سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (3) أمنه النفسي - البشارة بانتصارات أهل الشام 4/7/1438
أحمد بن ناصر الطيار
1438/07/02 - 2017/03/30 15:06PM
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإيمان بالهدى، ونكت في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً, وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه، ما أكرمه عبداً وسيداً, وأطهرَه مضجعاً ومولداً، وأبهره صدراً ومورداً, صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وصحبه غيوثِ الندى، وليوثِ العدا، صلاةً وسلاماً دائمين من اليوم, وإلى أن يُبعثَ الناسُ غدا.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام, فتقوى الله خير وقاية للإنسان من الفتن والهموم والنوازل, وخيرُ سبيل لاكتساب المعالي والفضائل.
إخوة الإيمان: استقر في قلب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى اليقين بالله, والتوكل عليه, والثقة به وبنصره, ولا يهتز هذا الإيمان واليقين مهما عظمت الخطوب, وتوالت الكروب, وتكالب الأعداء, واشتَدَّ البلاء.
فلولا هذا اليقين والأمن النفسيّ الذي ملأ أرجاء قلبِه, وأزال الخوف مِن نفسِه, فلا يخاف إلا الله, ولا يرجو إلا الله: لما استطاع الثبات أمام الملك الظالم قازان, فقد واجهه بكلام لا يتخيل أحدٌ أنْ يُواجَه به هذا الظالمُ المتسلطُ, فقد قال لترجمانه: قل للقان: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ مُسْلِمٌ وَمَعَكَ مُؤَذِّنُونَ وَقَاضٍ وإمام وشيخ على ما بلغنا, فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هلاكو كَانَا كَافِرَيْنِ وَمَا غَزَوَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، بَلْ عاهدوا قومنا، وَأَنْتَ عَاهَدْتَ فَغَدَرْتَ, وَقُلْتَ فَمَا وَفَّيْتَ.
ثم عمل قازان طعامًا ودعاه ومن رافقه له, فَأَكَلُوا مِنْهُ إِلَّا هو لم يأكل, فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ آكُلُ مِنْ طَعَامِكُمْ وَكُلُّهُ مِمَّا نَهَبْتُمْ مِنْ أَغْنَامِ النَّاسِ وَطَبَخْتُمُوهُ بِمَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّاسِ!
ثُمَّ إِنَّ قَازَانَ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ فَقَالَ فِي دعائه " اللهم إن كان هذا عبدك مَحْمُودٌ إِنَّمَا يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَتُكَ هِيَ الْعُلْيَا وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لَكَ فَانْصُرْهُ وَأَيِّدْهُ وَمَلِّكْهُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا وَلِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا وليذل الإسلام وأهله فاخْذُلْه وزلزله ودمره واقْطع دابِرَه.
وَقَازَانُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.
فَجَعَلَ أصحابُه يجْمَعُون ثِيَابَهم خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ بِدَمِهِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
أيُّ صلابةٍ وثبات ورباطة جأش كان يتَّسمُ بها رحمه الله تعالى؟ ولا يُمْكن أنْ يحصل له ذلك لولا الطمأنينة التي سكنت في فؤادِه, والأمن الذي أزاح الخوف من جنباتِه, والإيمان الراسخ بحفظ الله له, واليقين بأن سلطان الله أعظم وأقوى من سلطان هذا الحاكم الظالم, والتوكل على الله وحده.
ولولا أمْنُهُ النفسيّ ويقينُه وتوكلُه على الله تعالى: لَمَا قال لأحدِ الأمراء يوم قتاله التتار حين ترَاءى الْجَمْعَانِ, وتقابل الجيشان: أوقفني موقف الْمَوْت! فساقه إِلَى مُقَابلَة الْعَدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم مِن تَحت الْغُبَار المنعقد عَلَيْهِم.
