سواليف أهل الجنة وأهل النار
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/07/22 - 2017/04/19 14:13PM
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة في الله
إن من أعذب الأحاديث وأجملها أن يتحدث المرءُ عن الماضي وعن حياته السالفة، ويزداد جمال هذه الأحاديث إذا كان المتحدث يعيش حياته في رغد من العيش، فهو لا يتكلم من ألم، ولا يتكلم من تحسر، وإنما يتحدث وهو مشرئب بالسعادة والراحة النفسية.
كما أن هذه الأحاديث تزداد جمالا ومتعة وعذوبة، عندما يتحدث المرءُ عن فرص مرت عليه وفرح أنها لم تفته؛ وإنما اغتنمها وعمل بها، فتراه يتحدث وكله حبور وغبطة وسعادة على حظه السعيد وكيف فاز مع الفائزين.
هذا ما سيدور بين بعض أهل الجنة حين يتحدث بعضهم مع بعض، وحين يزور بعضهم بعضا، فيسأل بعضهم بعضا عما كانوا عليه، وما وصلوا إليه، تلذذا واعترافا بالنعمة التي هم فيها.
فأي سعادة سيكونون عليها؟ وما شعورهم وهم يتحدثون عن سبب دخولهم الجنة ونجاتهم من النار؟ وما الأسباب يا ترى التي ذكروها وكانت سببا في نجاتهم ودخولهم الجنة؟ دعونا نستعرض لقاءً دار بين مجموعة من أهل الجنة.
قال تعالى َوأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ{22} يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ{23} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ{24} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}.
فلا شك أن فرح المرء يزداد حين يتحدث مع زملائه وأحبابه داخل الجنة عن أسباب نجاته من النار ويذكر من تلك الأسباب أنه كان دائم الخوف من الله تعالى، وأن خوفه ذلك كان حصنا له من الوقوع في الحرام، ولأنه كان يكثر سؤال الله تعالى ويدعوه قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}.
وإذا أردنا استعراض لقاءٍ آخر بين مجموعة أخرى من أهل الجنة نرى واحدا منهم يحدث جلساءه عن سبب نجاته أنه لم ينجرف مع أصدقاء السوء، قال تعالى َفأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{50} قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ{51} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ{52} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ{53} قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ{54} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ{55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ{56} وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ{57} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ{58} إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ{59} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{60} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ{61
ولذلك جاء عن أَبِي مُوسَى الأشعري –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ:(مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) متفق عليه، فكيف من جعل جليسه تلك القنوات الفضائية الهابطة يقلب ناظريه فيما حرم الله عليه.
لقد أخبرنا الله تعالى بأحاديثهم في الجنة، لكي نتفقد أنفسنا قبل أن نندم، لعلها أن تكون هذه أحاديثنا إن شاء الله بعد دخولنا الجنة، وما ذلك على الله بعزيز.
فماذا أخبرتنا سواليفهم وأحاديثهم؟ أخبرتنا عن أعمال صالحة كانوا يعملونها في الدنيا، وكأنَّهم يقولون: أنها كانت سبب نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة، والله جل وعلا سطرها في كتابه كي ننتبه لذلك ونحذو حذوهم، قبل فوات الأوان.
فالسر في نجاتهم أنهم عاشوا في الدنيا على حذر من يوم القيامة، عاشوا في خشية مستمرة من لقاء ربهم، لم تغرهم الملهيات والشهوات؛ لأنهم علموا وأيقنوا أنهم محاسبون عنها ومسئولون، وأنهم كانوا يتذللون لله تعالى بسؤاله ودعاءه واللجوءٍ إليه.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}
فالخوف من الله منجاة من عذابه، فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة، وإذا أمِنني في الدنيا أخفته في الآخرة) رواه ابن حبان.
فالخوف من الجليل سبب رئيس من أسباب الفوز بالجنة، وكثرة دعاء الله عز وجل سبب آخر للفوز بالجنة إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، والابتعاد عن قرناء السوء سبب ثالث للفوز بالجنة.
فهلا التزمنا بهذه الأعمال وأكثرنا منها؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حق حمده والصلاة على من لا نبي بعده، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ ، صلى الله عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ومن تبعه إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعملوا في دنياكم ما ينجيكم من عذاب ربكم ويدخلكم جنة ربكم، خذوا العلم من العلماء ولا تتبعوا الشهوات واحذروا مجالس السوء وجلساء السوء فإنهم لن ينفعوكم بشيء يوم القيامة بل سيتبرؤون منكم ويكونوا لكم أعداء، الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ.
أيها الأخوة في الله
ولو تأملنا بعض أحاديث أهل النار وسواليفهم وهم يلعن بعضهم بعضا ويلوم بعضهم بعضا ويتهم بعضهم بعضا في سبب إضلاله وشقاوته، قال الله تعالى عنهم وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }إبراهيم21
وقال تعالى وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ{47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ{48}.
وفي سورة أخرى ينقل الله لنا حوارا آخر فيقول: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ{31} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ{32} وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{33}
واسمعوا هذا الحوار الآخر الذي سيدور في النار بين داعية خير، وأناس كانوا يسمعون الخير ولكن كلا منهم لم يعمل بما علم وسمع، فعن أسامة بن زيد –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ( يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) متفق عليه.
فالمتأمل في هذا الحديث المليء بالعبر، يجد أناسا في النار يحترقون، والعذاب الذي يعذبون به كافيهم، ومع ذلك فقد اجتمعوا حول هذا الرجل الذي اندلقت أمعائه، مما يدل على بشاعة ذنبه وشدة عذابه، وقد شُبّه بالحمار، إذ لا غباء أعظم من أن يعرفَ المرءُ الحقَ ويدعو الناس إليه، ثم لا يعمل به، واعلم أن هذا الحوار الذي دار بينهم ليس حوارا هادئا كما يتُصور، وإنما هو مليء بالصراخ والعذاب، فالله عز وجل جعلهم يتحدثون وهم يحترقون تبكيتا لهم واعترافا بذنوبهم، وتأمل أيضا كيف أن الله تبارك وتعالى جمع بين هذا الداعية وبين بعض أتباعه الذين كانوا يستمعون لمواعظه ولكنهم لم يمتثلوا، ليزيدهم فضيحة، فالمعذبون في هذا الحديث صنفان: أناس كانوا يَعلمون الحق ويُعلِّمونه غيرهم، ولكنهم لم يعملوا به، وأناس كانوا يسمعون العلم والوعظ ولكنهم لم يعملوا بما سمعوا، فمن لم يعمل بعلمه، أو خالف قوله فعله، استحق العذاب المهين.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل واعصمنا من الزلل، اللهم حبب إلينا لإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة في الله
إن من أعذب الأحاديث وأجملها أن يتحدث المرءُ عن الماضي وعن حياته السالفة، ويزداد جمال هذه الأحاديث إذا كان المتحدث يعيش حياته في رغد من العيش، فهو لا يتكلم من ألم، ولا يتكلم من تحسر، وإنما يتحدث وهو مشرئب بالسعادة والراحة النفسية.
كما أن هذه الأحاديث تزداد جمالا ومتعة وعذوبة، عندما يتحدث المرءُ عن فرص مرت عليه وفرح أنها لم تفته؛ وإنما اغتنمها وعمل بها، فتراه يتحدث وكله حبور وغبطة وسعادة على حظه السعيد وكيف فاز مع الفائزين.
هذا ما سيدور بين بعض أهل الجنة حين يتحدث بعضهم مع بعض، وحين يزور بعضهم بعضا، فيسأل بعضهم بعضا عما كانوا عليه، وما وصلوا إليه، تلذذا واعترافا بالنعمة التي هم فيها.
فأي سعادة سيكونون عليها؟ وما شعورهم وهم يتحدثون عن سبب دخولهم الجنة ونجاتهم من النار؟ وما الأسباب يا ترى التي ذكروها وكانت سببا في نجاتهم ودخولهم الجنة؟ دعونا نستعرض لقاءً دار بين مجموعة من أهل الجنة.
قال تعالى َوأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ{22} يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ{23} وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ{24} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}.
فلا شك أن فرح المرء يزداد حين يتحدث مع زملائه وأحبابه داخل الجنة عن أسباب نجاته من النار ويذكر من تلك الأسباب أنه كان دائم الخوف من الله تعالى، وأن خوفه ذلك كان حصنا له من الوقوع في الحرام، ولأنه كان يكثر سؤال الله تعالى ويدعوه قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}.
وإذا أردنا استعراض لقاءٍ آخر بين مجموعة أخرى من أهل الجنة نرى واحدا منهم يحدث جلساءه عن سبب نجاته أنه لم ينجرف مع أصدقاء السوء، قال تعالى َفأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{50} قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ{51} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ{52} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ{53} قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ{54} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ{55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ{56} وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ{57} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ{58} إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ{59} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{60} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ{61
ولذلك جاء عن أَبِي مُوسَى الأشعري –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ:(مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) متفق عليه، فكيف من جعل جليسه تلك القنوات الفضائية الهابطة يقلب ناظريه فيما حرم الله عليه.
لقد أخبرنا الله تعالى بأحاديثهم في الجنة، لكي نتفقد أنفسنا قبل أن نندم، لعلها أن تكون هذه أحاديثنا إن شاء الله بعد دخولنا الجنة، وما ذلك على الله بعزيز.
فماذا أخبرتنا سواليفهم وأحاديثهم؟ أخبرتنا عن أعمال صالحة كانوا يعملونها في الدنيا، وكأنَّهم يقولون: أنها كانت سبب نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة، والله جل وعلا سطرها في كتابه كي ننتبه لذلك ونحذو حذوهم، قبل فوات الأوان.
فالسر في نجاتهم أنهم عاشوا في الدنيا على حذر من يوم القيامة، عاشوا في خشية مستمرة من لقاء ربهم، لم تغرهم الملهيات والشهوات؛ لأنهم علموا وأيقنوا أنهم محاسبون عنها ومسئولون، وأنهم كانوا يتذللون لله تعالى بسؤاله ودعاءه واللجوءٍ إليه.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ{28}
فالخوف من الله منجاة من عذابه، فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة، وإذا أمِنني في الدنيا أخفته في الآخرة) رواه ابن حبان.
فالخوف من الجليل سبب رئيس من أسباب الفوز بالجنة، وكثرة دعاء الله عز وجل سبب آخر للفوز بالجنة إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، والابتعاد عن قرناء السوء سبب ثالث للفوز بالجنة.
فهلا التزمنا بهذه الأعمال وأكثرنا منها؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حق حمده والصلاة على من لا نبي بعده، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ ، صلى الله عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ومن تبعه إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعملوا في دنياكم ما ينجيكم من عذاب ربكم ويدخلكم جنة ربكم، خذوا العلم من العلماء ولا تتبعوا الشهوات واحذروا مجالس السوء وجلساء السوء فإنهم لن ينفعوكم بشيء يوم القيامة بل سيتبرؤون منكم ويكونوا لكم أعداء، الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ.
أيها الأخوة في الله
ولو تأملنا بعض أحاديث أهل النار وسواليفهم وهم يلعن بعضهم بعضا ويلوم بعضهم بعضا ويتهم بعضهم بعضا في سبب إضلاله وشقاوته، قال الله تعالى عنهم وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }إبراهيم21
وقال تعالى وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ{47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ{48}.
وفي سورة أخرى ينقل الله لنا حوارا آخر فيقول: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ{31} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ{32} وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{33}
واسمعوا هذا الحوار الآخر الذي سيدور في النار بين داعية خير، وأناس كانوا يسمعون الخير ولكن كلا منهم لم يعمل بما علم وسمع، فعن أسامة بن زيد –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ( يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) متفق عليه.
فالمتأمل في هذا الحديث المليء بالعبر، يجد أناسا في النار يحترقون، والعذاب الذي يعذبون به كافيهم، ومع ذلك فقد اجتمعوا حول هذا الرجل الذي اندلقت أمعائه، مما يدل على بشاعة ذنبه وشدة عذابه، وقد شُبّه بالحمار، إذ لا غباء أعظم من أن يعرفَ المرءُ الحقَ ويدعو الناس إليه، ثم لا يعمل به، واعلم أن هذا الحوار الذي دار بينهم ليس حوارا هادئا كما يتُصور، وإنما هو مليء بالصراخ والعذاب، فالله عز وجل جعلهم يتحدثون وهم يحترقون تبكيتا لهم واعترافا بذنوبهم، وتأمل أيضا كيف أن الله تبارك وتعالى جمع بين هذا الداعية وبين بعض أتباعه الذين كانوا يستمعون لمواعظه ولكنهم لم يمتثلوا، ليزيدهم فضيحة، فالمعذبون في هذا الحديث صنفان: أناس كانوا يَعلمون الحق ويُعلِّمونه غيرهم، ولكنهم لم يعملوا به، وأناس كانوا يسمعون العلم والوعظ ولكنهم لم يعملوا بما سمعوا، فمن لم يعمل بعلمه، أو خالف قوله فعله، استحق العذاب المهين.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل واعصمنا من الزلل، اللهم حبب إلينا لإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.