سَيُقْضَى يَوماً عَلَى الموت 26 ــ 10 ــ 1443هـ

عبدالعزيز بن محمد
1443/10/25 - 2022/05/26 11:19AM

أيهاالمسلمون: عَاقِلٌ تَبَصَّرَ فأَبصَرَ، وَتَفَكَّرَ فَأَدْرَك، وَتَنَبَّهَ فَأفاقْ. وَقَفَ على سَاحِلِ الحياةِ يَتَأَملُ فِيْها مَلِيَّاً..  يُقَلِّبُ نَظَرَهُ في هذهِ الدُّنْيا، يَتَأَملُ أيامَ رَخائها وسُرُوْرِها، وأوقاتَ نَمائِها وَحُبُوْرِها.  

يَتَأَمَلُ أَيامَ الصفاءِ التي غَشِيَتْ أَقواماً حِيناً فأبهَجَتهم، وَحَلَّتْ بِدِيَارِهِمْ زَمَناً فأطرَبَتْهُم،  حتى ظَنُّوا أَنهُمْ في بَاحَةٍ مِنَ الأُنس لا يَبرَحون، وعلى مَوْردٍ مِنَ السُّرُورِ  لا يَتَحَوَلُون.  وَظَنُّوا أَنَّ زَهْرَةَ الحَياةِ التي عَشِقُوها.. لا تّذبُل،  وأَنَّ صَفْوَ العَيْشِ الذي ألِفُوهُ.. لا يتكدَّرْ.   ظَنوا أَنَّ القوةَ لا تَضْعُف، وأَنَّ الصِّحةَ لا تَرْحَلْ، وأَنَّ الشبابَ لا يَبْلَى، وأَنَّ المالَ لا يَنْقُص، وأَن العُمرَ لا تَزُوْل. نَسُوا عَوَاقِبَ الدُنيا ونهاياتِ فُصولِها.. فرَكَنوا إليها أَعظَمَ رُكُوْن. 

مَدُّوا فيها مِنَ الآمالِ أَطْوَلَ حِبال، وَرَسَمُوا فيها مِنَ الأَحْلامِ أَوْسَعَ خَيَالْ.  وَصَارَ ذِكْرُ الموتِ لِقُلُوْبِهِم مُفزِعاً، ولحياتِهِم مُنَغِّصاً، فلا يُطِيْقُونَ لِذِكْرِ المَوْتِ ذِكْراً.  ولا يُرْعُونَ لِمُتَحَدِّثٍ عَنِ الموتِ سَمْعاً.   فَبَينا هُمُ في سُرُوْرٍ من الدُّنيا وأَمان.. إذْ مَسَّهُم مِنَ غِيَرِ الزَّمانِ ما يُفْجِعْ،  وَفَاجَأَهُم مِنْ تَقَلُّبِ الدُّنيا ما يُوجِعْ.   أَرَتْهُمُ الدُّنيا قَبِيْحَ فِعَالِها، كما أَبْصَرُوا مِنْها قَدِيْماً جَمالَها.  رأوا دُنياهمُ التي ألانَت لهمْ بِالأَمْسِ جانِباً.. قَدْ جَفَتْهُم.  ورَأَوا دُنْيَاهُمُ التي أَحْسَنَت لهم بالأمسِ مَعْشَراً.. طلَّقَتْهُم.   وعلى مشارِفِ الموتِ يُهْتَكُ سِتْرُ الدُّنيا، وعلى عَتَباتِ الرَّحِيْلِ يُكْشَفُ أَمرُها.

دارٌ تَدُورُ فلا يَبْقَى لَها رَغَدٌ **  غَدّارَةٌ لا تَفِيْ يَوْماً لِعَاشِقِها

حقيقةٌ قَامَتْ عليها هذه الدُّنيا، فَهَلْ رَأَيْتُمْ فيها مِنْ مُتَنَعِّمٍ بَقِيَ لَه نَعِيْمُه؟ وهَلْ رأَيتُم عَبْرَ القُرُوْنِ فِيْها مِنْ مُخَلَّد؟

لَعَــمْــري لَقَـدْ بَـادَتْ قُـرونٌ كَـثـيـرَةٌ  **  وَأَنــتَ كَــمــا بَــادَ القُـرونُ تَـبـيـدُ

وَكَـمْ صَـارَ تَحتَ الأَرضِ مِنْ خَامِدٍ بِها ** وَقَــد كــانَ يَبْنِي فَـوقَهـا وَيَـشِـيْـدُ

قالَ الحسنُ البَصْرِيُ رحمه الله : (فضحَ الموتُ الدُّنْيا فَلَمْ يَتْرُكْ لِذِيْ لُبٍّ فِيها فرحًا)

لا طِيبَ للعَيْشِ ما دَامَتْ مُنغَّصةً  **   لذاتُهُ بِادِّكارِ الموتِ والهرَمِ

وَما خيرُ عَيْشٍ لا يَزَالُ مُفجَّعًا  ** بِمَوْتِ نَعِيْمٍ أَوْ فِرَاقِ حَبِيْبِ

وأَوسَعُ الناسِ فَهْماً وأَوفَرُهُم عقلاً.. مَنْ قَضَى وطَرَهُ مِنْ هذه الدنيا على حَذّر، يأَخُذُ منها بُغْيَتَه، ولا يْسْلِمُ لَها مُهْجَتَه. يَقطَعُ السَّيْرَ فيها مُسْتَمتِعاً بِمتاعِها. ولا يَرْكَنُ إليها ركونَ المُخَلَّديْن.  يَسْتَثْمِرُ كُلَّ لحظةٍ فيها لِعَمَلِ الآخِرَة.

هُوَ في هَذِهِ الدُنيا غَرِيبٌ،  وغريبُ الدارِ لا يُطِيلُ مُكوثا. يأَخُذُ من دُنْياهُ لآخِرَتِه, ومِنْ حَياتِه لِمَوْتِه. جَسَدُهُ في دارِ الغُربَةِ مُقِيمٌ.. وروحُهُ إلى دارِ الإقامَةِ تَتَشَوَّقْ. فأَكرُم زَادِهِ يَدَّخِرُهُ ليومِ معادِه. فما في حياةِ الغُرْبَةِ مِنْ مُتَنَعَّم.

قالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما : أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمنْكبيَّ فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُوْلُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ. وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ.رواه البخاري.

دُنْيا خَلَقَها اللهُ لِلْفَناءِ، وَجَعَلَها داراً للعَمَلْ. هي أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَـحُطَّ المُؤمِنُ فيها رِحالَه.  مَغْرورُ مَنْ بِدَارِ الغُرُورِ رَغِب. غداً يَقطَعُ الموتُ من الدُّنيا حِبالَه.

وتَرْتَخِيْ قَبْضَةٌ قَدْ كانَ يُحكِمُها ** وَتَنْتَهِي مُهلَةٌ قَدْ كانَ يَقضيها

لا دارَ للمرءِ بَعدَ الموتِ يَسْكُنُها ** إلا التي كانَ قبلَ الموتِ يَبْنِيها

مَا مِنْ لَذَةٍ في هَذهِ الحَياةِ إلا وَذِكْرُ الموتِ يَقطَعُها.  ومَا مِنْ مُتْعَةٍ في هذهِ الدّنيا إلا ذِكْرُ الموتِ يُقصِيْها. وَلَو أَنَّ مَوْتاً يَحْتَمِيْ المرءُ مِنْهُ، لما أَدرَك الموتُ يوماً مُلُوكا.  الموتُ يَغْلِبُ جَبّاراً ويَكسِرُهُ.  الموتُ يأسِرُ مِغواراً ويُرْدِيهِ، لَيسَ مِنَ المَوْتِ فِرارٌ. ليسَ عن الموتِ مَحِيْد {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 

لو أُحكِمَت دُونَهُ الأقفالُ لانكسرت.. يوماً لِحَضْرَتِه فالموتُ مَورُودُ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}  إِنْ تُدْبِرْ سَرِيعاً فِراراً من الردى.. فَفِي المَوْعِدِ المحتُوْمِ يَوْماً تُقابِلُه {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

وما الخوفُ مِنْ مَوْتٍ سَيَحِلُّ يوماً.. ولَكِنَّ الخَوْفَ مِنْ سُوْءِ المعادِ.  حِينَ يـأتي موعِدٌ للرَّحِيْلِ.. والنفسُ تَرْتَعُ في بِساطِ الغَفْلَةِ.. فَرائضُ قَدْ ضُيِّعَت. حُقوقٌ قَدْ سُلِبَت، أعراضٌ قَد انتُهِكَت، واجباتٌ قَدْ تَرِكَت، حُرماتٌ قَد استُبِحَت، أَعمارٌ بالهوى قَدْ بُدِّدَت.   هُناكَ يَقْطَعُ الموتُ بابَ الرجاءِ،  هُناكَ يُغْلِقُ الموتُ باب التوبَة. فيَبْعَثُها المُفَرِّطُ.. دَعْوَةً مِنْ أَعماقِ قَلْبِه، ونِداءً مِن صَمِيْمِ رُوْحِه، مُتَوَسِلاً مُسْتَمْهِلاً زَمَناً يَسِيْراً للإقالَةِ..  عَلَّهُ يَتَدَارَك، عَلَّهُ يَسْتَعْتِبْ، عَلَّهُ يَتوب {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} فَيُقالُ: {كَلَّا} هيهات إِنَّ زَمَنَ المُهلَةِ قَدْ فات. {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَن محمداً رَسولُ رَبِّ العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.

أيهاالمسلمون:  

كأَسُ المنِيَّةِ دَائرٌ بَيْنَ الوَرَى **  يَسْقِيْ الكَبِيْرَ ولا يَفُوتُ مِنهُ الأصْغَرا

مـــا هذه الدنيا بــدارِ إِقــامــةٍ **  إلا  كَطَيْفِ الحُلْمِ في سِـنَـةِ الكَـرَى

كُلٌّ على هذا الطريقِ مُسافِرٌ ** لا بُدَّ مِنْهُ.. مُقَدَّماً ومُؤَخَرا

والمَوْتُ والحَيَاةِ.. خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ الله، فَالحياةُ في هذه الدُّنيا للعبادَةِ، والموتُ نُقْلَةٌ لدارِ الجَزَاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}

ويومُ القيامةِ يَقْضِي اللهُ بَيْنَ العبادِ، فَيَكونُ مُنصَرفُهُم مِنْ بَيْنِ يدَيِ رَبِهِم إلى فَرِيْقَين.. فَرِيقٌ في الجنةِ وفَرِيقٌ في السَّعير.  فأَهلُ الجنةِ في مَنَازِلِ النَّعيمِ يَتَقَلَّبُوْن {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وأَهلُ النارِ في دَرَكاتِ الجَحِيْمِ يَصْطَلُون {..قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}

قُضِيَ الأَمرُ وصارَ كُلُ إِنسانِ إلى الدارِ التي هو فيها.. فلا أَكرمَ مِن البُشْرى بالخُلُودِ لأهلِ الجنَّةِ.. ولا أَفجَعَ من التَبْشِيْرِ بالخُلودِ لأهل النار.

وهُناكَ يُؤتَى بالموتِ يُقادُ.. في مَشْهَدٍ مُرِيْعٍ مَهُول.  فَيُوقَفُ بَينَ الجّنَّةِ والنارِ. يُؤتى بالموتِ لِيُقْضَى عَلَيهِ.. فلا يكونُ لَه العالَمِينَ عَمَل.  مَشْهَدٌ جاءَ الوصفُ فيهِ عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَصْدَقِ خَبَر. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} رواه البخاري ومسلم

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين..

المرفقات

1653563951_سَيُقْضَى يَوماً عَلَى الموت 26 ــ 10 ــ 1443هـ.docx

المشاهدات 1461 | التعليقات 2

مؤثرة 


نفع الله بك ياشيخ

وجعلها في ميزان حسانتك