فقال لَهُ: يَا سَيِّدي هَذَا موقف الْمَوْت, وَهَذَا الْعَدو قد أقبل تَحت هَذِه الغبرة المنعقدة فدونك وَمَا تُرِيدُ.
فانطلق كالسهم لا يلوي على أحد, فقاتل الأعداء قتال الأبطال, وأرخص نفسه في سبيل الله تعالى. ا.ه
هذا هو اليقين الذي يفعلُ بصاحبه العجائب, فيُعْلي هِمّته, ويقوي قلبه, ويُرخص نفسه في ذات الله, وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى - نحسبه- بلغ الغاية في اليقين والثقة بالله تعالى, وقد قال رحمه الله تعالى: "لَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ, وَيَتَنَعَّمُ بِهِ, وَيَغْتَذي بِهِ, وَهُوَ الْيَقِينُ". ا.ه
وقد صدق رحمه الله, فلولا ما في قلبه من اليقين الراسخ, والإيمان الشامخ, لَمَا صبر على المصائب المؤلمة التي واجهتْه.
وهذه المصائب التي ابتُلي بها رحمه الله تعالى مِن تحريضِ بعض القضاة والعلماء عليه حتى سجنوه مرارًا, ومن جهاده الأعداء والمبتدعة بالحجج والبيان, والسيف والسنان, لم تزده إلا ثقةً بالله وتوكلاً عليه, وحبًّا له, والْتجاءً إليه, وسعادة وأنسًا لا يعلم مداهُ إلا الله, وقد قال رحمه الله - ولا أحسبه إلا أنه يُعبر عما تُكنه نفسه, وينبض به قلبُه- : مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِم الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ: مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ, وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ, وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ, فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ, وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ, وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ, أَوْ الْجَدْبِ أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ, قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ. ا.ه
وانظروا إلى يقينه وإيمانه الذي ظهر شيءٌ منه خلال مناظرتِه للصوفية, الذين يمشون على الجمر والنار, ويزعمون أن ذلك كرامةٌ من الله لهم, ودليلٌ على صحة منهجهم, قال رحمه الله: ذُكِرَ لِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ بَعْضُ أَكَابِرِ غِلْمَانِ الْمُطَاعِ, وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمْ لِمَوْعِدِ الِاجْتِمَاعِ, فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَاسْتَعَنْته وَاسْتَنْصَرْته وَاسْتَهْدَيْته, وَسَلَكْت سَبِيلَ عِبَادِ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ, حَتَّى أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ, وَأَنَّهَا تَكُونُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى مَنْ اتَّبَعَ مِلَّةَ الْخَلِيلِ, وَأَنَّهَا تُحْرِقُ أَشْبَاهَ الصَّابِئَةِ أَهْلِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ..
وصرح بذلك للأمير فَاسْتَعْظَمَ هُجُومه عَلَى النَّارِ وَقَالَ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ, قَد اسْتَخَرْت اللَّهَ فِي ذَلِكَ, وَأَلْقَى فِي قَلْبِي أَنْ أَفْعَلَه. ا.ه
فيا له من ثباتٍ ويقينٍ وتوكُّلٍ على الله تعالى الواحد الأحد!
فلْنتوكل على الله وحده في جميع شؤوننا, ولا ينبغي أن نخاف من غيره, ولا نرجو سواه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان واليقين, والثبات على شرعِه القويم, إنه سميع قريب مجيب.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: إن من حكمة الله وسنته في خلقه: أنه يبتليهم بالمحن والمصائب, ويُداول الأيام بين الناس, مُؤمنِهم وكافرهم.
ولقد أصيب المسلمون بالمحن التي ضعف الرجاء بزوالها عنهم, ودبّ اليأس في قلوب كثير من الناس, وما زاد ذلك المؤمنين الصادقين إلا إيمانًا ويقينًا.
فلم ييأسوا ولم يقنطوا, وبذلوا وجاهدوا وصبروا, فهؤلاء بهم تُستدفع المصائب, وتزول النوائب.
لقد مرّت على المسلمين في اليمن والشام سنواتٌ عجاف, كادتا أن تكونا منطقتين تابعتين لإيران المجرمة, وازدادت المحنة على أهل الشام, حيث واجهوا أقوى دول العالم, فصبَّ عليهم البلد الشيوعيُّ أعتى أسلحتِه, وأمطرَ عليهم آلاف القنابل والصواريخ, وامتنع الغرب من إقامة مناطق آمنة للمدنيين, وزرعوا باعتراف كبرائهم الخوارج والغلاة, وغزاهم عشرات الأحزابِ الرافضية الشركية من كل بلد, وكيدت لهم المؤامرات والخطط, التي لا يمكن لأي قوةٍ أن تصمد أمامها.
لكن أهل الشام بإيمانهم بربهم, وتوكلهم على خالقهم, وعدم تنازلهم عن دينهم وعقيدتهم, استطاعوا إلحاق الهزائم الكبرى بالغزاة والمحتلين النصيريين والرافضة المشركين, وهاهي أخبارهم تدوي في كل مكان من أرض الشام المباركة, وهاهم يصلون إلى قلب دمشق, عاصمة الأمويين.
ولقد تفاجأ الجميع من هذه الانتصارات القوية المتتالية.
ولا غرابة في ذلك, فالمؤمنون الصادقون لا يفترون ولا ييأسون, ولو اجتمع عليهم أهل الأرض, ولا تزيدهم المحن إلا ثباتًا وقوةً وعزيمة.
أما أهل الباطل والظلم, فلا بد أن تفتر عزائمهم, ويدبّ الملل في قلوبهم.
وهاهم الغرب والشرق والعلمانيون والمنافقون, يُحاربون الإسلام والمسلمين, بكل الوسائل والطرق, ليمنعوه من الانتشار العجيب في بلدانهم.
ومع ذلك: باءت كثير من محاولاتهم بالفشل, فما ازداد الإسلام بتضييقهم إلا توسُّعًا وانتشارًا؛ لأن الإسلام دين العقل والفطرة, فلا سبيل لمواجهته, والله غالب على أمره.
نسأل الله تعالى أن يُمكن للإسلام والمسلمين, وأنْ يُبطل كيد الكافرين, إنه على كل شيء قدير.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام, فتقوى الله خير وقاية للإنسان من الفتن والهموم والنوازل, وخيرُ سبيل لاكتساب المعالي والفضائل.
إخوة الإيمان: استقر في قلب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى اليقين بالله, والتوكل عليه, والثقة به وبنصره, ولا يهتز هذا الإيمان واليقين مهما عظمت الخطوب, وتوالت الكروب, وتكالب الأعداء, واشتَدَّ البلاء.
فلولا هذا اليقين والأمن النفسيّ الذي ملأ أرجاء قلبِه, وأزال الخوف مِن نفسِه, فلا يخاف إلا الله, ولا يرجو إلا الله: لما استطاع الثبات أمام الملك الظالم قازان, فقد واجهه بكلام لا يتخيل أحدٌ أنْ يُواجَه به هذا الظالمُ المتسلطُ, فقد قال لترجمانه: قل للقان: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ مُسْلِمٌ وَمَعَكَ مُؤَذِّنُونَ وَقَاضٍ وإمام وشيخ على ما بلغنا, فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هلاكو كَانَا كَافِرَيْنِ وَمَا غَزَوَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، بَلْ عاهدوا قومنا، وَأَنْتَ عَاهَدْتَ فَغَدَرْتَ, وَقُلْتَ فَمَا وَفَّيْتَ.
ثم عمل قازان طعامًا ودعاه ومن رافقه له, فَأَكَلُوا مِنْهُ إِلَّا هو لم يأكل, فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ آكُلُ مِنْ طَعَامِكُمْ وَكُلُّهُ مِمَّا نَهَبْتُمْ مِنْ أَغْنَامِ النَّاسِ وَطَبَخْتُمُوهُ بِمَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّاسِ!
ثُمَّ إِنَّ قَازَانَ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ فَقَالَ فِي دعائه " اللهم إن كان هذا عبدك مَحْمُودٌ إِنَّمَا يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَتُكَ هِيَ الْعُلْيَا وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لَكَ فَانْصُرْهُ وَأَيِّدْهُ وَمَلِّكْهُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا وَلِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا وليذل الإسلام وأهله فاخْذُلْه وزلزله ودمره واقْطع دابِرَه.
وَقَازَانُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.
فَجَعَلَ أصحابُه يجْمَعُون ثِيَابَهم خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ بِدَمِهِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
أيُّ صلابةٍ وثبات ورباطة جأش كان يتَّسمُ بها رحمه الله تعالى؟ ولا يُمْكن أنْ يحصل له ذلك لولا الطمأنينة التي سكنت في فؤادِه, والأمن الذي أزاح الخوف من جنباتِه, والإيمان الراسخ بحفظ الله له, واليقين بأن سلطان الله أعظم وأقوى من سلطان هذا الحاكم الظالم, والتوكل على الله وحده.
ولولا أمْنُهُ النفسيّ ويقينُه وتوكلُه على الله تعالى: لَمَا قال لأحدِ الأمراء يوم قتاله التتار حين ترَاءى الْجَمْعَانِ, وتقابل الجيشان: أوقفني موقف الْمَوْت! فساقه إِلَى مُقَابلَة الْعَدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم مِن تَحت الْغُبَار المنعقد عَلَيْهِم.
فقال لَهُ: يَا سَيِّدي هَذَا موقف الْمَوْت, وَهَذَا الْعَدو قد أقبل تَحت هَذِه الغبرة المنعقدة فدونك وَمَا تُرِيدُ.
فانطلق كالسهم لا يلوي على أحد, فقاتل الأعداء قتال الأبطال, وأرخص نفسه في سبيل الله تعالى. ا.ه
هذا هو اليقين الذي يفعلُ بصاحبه العجائب, فيُعْلي هِمّته, ويقوي قلبه, ويُرخص نفسه في ذات الله, وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى - نحسبه- بلغ الغاية في اليقين والثقة بالله تعالى, وقد قال رحمه الله تعالى: "لَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ, وَيَتَنَعَّمُ بِهِ, وَيَغْتَذي بِهِ, وَهُوَ الْيَقِينُ". ا.ه
وقد صدق رحمه الله, فلولا ما في قلبه من اليقين الراسخ, والإيمان الشامخ, لَمَا صبر على المصائب المؤلمة التي واجهتْه.
وهذه المصائب التي ابتُلي بها رحمه الله تعالى مِن تحريضِ بعض القضاة والعلماء عليه حتى سجنوه مرارًا, ومن جهاده الأعداء والمبتدعة بالحجج والبيان, والسيف والسنان, لم تزده إلا ثقةً بالله وتوكلاً عليه, وحبًّا له, والْتجاءً إليه, وسعادة وأنسًا لا يعلم مداهُ إلا الله, وقد قال رحمه الله - ولا أحسبه إلا أنه يُعبر عما تُكنه نفسه, وينبض به قلبُه- : مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِم الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ: مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ, وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ, وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ, فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ, وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ, وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ, أَوْ الْجَدْبِ أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ, قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ. ا.ه
وانظروا إلى يقينه وإيمانه الذي ظهر شيءٌ منه خلال مناظرتِه للصوفية, الذين يمشون على الجمر والنار, ويزعمون أن ذلك كرامةٌ من الله لهم, ودليلٌ على صحة منهجهم, قال رحمه الله: ذُكِرَ لِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ بَعْضُ أَكَابِرِ غِلْمَانِ الْمُطَاعِ, وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمْ لِمَوْعِدِ الِاجْتِمَاعِ, فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَاسْتَعَنْته وَاسْتَنْصَرْته وَاسْتَهْدَيْته, وَسَلَكْت سَبِيلَ عِبَادِ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ, حَتَّى أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ, وَأَنَّهَا تَكُونُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى مَنْ اتَّبَعَ مِلَّةَ الْخَلِيلِ, وَأَنَّهَا تُحْرِقُ أَشْبَاهَ الصَّابِئَةِ أَهْلِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ..
وصرح بذلك للأمير فَاسْتَعْظَمَ هُجُومه عَلَى النَّارِ وَقَالَ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ, قَد اسْتَخَرْت اللَّهَ فِي ذَلِكَ, وَأَلْقَى فِي قَلْبِي أَنْ أَفْعَلَه. ا.ه
فيا له من ثباتٍ ويقينٍ وتوكُّلٍ على الله تعالى الواحد الأحد!
فلْنتوكل على الله وحده في جميع شؤوننا, ولا ينبغي أن نخاف من غيره, ولا نرجو سواه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان واليقين, والثبات على شرعِه القويم, إنه سميع قريب مجيب.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: إن من حكمة الله وسنته في خلقه: أنه يبتليهم بالمحن والمصائب, ويُداول الأيام بين الناس, مُؤمنِهم وكافرهم.
ولقد أصيب المسلمون بالمحن التي ضعف الرجاء بزوالها عنهم, ودبّ اليأس في قلوب كثير من الناس, وما زاد ذلك المؤمنين الصادقين إلا إيمانًا ويقينًا.
فلم ييأسوا ولم يقنطوا, وبذلوا وجاهدوا وصبروا, فهؤلاء بهم تُستدفع المصائب, وتزول النوائب.
لقد مرّت على المسلمين في اليمن والشام سنواتٌ عجاف, كادتا أن تكونا منطقتين تابعتين لإيران المجرمة, وازدادت المحنة على أهل الشام, حيث واجهوا أقوى دول العالم, فصبَّ عليهم البلد الشيوعيُّ أعتى أسلحتِه, وأمطرَ عليهم آلاف القنابل والصواريخ, وامتنع الغرب من إقامة مناطق آمنة للمدنيين, وزرعوا باعتراف كبرائهم الخوارج والغلاة, وغزاهم عشرات الأحزابِ الرافضية الشركية من كل بلد, وكيدت لهم المؤامرات والخطط, التي لا يمكن لأي قوةٍ أن تصمد أمامها.
لكن أهل الشام بإيمانهم بربهم, وتوكلهم على خالقهم, وعدم تنازلهم عن دينهم وعقيدتهم, استطاعوا إلحاق الهزائم الكبرى بالغزاة والمحتلين النصيريين والرافضة المشركين, وهاهي أخبارهم تدوي في كل مكان من أرض الشام المباركة, وهاهم يصلون إلى قلب دمشق, عاصمة الأمويين.
ولقد تفاجأ الجميع من هذه الانتصارات القوية المتتالية.
ولا غرابة في ذلك, فالمؤمنون الصادقون لا يفترون ولا ييأسون, ولو اجتمع عليهم أهل الأرض, ولا تزيدهم المحن إلا ثباتًا وقوةً وعزيمة.
أما أهل الباطل والظلم, فلا بد أن تفتر عزائمهم, ويدبّ الملل في قلوبهم.
وهاهم الغرب والشرق والعلمانيون والمنافقون, يُحاربون الإسلام والمسلمين, بكل الوسائل والطرق, ليمنعوه من الانتشار العجيب في بلدانهم.
ومع ذلك: باءت كثير من محاولاتهم بالفشل, فما ازداد الإسلام بتضييقهم إلا توسُّعًا وانتشارًا؛ لأن الإسلام دين العقل والفطرة, فلا سبيل لمواجهته, والله غالب على أمره.
نسأل الله تعالى أن يُمكن للإسلام والمسلمين, وأنْ يُبطل كيد الكافرين, إنه على كل شيء قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق