سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (4) سعة علمِه وكثرةُ علومه. 9/7/1438
أحمد بن ناصر الطيار
1438/07/09 - 2017/04/06 20:03PM
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُحْصِي الْخَلْقُ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ, لَا يَبْلُغُ الْعَارِفُونَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ, وَلَا يُقَدِّرُ الْوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ, وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى الله واستغفروه, فما ذاق السعادة من لم يذق حلاوة الإيمان, وما شعر بالسكينة من لم يكن قريبًا من الرحمن.
معاشر المسلمين: نظر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الكتاب والسنة, نظر الطبيب الحاذق, الذي بين عينيه مجهرٌ, يرى فيه الدقائق والأسرار التي لا تُرى إلا به, ففتش عن أسرار الشريعة وحِكَمِها, فنظر في القرآن تدبُّرًا وتمعنًا, ثم نظر في تفسير العلماء للقرآن وطالع الكثير منها, وقد قال - وهو والله صادقٌ بارّ-: إِنِّي وقفت على مائَة وَعشْرين تَفْسِيرًا, أستحضر من الْجَمِيع الصَّحِيح الَّذِي فِيهَا!.
وكَانَ رَحمَه الله يَقُول: رُبمَا طالعت على الْآيَة الْوَاحِدَة نَحْو مائَة تَفْسِير. ا.ه
وقال تلميذُه الإمام الذهبي عنه: بقي أزيد من سنةٍ يفسر في سورة نوح، وكان بحرًا لا تُكَدِّرُه الدِّلاء! ا.ه
ثم نظر في كتب السنة والصحاح والمسانيد والمصنفات, فميّز بين صحيحها وضعيفها, وجعل نصوص الكتاب والسنة أكثر جمالاً, وأنصع بياضًا, جذَّابةً عذبة, معقولةً مفهومة.
فلقد تشبَّع من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والسلف الصالح فيها, ورسخت في دماغه, وجرت مع دمه, وخالطت لحمه.
ثم توسع فنظر في المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية, فنظر فيها ونقد السقيم منها, وأبرز وأظهر الصواب منها.
ثم توسع فنظر في كتب اللغة والنحو, فنظر وأمعن النظر في كتب الفراء وأبي عبيد وسيبويه, والزَّجَّاج, حتى قال لأبي حيان النحوي المشهور: أسيبويه نَبِيُّ النَّحْو, أرْسلهُ الله بِهِ حَتَّى يكون مَعْصُوما؟ سِيبَوَيْه أَخطَأ فِي الْقُرْآن فِي ثَمَانِينَ موضعا, لَا تفهمها أَنْت وَلَا هُوَ. ا.ه
ثم توسع فنظر في الأديان والمذاهب الأخرى, كاليهودية والنصرانية, وأقوال المبتدعة من الشيعة بجميع أصنافهم, والصوفية, والمعتزلة, والأشاعرة, والخوارج, والمرجئة, والجهمية, وغيرهم, فردّ على أئمتهم, وفضح أسرارهم, ونقد أقوالهم, في مئات الكتب والرسائل والفتاوى.
ويكفي أنه ردّ على أحد كتب الرافضة في تسع مجلدات كبار.
ثم توسع فنظر في كتب الفلاسفة والعقلانيين والزنادقة العرب والعجم.
كابن سيناء, والرازي, والفارابي, والتلمساني, وابن عربي, وسقراط, وأفلاطون, وأَرِسْطُو.
وكتب هؤلاء الزنادقة والمنحرفين, تتجاوز عشرات أو مئات الكتب, ومع ذلك قرأها, وفهم أقوالهم, ورد على باطلهم.
ونظر في كتب المنجمين والسحرة, فردّ عليهم وسفه آراءهم.
ونظر في كتب الحساب والهندسة والطب والفلك, فهضمها واستفاد منها, بل وجادل أصحابها, وجاء في كثير من الأحيان بما لم يفهموه وهم أهل التخصص.
بل دخل عليه أحدُ كبار كتاب الْحساب, فَأخذ شيْخ الإسلام يسْأَله عَن الِارْتفَاع, وَعَما بَين الفذلكة, واستقرار الْجُمْلَة من الْأَبْوَاب, وَعَن أَعمال الاسحتقاق, وَعَن الْخَتْم والتوالي, وَمَا يُطْلب من الْعَامِل, وَهُوَ يجِيبه عَن الْبَعْض, ويسكت عَن الْبَعْض, ويسأله عَن تَعْلِيل ذَلِك, إِلَى أَن أوضح لَهُ ذَلِك وعلّله!
قَالَ هذا الكاتب الكبير بعدما خرج من عِنْده: وَالله تعلمت الْيَوْم مِنْهُ مَا لَا كنت أعلمهُ. ا.ه
ثم توسع فنظر في علم المنطق, وألف فيه مؤلّفًا كبيرًا.
هذا إلى جانب الأوقات التي بذل الكثير منها في التأليف والجهاد والدعوة والنصيحة وجدال أهل الباطل, والسنوات التي قضاها بين القضبان!!
فسبحان الله الذي أعطاه هذا العقل الذي لا يُعلم له نظير, سوى ما أعطاه لأنبيائه, وخاصة أوليائه, وسبحان من وسع فهمه, وأنضج عقله, وقوى حفظه, وبارك في أوقاته.
ولا يُوجد تفسير لهذا الجهد والعمل العظيم, الذي تعجز عنه المؤسسات العلمية, والجامعات العريقة, والعقول المجتمعة الفذّة: إلا أنّ الله تعالى أخرجه للدنيا ليجدد دينه, ويرفع كلمته, ويُحيي ما اندرس من الشريعة السمحة.
معاشر المسلمين: وإنّ الهدف من ذكر سعة علم شيخ الإسلام: هو أنْ يكون لكلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وقعٌ علينا؛ بحيث نثق في كلامه ونقولاتِه وآرائه.
وكلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وآراؤُه, لها وقعٌ عظيم في نفوسِ الناس وأهل العلم, ولا يكاد أحدٌ يذكر قولَ شيخ الإسلام, عند إيراد مسألةٍ في الفقه أو العقيدة أو السلوك أو غيرها, إلا أذعنت القلوب لقوله, واطمأنت لرأيه.
ولا تكاد تقرأ للشيخ في أيِّ مسألة إلا وجدت ما قاله هو الذي تطمئنُّ له النفس, وتعتقد أنه هو الصواب شرعًا وعقلاً, ولا تكاد تأخذ بقول يُخالفه.
قال العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين: غالبُ اختيارات شيخ الإسلام أقرب إلى الصواب من غيره، كلُّ ما اختاره إذا تأملته وتدبرته وجدته أقرب إلى الصواب من غيره. ا.ه
ومن الأهداف كذلك: أنْ نحثّ أنفسنا على الاطلاع على كتبه وفتاويه, وألا نزهدَ فيها, فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كأنه بيننا اليوم, بل هو بيننا بعلمه وكتبِه وسيرته.
ومن الأهداف كذلك: أن نعرف سرّ هجوم المنافقين والمبتدعة عليه إلى هذا اليوم, فهو الذي عرف أقوالهم, وردّ على أباطيلهم, ودحض شبههم, وعرّى نواياهم, وهتك أستارهم, وفضح أسرارهم.
حتى شكوه إلى الحكام مرارًا, وسجنوه وهددوه, فما أجدى ذلك نفعًا, وهاهي أقواله تصدع في أرجاء الأض, وتُبَثّ في القنوات ومواقع التواصل عبر الملايين من مُحبِّيه, ويتسابق الناس إلى نشرها وبثّها بين الناس.
فكأنه بيننا حيٌّ لم يمت.
فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية, وجمعنا به في دار كرمته, ونفعنا بعلمه وسيرتِه, إنه سميعٌ قريب.
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى، وعلى آلِه وأصحابِه أعلام الهدى، أما بعد:
معاشر المسلمين: ومن عجيب أمر هذا الإمام: أنَّ أكثر فتاويه وبحوثِه الطويلة, وأجوبته العجيبة, يُمليها من بديهته, وكثيرٌ منها في جلسةٍ واحدة, بلا مصادر بين يديه! وبلا رجوعٍ إلى الكتب ليوثق كلامه أو يتحقق منه!
ويكفي أن نعلم أنَّ كتابه السياسة الشرعية, والعقيدة الواسطية, والرد على المنطقيين, ألّف كل واحد منها في جلسة واحدة فقط.
وكتب فتوى طويلةً تقع في مائةٍ وثمانٍ وسبعين صفحة, وصاحب الفتوى عجلٌ عنده ينتظرها, حيث قال: لَكِنْ هَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكَالٌ, لَا تَحْتَمِلُ تَحْرِيرَهُ وَبَسْطَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُسْتَوْفِزٌ عَجْلَانُ يُرِيدُ أَخْذَهَا!!
وقال في ختام بحثٍ طويل يقع في أكثر من مائةِ صفحة , حيث حشد فيها الأدلة الطويلة, والردود القوية, والاستدراكات الكثيرة: "هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ"!.
ومعنى مستوفز: أي الذي جلس على هيئةٍ كأنه يريد القيام.
بل قد يُباغته أحدٌ بأبيات تحتوي على سؤالٍ, فيُجيب كذلك في نفس الجلسة, فمن ذلك أنَّ أَحَدَ عُلَمَاءِ الذِّمِّيِّينَ سأله عَنْ الْقَدَرِ فَقَالَ:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ ... تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ
ثم سرد عليه الأبيات.
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُرْتَجِلًا:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ ... مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
وأتم مائةً وتسعةَ عشر بيتًا في مكانه!
فأي ذكاء وفطنةٍ وهبَه الله تعالى له, فهذه الأبيات مِن البحر الطويل, وهو من أصعب البحور, والموضوع في العقيدة والقدر, وهو أصعب المواضيع.
ومع ذلك سردها دون تحضير وتحبير, ولا زال العلماء يشرحونها وينتفعون منها.
نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا علمًا ينفعنا, وذكرًا حسنًا يُجمِّلنا, وعملاً صالحًا يدوم بعد انقطاع آجالِنا, إنه على كل شيء قدير.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ, وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى الله واستغفروه, فما ذاق السعادة من لم يذق حلاوة الإيمان, وما شعر بالسكينة من لم يكن قريبًا من الرحمن.
معاشر المسلمين: نظر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الكتاب والسنة, نظر الطبيب الحاذق, الذي بين عينيه مجهرٌ, يرى فيه الدقائق والأسرار التي لا تُرى إلا به, ففتش عن أسرار الشريعة وحِكَمِها, فنظر في القرآن تدبُّرًا وتمعنًا, ثم نظر في تفسير العلماء للقرآن وطالع الكثير منها, وقد قال - وهو والله صادقٌ بارّ-: إِنِّي وقفت على مائَة وَعشْرين تَفْسِيرًا, أستحضر من الْجَمِيع الصَّحِيح الَّذِي فِيهَا!.
وكَانَ رَحمَه الله يَقُول: رُبمَا طالعت على الْآيَة الْوَاحِدَة نَحْو مائَة تَفْسِير. ا.ه
وقال تلميذُه الإمام الذهبي عنه: بقي أزيد من سنةٍ يفسر في سورة نوح، وكان بحرًا لا تُكَدِّرُه الدِّلاء! ا.ه
ثم نظر في كتب السنة والصحاح والمسانيد والمصنفات, فميّز بين صحيحها وضعيفها, وجعل نصوص الكتاب والسنة أكثر جمالاً, وأنصع بياضًا, جذَّابةً عذبة, معقولةً مفهومة.
فلقد تشبَّع من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والسلف الصالح فيها, ورسخت في دماغه, وجرت مع دمه, وخالطت لحمه.
ثم توسع فنظر في المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية, فنظر فيها ونقد السقيم منها, وأبرز وأظهر الصواب منها.
ثم توسع فنظر في كتب اللغة والنحو, فنظر وأمعن النظر في كتب الفراء وأبي عبيد وسيبويه, والزَّجَّاج, حتى قال لأبي حيان النحوي المشهور: أسيبويه نَبِيُّ النَّحْو, أرْسلهُ الله بِهِ حَتَّى يكون مَعْصُوما؟ سِيبَوَيْه أَخطَأ فِي الْقُرْآن فِي ثَمَانِينَ موضعا, لَا تفهمها أَنْت وَلَا هُوَ. ا.ه
ثم توسع فنظر في الأديان والمذاهب الأخرى, كاليهودية والنصرانية, وأقوال المبتدعة من الشيعة بجميع أصنافهم, والصوفية, والمعتزلة, والأشاعرة, والخوارج, والمرجئة, والجهمية, وغيرهم, فردّ على أئمتهم, وفضح أسرارهم, ونقد أقوالهم, في مئات الكتب والرسائل والفتاوى.
ويكفي أنه ردّ على أحد كتب الرافضة في تسع مجلدات كبار.
ثم توسع فنظر في كتب الفلاسفة والعقلانيين والزنادقة العرب والعجم.
كابن سيناء, والرازي, والفارابي, والتلمساني, وابن عربي, وسقراط, وأفلاطون, وأَرِسْطُو.
وكتب هؤلاء الزنادقة والمنحرفين, تتجاوز عشرات أو مئات الكتب, ومع ذلك قرأها, وفهم أقوالهم, ورد على باطلهم.
ونظر في كتب المنجمين والسحرة, فردّ عليهم وسفه آراءهم.
ونظر في كتب الحساب والهندسة والطب والفلك, فهضمها واستفاد منها, بل وجادل أصحابها, وجاء في كثير من الأحيان بما لم يفهموه وهم أهل التخصص.
بل دخل عليه أحدُ كبار كتاب الْحساب, فَأخذ شيْخ الإسلام يسْأَله عَن الِارْتفَاع, وَعَما بَين الفذلكة, واستقرار الْجُمْلَة من الْأَبْوَاب, وَعَن أَعمال الاسحتقاق, وَعَن الْخَتْم والتوالي, وَمَا يُطْلب من الْعَامِل, وَهُوَ يجِيبه عَن الْبَعْض, ويسكت عَن الْبَعْض, ويسأله عَن تَعْلِيل ذَلِك, إِلَى أَن أوضح لَهُ ذَلِك وعلّله!
قَالَ هذا الكاتب الكبير بعدما خرج من عِنْده: وَالله تعلمت الْيَوْم مِنْهُ مَا لَا كنت أعلمهُ. ا.ه
ثم توسع فنظر في علم المنطق, وألف فيه مؤلّفًا كبيرًا.
هذا إلى جانب الأوقات التي بذل الكثير منها في التأليف والجهاد والدعوة والنصيحة وجدال أهل الباطل, والسنوات التي قضاها بين القضبان!!
فسبحان الله الذي أعطاه هذا العقل الذي لا يُعلم له نظير, سوى ما أعطاه لأنبيائه, وخاصة أوليائه, وسبحان من وسع فهمه, وأنضج عقله, وقوى حفظه, وبارك في أوقاته.
ولا يُوجد تفسير لهذا الجهد والعمل العظيم, الذي تعجز عنه المؤسسات العلمية, والجامعات العريقة, والعقول المجتمعة الفذّة: إلا أنّ الله تعالى أخرجه للدنيا ليجدد دينه, ويرفع كلمته, ويُحيي ما اندرس من الشريعة السمحة.
معاشر المسلمين: وإنّ الهدف من ذكر سعة علم شيخ الإسلام: هو أنْ يكون لكلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وقعٌ علينا؛ بحيث نثق في كلامه ونقولاتِه وآرائه.
وكلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وآراؤُه, لها وقعٌ عظيم في نفوسِ الناس وأهل العلم, ولا يكاد أحدٌ يذكر قولَ شيخ الإسلام, عند إيراد مسألةٍ في الفقه أو العقيدة أو السلوك أو غيرها, إلا أذعنت القلوب لقوله, واطمأنت لرأيه.
ولا تكاد تقرأ للشيخ في أيِّ مسألة إلا وجدت ما قاله هو الذي تطمئنُّ له النفس, وتعتقد أنه هو الصواب شرعًا وعقلاً, ولا تكاد تأخذ بقول يُخالفه.
قال العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين: غالبُ اختيارات شيخ الإسلام أقرب إلى الصواب من غيره، كلُّ ما اختاره إذا تأملته وتدبرته وجدته أقرب إلى الصواب من غيره. ا.ه
ومن الأهداف كذلك: أنْ نحثّ أنفسنا على الاطلاع على كتبه وفتاويه, وألا نزهدَ فيها, فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كأنه بيننا اليوم, بل هو بيننا بعلمه وكتبِه وسيرته.
ومن الأهداف كذلك: أن نعرف سرّ هجوم المنافقين والمبتدعة عليه إلى هذا اليوم, فهو الذي عرف أقوالهم, وردّ على أباطيلهم, ودحض شبههم, وعرّى نواياهم, وهتك أستارهم, وفضح أسرارهم.
حتى شكوه إلى الحكام مرارًا, وسجنوه وهددوه, فما أجدى ذلك نفعًا, وهاهي أقواله تصدع في أرجاء الأض, وتُبَثّ في القنوات ومواقع التواصل عبر الملايين من مُحبِّيه, ويتسابق الناس إلى نشرها وبثّها بين الناس.
فكأنه بيننا حيٌّ لم يمت.
فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية, وجمعنا به في دار كرمته, ونفعنا بعلمه وسيرتِه, إنه سميعٌ قريب.
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى، وعلى آلِه وأصحابِه أعلام الهدى، أما بعد:
معاشر المسلمين: ومن عجيب أمر هذا الإمام: أنَّ أكثر فتاويه وبحوثِه الطويلة, وأجوبته العجيبة, يُمليها من بديهته, وكثيرٌ منها في جلسةٍ واحدة, بلا مصادر بين يديه! وبلا رجوعٍ إلى الكتب ليوثق كلامه أو يتحقق منه!
ويكفي أن نعلم أنَّ كتابه السياسة الشرعية, والعقيدة الواسطية, والرد على المنطقيين, ألّف كل واحد منها في جلسة واحدة فقط.
وكتب فتوى طويلةً تقع في مائةٍ وثمانٍ وسبعين صفحة, وصاحب الفتوى عجلٌ عنده ينتظرها, حيث قال: لَكِنْ هَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكَالٌ, لَا تَحْتَمِلُ تَحْرِيرَهُ وَبَسْطَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُسْتَوْفِزٌ عَجْلَانُ يُرِيدُ أَخْذَهَا!!
وقال في ختام بحثٍ طويل يقع في أكثر من مائةِ صفحة , حيث حشد فيها الأدلة الطويلة, والردود القوية, والاستدراكات الكثيرة: "هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ"!.
ومعنى مستوفز: أي الذي جلس على هيئةٍ كأنه يريد القيام.
بل قد يُباغته أحدٌ بأبيات تحتوي على سؤالٍ, فيُجيب كذلك في نفس الجلسة, فمن ذلك أنَّ أَحَدَ عُلَمَاءِ الذِّمِّيِّينَ سأله عَنْ الْقَدَرِ فَقَالَ:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ ... تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ
ثم سرد عليه الأبيات.
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُرْتَجِلًا:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ ... مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
وأتم مائةً وتسعةَ عشر بيتًا في مكانه!
فأي ذكاء وفطنةٍ وهبَه الله تعالى له, فهذه الأبيات مِن البحر الطويل, وهو من أصعب البحور, والموضوع في العقيدة والقدر, وهو أصعب المواضيع.
ومع ذلك سردها دون تحضير وتحبير, ولا زال العلماء يشرحونها وينتفعون منها.
نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا علمًا ينفعنا, وذكرًا حسنًا يُجمِّلنا, وعملاً صالحًا يدوم بعد انقطاع آجالِنا, إنه على كل شيء قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق