سورة قريش ( دروس وعبر )

محمد بن سليمان المهوس
1439/06/27 - 2018/03/15 00:13AM

الْخُطْبَةُ الْأُولَى

إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها ،وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ، وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ .

أيُّهَا الْمُـْـسلِمُونَ / سُورَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى تَتَكَرَّرُ عَلَى أَسْمَاعِنَا ،فِيهَا مِنْ الدُّرُوسِ وَالْـحِكَمِ وَالعِبَرِ وَالفَوَائِدِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ ، وَالَّذِي جَعَلَنَا نَقِفُ مَعَهَا فِي جُمْعَتِنَا هَذِهِ .

سُورَةُ قُرَيْشٍ ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾  فَفَيِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَمْتَنُّ اللّهُ تَعَالَى عَلَى قُرَيْشٍ بِأَنْ جَمَعَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَفَرِّقَيْنِ, وَأَمَّنَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خَائِفِينَ, وَأَطْعَمَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ جَائِعِينَ, فَكَانَ الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ تـِجَاهَ هَذِهِ النِّعَمِ العَظِيمَةِ ، وَالْـمِنَنِ الكَثِيرَةِ أَنْ يَشْكُرُوا اللّهَ تَعَالَى حَقَّ شُكْرِهِ; وَمِنْ تَمَامِ الشُّكْرِ وَأُوجِبِهِ : تَحْقِيقُ عِبَادَةِ الخَالِقِ وَحْدَهُ لَاشَرِيِكَ لَهُ , وَصَرْفُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ والْقُرُبَاتِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ ،وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْش ﴾ أَيْ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ قَبِيلَةِ قُرَيْشٍ العَظِيمَةِ ، وَوَحَّدَ صَفَّهُمْ ، وَجَمَعَ كَلِمَتَهُمْ ، وَأَدَامَ أَمْنَهُمْ فِي مَكَّةَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾ أَيْ جَعَلَهُمْ اللّهُ تَعَالَى يَأْلَفُونَ وَيُسَافِرُونَ مَعَ بَعْضِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ ،ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ غَانِمِينَ آَمِنَيِنِ, قَالَ تَعَالَى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾

وَفِي هَذَا مَشْرُوعِيَّةِ السَّعْيِ فِي الأَرْضِ ،وَالسَّفَرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَحْظُورٌ شُرُعِيٌّ, قَالَ تَعَالَى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:﴿ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾

وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴾ أَيْ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِأَعْظَمِ عَمَلٍ وَأَوْجَبِهِ وَأَشْرَفِهِ وَهُوَ: تَوْحِيدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! لِأَنَّ مِنْ تَمَامِ شُكْرِ رَبِّ الكَعْبَةِ الْـمُشَرَّفَةِ: إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ, قَالَ تَعَالَى:﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ فَلَا يَعْبُدُوا صَنَمًا وَلَا ندًا وَلَا وَثَنًا, وَلَا يَصْرِفُوا أَيَّ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللّهِ تَعَالَى, فَمِنِ اِسْتَجَابَ لِهَذَا الأَمْرِ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ أَمْنِ الدُّنْيَا وَأَمْنِ الآخِرَةِ, وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهُمَا مِنْهُ, قَالَ تَعَالَى:﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾  وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون ﴾ فَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَعْظَمُ مَا يَمْلِكُهُ الـمَرْءُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ; لِأَنَّهُ هُوَ الْـمِفْتَاحُ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ جَنَّةَ رَبِّ العَالَمِينَ, وَيَنْجُو بِهِ مِنْ نَارِ الجَحِيمِ; وَيَمْنَعُ الخُلُودَ فِيهَا إِذَا كَانَ فِي القَلْبِ مِنْهُ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ, بِهِ تُغْفَرُ الذُّنُوبُ وَتُكَفَّرُ السَّيِّئَاتُ, وَهُوَ أَعْظَمُ أَسْبَابِ اِنْشِرَاحِ الصَّدْرِ; لِأَنَّهُ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ التَّأَدُّبِ مَعَ اللّهِ تَعَالَى ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أنْ يُـحْيِيَنَا مُوَحِّدينَ لِلّهِ ، مُـخْلِصِينَ الدّينَ لهُ ، مُؤْمِنِينَ بِهِ ، مُعَظِّمِينَ لـِجَنابهِ ، وأنْ يُعيذَنا أجْـمَعينَ منَ الشّركِ كُلِّهِ دِقَّهِ وَجِلِّه عَلانِيَتِهِ وَسِرَّهِ .

باركَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِما فِيهِمَا مِنَ الْآياتِ وَالْحِكْمَةِ ،أقولُ قَوْلِي هَذا، واسْتَغْفِرِ اللهُ لِي وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم .

اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً ، أمّا بَعْدُ : أيُّهَا الْمُـْـسلِمُونَ /

تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ لِلّهِ تَعَالَى سَبِيلُ الدَّعَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ, وَطَرِيقُ الرَّخَاءِ وَالاِسْتِقْرَارِ وَرَغَدِ العَيْشِ, فَبِهِ تَعُمُّ البَرَكَاتُ، وَتَصْلُحُ الأَحْوَالُ, وَتَهْنَأُ الحَيَاةُ, وَيَعِيشُ النَّاسُ فِي أَمْنٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَرَاحَةِ بَالٍ, كَمَا قَالَ تَعَالَى:﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف ﴾ فَنِعَمُ اللهِ عَلَى عِبَادَهِ كَثِيرَةٌ وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ نِعْمَةِ التَّوْحِيدِ: الغِذَاءُ وَالأَمْنُ, وَلِذَلِكَ رَبَطَ اللّهُ تَعَالَى فِي كِتَابَةِ الْكَرِيمِ بَيْنَ الغِذَاءِ وَالأَمْنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةً , وَذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ بِهِمَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا " رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ, وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ مِن حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ  .

فَاتَّقُوْا اللّهَ تَعَالَى - عِبَادَ اللهِ - وَاِحْرِصُوا عَلَى تَوْحِيدِكُمْ, وَاُشْكُرُوا رَبَّكُمْ ، فَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِرَغَدِ العَيْشِ, وَالأَمْنِ فِي الأَوْطَانِ, وَالسَّلَامَةِ فِي الأَدْيَانِ, وَفَجَّرَ كُنُوزَ الأَرْضِ, وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ بِمَا لَا يَكَادُ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ وقال ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" رَوَاهُ مُسْلِم .

 

 

المشاهدات 7331 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا