سورة الحجرات (2)
فهد عبدالله الصالح
الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدفأوصيكم ياعباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، فاتقوا الله يرحمكم الله وانتهوا عن معاصيه، وعن الانقياد لأماني النفوس، ووساوس الشيطان، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عبـاد الله: تحدثنا في الجمعة الماضية عن تفسير بعض آيات سورة الحجرات والتي خاطب الله فيها المؤمنين وأمرهم بالتأدب مع الله عز وجل ومع رسولهصلَّى الله عليه وسلَمومع أنفسهم ومع الناس أجمعين، ثم حذر الله عباده المؤمنين من الانسياق وراء الفاسق أو تصديق خبره، وبعد ذلك أمر الله المؤمنين بإصلاح ذات البين ورد المخطئ إلى الحق لأن المؤمنين أخوة ومن مقتضيات الأخوة الترابط والتلاحم، ومن مقتضياتها. أيضاً. ما ذكره الله تعالى في منتصف سورة الحجرات وما بعدها وهو حديث اليوم بقوله سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].
أيهـا المسـلمون: إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن هو مجتمعٌ له أدبٌ رفيع ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس وهذه الكرامة الفردية هي من كرامة الأمة الإسلامية ولمزُ أي فردٍ هو لمزٌ للكل، لأن الأمة واحدة ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [الأنبياء: 92] فالكرامة واحدة والعزة واحدة.
والله عز وجل ينهى عن السخرية لأنها خدشٌ للنفس البشرية واستنقاص لها ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ [الحجرات: 11] وفي قوله تعالى ﴿ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ [الحجرات: 11] إشارة ٌ وتوجه بأن القيم الظاهرة ليست هي القيم الحقيقية التي يقاس بها الرجال فهناك قيمٌ أخرى قد تخفى على الكثيرين فالناس يقيسون بمقاييس الأرض من مال وجاه ومنصب وجمال ولكنً الله عز وجل يزن بموازين ٍ سماوية ربانية ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] ولا يكتفي القرآن بالنهى عن السخرية فحسب بل يحرك العاطفة الإيمانية ويذكر المؤمنين بأنهم أمة واحدة بقوله ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11].
ومن السخرية بالمؤمنين التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن يناديه بأحب الأسماء إليه، ولقد غيَر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَمأسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها أحس فيها بأوصاف ٍ ذميمة تضايق أصحابها، والآية الكريمة تحذر المؤمنين من الوقوع في الأخطاء بعد أن منً الله عليهم بالهداية والرشاد بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان هذا سياج يقيمه الإسلام لحماية المجتمع الإسلامي وهو عدم السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب.
وثمة سياج آخر. أيها المسلمون. ومن نفس السورة أيضاً إنه سياج حول حرمات الأشخاص وكرامتهم وحرياتهم ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
إن الهدف من ذلك كله أن يتطهر المجتمع من الأمراض والعلل وأن تتطهر النفوس من الشحناء والبغضاء فتبقى نقية طاهرة لا تحمل في قلبها غلاً على مسلم فتكون بذلك من أهل الجنة.. فالظن المجرد من الدليل يفسد العلاقات ويوغل النفوس فالظن أكذب الحديث كما جاء ذلك في صحيح الحديث فالحكم على الناس يكون في الظاهر والله سبحانه وحده هو الذي يتولى السرائر.
وأمَـا التجسس فهي الحركة التالية للظن والقرآن الكريم يقاوم هذا العمل الدنيء الذي هو تتبعٌ لعورات الآخرين وكشف لأسرارهم لأن للناس خصوصيات لا يرغبون أن يطلع عليها أحد ولهم أسرار ومكنونات يحتفظون بها لأنفسهم.. فالتجسس على الناس بأي شكل كان وبأي وسيلة كانت انتهاك لحرية الإنسان وفضحٌ لأسراره وإفسادٌ لحياته روى أبو داود في سننه عن معاوية رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَم يقول (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتجسس على الناس سواء كان جاراً له أو زميلاً في عمل أو غيرهما من سائر الناس بل الواجب أن يبتعد المسلم عن كل مواطن الريب ولو انكشف شيء من بيت الجار أو غيره من خفايا الناس فالواجب الستر ففي الحديث (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) وفي حديث أخر (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا مؤدة ً من قبرها).
وبعد التوجيه بعدم الظن بالمسلمين أو التجسس عليهم يأتي النهي عن الغيبة في تعبير عجيب وتمثيل ٍرائع يجعل المسلم يأنف عن هذا المسلك المشين ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12].
إن الغيبة: أيها الأخوة: هي ذكرك أخاك بما يكره كبيرة من كبائر الذنوب وهي من مفسدات العلاقات ومن عوامل هدم الثقة بين الناس ومن أسباب الشحناء والبغضاء بين المسلمين، والويلُ كل الويل لمن يجعل أخطاء المسلمين وعيوبهم فاكهة ً له في المجالس ففي الحديث الصحيح في وصف المفلس يوم القيامة إثبات أن المغتاب تذهب حسناته إلى من اغتابه بقدر مظلمته.
وفي حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال رسول صلَّى الله عليه وسلَم (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود.
فالواجب على المسلم أن يحاسب نفسه وأن ينتبه إلى هذا المنزلق الخطير المُذْهب للحسنات، وأن يتحاشى ذكر أسماء الأشخاص أو الإشارة لهم وأن يذب عن عرض أخيه المسلم وأن ينصح من يقع في أعراض المسلمين وأن يشغل المجالس بكل كلام مفيد ونافع وإذا لم يستطع فعليه بقول الله عز وجل ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68] والسامع للغيبة دون إنكار منه داخلٌ في حكم المغتاب لأن الساكت عن الشر شيطان أخرس.
وبعد أن نهى الله عن الظن والتجسس والغيبة عقب على ذلك بالتزام التقوى فهي السياج المانع للوقوع في مثل هذه المنكرات.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أمر التوبة تطلعاً لرحمة الله ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
أيهـا المسـلمون: وبعد أن ذكًر الله عباده المؤمنين بالآداب النفسية والاجتماعية ذكَرهمْ سبحانه بالأصل الواحد والميزان الواحد ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
فأصل البشرية واحد وهو التراب والناس سواسية في هذا الأصل ولا شيء يدعوا إلى السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب أو الظن أو التجسس أو الغيبة.. ثم إن اللون أو الجنس أو اللغة أو الموطن أو غيرهما من القيم الأرضية ليس لها في حساب الله ميزان، إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم ويعرف به فضل الله إنه قول الله ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
وفي ختام السورة الكريمة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته في الرد على أناس أسلموا حديثاً ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].
ومع هذا فإن كرم الله جزيل اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئاً كما قال تعالى ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ﴾ [الحجرات: 14] أي لا ينقصكم من أعمالكم شيئا.
ثم بين الله حقيقة الإيمان بقوله جلا وعلا ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15].
فالإيمان تصديق القلب بالله ورسوله، وإذا كان الكافرون والمنافقون كرهوا ما أنزل الله فإن المؤمنين لم يرتابوا ولم يطعنوا في أي تشريع من دين ربهم بل إيمانهم راسخ بأنً دين الله حق وأن الخير كله فيه.
والإيمان الصادق الراسخ أيهـا المسـلمون إذا وقر في القلب صدقت الأعمال.. فالمؤمنون حقاً هم الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون.
إنها التضحية لهذا الدين بالغالي والنفيس، إنه تصديق الإيمان والعمل للإسلام وبذلك يكون النصر وتكون العزة والكرامة.
والله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى وهو أعلم بما في القلوب.
﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 16].
ألا فاتقوا الله. أيهـا المسـلمون. واعتصموا بحبل الله المتين وأقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولعموم المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.