجبون الحجاب على أمهات المؤمنين فقط مستدلين بقوله تعالى :( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ)، فقالوا : ومفهوم المخالفة يدل على عدم وجوبه على غيرهن ، وما أدري -والله- كيف خصصوها بأمهات المؤمنين ؟! مع أنها دليل على وجوب الحجاب ، على جميع النساء، يقول إمام المفسرين ابن جرير،رحمه الله، في بيانها:( وإذا سألتم أزواج رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج؛ فاسألوهن من وراء ستر بينكم وبينهن ) انتهى كلامه رحمه الله .
وقال بقوله عشرات من أئمة التفسير،وأما جعل الخطاب خاصا بنساء النبي، صلى الله عليه وسلم،وهن الطاهرات العفيفات التقيات النقيات؛فدليل على دخول غيرهن فيه من باب أولى، كما هو مقرر في علم الأصول؛ فالآية ليست خاصة بهن . ولقد علم في أصول الفقه أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه،فسبحان الله ! إذا كانت نساء النبي،صلى الله عليه وسلم،لا يحللن لأحد بعده إن فارقهن بطلاق أو وفاة؛ومع ذلك حذر الله من أن يطمع فيهن من في قلبه مرض؛فماذا يقال في غيرهن المحللات لنا بالنكاح ؟ هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير محجبات،وبارزات غير مستترات ؟! ولو قلنا بخصوصها؛ لكان المفهوم أيضا على منهجهم أن غيرهن يخضعن بالقول حتى يطمع فيهن من في قلبه مرض . فهل يقول بذلك عاقل فضلا عن مسلم ؟!
عباد الله،ومن أدلة وجوب تغطية الوجه في القرآن قوله تعالى :( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) قال الحافظ ابن حجر،رحمه الله:( فاختمرن أي غطين وجوههن )، وقال العلامة ابن عثيمين،رحمه الله، في بيان معنى الآية:( فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها؛كانت مأمورة بستر وجهها من باب أولى؛لأنه موضع الجمال والفتنة؛ فالناس عندما يطلبون جمال الصورة ينظرون للوجه،وإذا قيل : فلانة جميلة؛لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه؛فإن الوجه هو موضع الجمال،فكيف يفهم أن الشريعة تأمر بستر الصدر والنحر،ثم ترخص في كشف الوجه)؟
عباد الله، لقد أجمعت الأمة على وجوب تغطية الرأس والقدمين،لم يخالف في ذلك أحد،أليس الوجه بالتغطية أولى؟!( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
عباد الله،لقد أجمعت الأمة على مشروعية نظر الخاطب إلى مخطوبته،ولو كان كشف الوجه مباحا؛لما جاء الاستثناء للخاطب بجواز النظر إلى المخطوبة؛لأن من قالوا بكشف الوجه لم يحرموا النظر إليه؛ فلو كان الكشف مكروها،أو مباحا،والنظر إليه محرم؛ لكان هذا من التكليف بالمستحيل .فكيف يرخصون لها بكشف الوجه وهي تسير أمام الرجال؟ فهل يسير الرجال أمامهن مغممي الأعين ؟!
عباد الله، إن على المؤمن أن يتقي الله ويخشاه،ولا يتبع كل متقول مفتون ممن لا يعرفون إلا بإثارة الفتن،هدانا الله وإياهم للصواب،وحمانا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه،إنه هو الغفور الرحيم .
==========================
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه،والشكر له على عظم نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله،وحده لا شريك له،تعظيما لشأنه،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،وخليله،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وسلم تسليما كثيرا أما بعد..
فاتقوا الله-عباد الله-حق التقوى،واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى،واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى .
عباد الله، قال العلماء: (ما جاء مبطل بدليل إلا وكان الدليل ضده لا معه؛ فالدليل الذي يستدل به المبطل ينقلب بحمد الله إلى ضده ) فأقوى دليل يستدل به على جواز كشف الوجه-وهو من الأحاديث المتشابهة-؛ حديث الفضل،رضي الله عنه،وفيه: ( وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، تستفتي رسول الله،صلى الله عليه وسلم ؛ فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها؛ فالتفت النبي،صلى الله عليه وسلم -والفضل ينظر إليها- فأخلف بيده،فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ) ، أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة،وهذا الحديث -بفضل الله عز وجل- حجة عليهم لا لهم؛ لأن النبي،صلى الله عليه وسلم، أنكر على الفضل ابن عباس إنكارا باتا؛ بأن لوى عنقه، وصرفه عن النظر إليها إلى جهة أخرى، بل وأنكر عليه بيده.قال الإمام النووي،رحمه الله،في شرحه لهذا الحديث: (وفي هذا تحريم النظر للأجنبية وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه ) وقال ابن القيم،رحمه الله : وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا؛ لأقره عليه، قال الحافظ ابن حجر،رحمه الله : (وفي الحديث : منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر) . وقال القاضي عياض رحمه الله :( إن فعل النبي،صلى الله عليه وسلم، إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول) . بل قال العلامة الفوزان،رحمه الله : فهذا من غرائب الاستدلال؛ لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول؛ لأن الرسول،صلى الله عليه وسلم،لم يقر الفضل على ذلك،بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح؟ انتهى كلامه رحمه الله .فإن قال قائل : كيف جاز لها أن تكشف وجهها ؟
والجواب : إن الحديث لم ينص على أنها كانت كاشفة الوجه؛فإن وضاءة الإنسان ليست شرطا أن تعرف من وجهه ، فالوضاءة غير الجمال فلون اليد يدل على الوضاءة والعكس،وما يزيل الإشكال تماما عن هذا الحديث؛ما رواه الحافظ أبو يعلى بسند قوي: إن أعرابيا معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها للنبي،صلى الله عليه وسلم،رجاء أن يتزوجها، وابن عباس يلتفت إليها،ويأخذ النبي،صلى الله عليه وسلم،برأسه فيلويه ) انتهى . فكان النبي،صلى الله عليه وسلم،ينظر إليها نظر الخاطب،وابن عباس ينظر إليها نظرا لا يشرع له؛فمنعه النبي،صلى الله عليه وسلم،وأنكر عليه . وبهذا يستقيم الدليل،ويفهم المعنى؛فجمع الروايات هو المنهج الأسمى لفهم النص ،أما ترك المحكم،وتتبع المتشابه -وخاصة إذا عارضته أدلة أقوى منه- فهذا منهج غير سليم . وهناك أجوبة أخرى أعرضت عنها خشية الإطالة .
عباد الله،أيترك كلام هؤلاء العلماء الثقات،الأثبات،الذين لهم في العلم والدعوة والغيرة على الإسلام باع،ويؤخذ بقول من لم يعرف من علمه إلا سنية صلاة الجماعة،ومحاربة تحجب العفيفة ؟! فلم نرهم أنكروا منكرا،أو حذروا من بدعة،أو غاروا على عقيدة؛بل يتبعون المتشابه،ويأخذون بشواذ الأقوال.
حمانا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحفظ النساء بالإسلام، وحماهن بالجلباب، ووقاهن كيد الفجار،ومكر المخادعين الأشرار .
اللهم احم بلادنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد الإسلام،اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى،وخذ بناصيته للبر والتقوى،واجعل عمله في رضاك، واجعله هاديا مهديا، وأصلح به البلاد والعباد. اللهم اهد شباب الإسلام والمسلمين،واجعلهم قرة أعين لآبائهم،اللهم احم نساء الإسلام من التبرج والسفور،ومشابهة أهل التبرج والسفور، اللهم ثبتنا على دينك .
المرفقات
خطبة شبهات حول الحجاب والرد عليها غير مشكولة.pdf
خطبة شبهات حول الحجاب والرد عليها غير مشكولة.pdf
خطبة شبهات حول الحجاب والرد عليها.docx
خطبة شبهات حول الحجاب والرد عليها.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق