سهام التحطيم
سامي بن محمد العمر
أما بعد:
سهام قاتلة.. تنطلق من أفواهٍ تمضمضت بعلقم الحقد والحسد، أو بمرارة السفه والجهل.
سهام قاتلة.. هنا وهناك.. تتلقاها الصدور العارية من دروع التحصين.. لتفري فيها فريّا لا يطاق، وتسُلبَ منها عطاءها الدفاق.
السالكون في طريق النجاح والإبداع.. يعلمون أنه طريق كثير المشاق ... علو وانحدار، ضيق واتساع..
فيتحلون بالصبر والإيمان والثقة والاطمئنان، ويسألون الله تمام نجاحهم وإبداعهم، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات) رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله ثقات،
وعندما يبدأ نجم الفتى بالسطوع واللمعان.. تبدأ السهام القاتلة حربها الضروس لقمع التفوق والموهبة، وقتل النبوغ والمعرفة.. بسلاح التحطيم والتحجيم، وفن الإحباط والتقزيم.
كلماتٌ.. تقتل الطموح وتغتال الآمال.
كلماتٌ.. تفل العزيمة وتكسر الهمم، وتدفن النبوغ وتئد الإبداع.
كلمات لا مسؤولة.. تفتقد لأدنى درجات التعقل والإدراك.
كلماتٌ.. تُغَيب الضحكةَ المبتهجة، وتغتالُ البسمةَ والفرحة، وتولد الأسى والدمعة.
والله تعالى يقول: ((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ))
التحطيم.. فنٌ مقيت أليم، يجيده ضعاف النفوس، وخائرو القوى، وأموات الهمة، وقتلى العزيمة.. كلما رأوا من فاقهم علما وعملا، وهمة وإنجازا..
والتحطيم ... خلق ذميم.. يقع فيه مع حسن نيةٍ.. والدٌ عجول، ومعلمٌ كسول، ومسؤولٌ جهول.
والمحطِّم: يُفقد الثقة بالقدرات، ويُلغي الشخصية بوابل الانتقادات، ويُمرض النفس من خشية الوقوع في الأخطاء والزلات.
وتلك جريمة كبرى تواجه أجيالنا اليوم.. حين يستسلم لها الكثير من الطلاب والمبدعين في شتى جوانب الحياة وفنون المعرفة والعمل.
جريمة لا بد من مقاومتها.. بالنصح والتوجيه، والتبصير والتنوير.. ليسلم المحطَّمون من سهام المحطِّمين، وليصنعوا منها سلالم الرقي في سماء المعارف.
أيها المسلمون:
لقد حفل التاريخ بنماذج من عبارات التحطيم التي تجاوزها المستهدفون بشجاعة وعزم حتى حققوا مرادهم... أسوق لكم طرفاً منها، ينير الطريق ويهدي الحائر:
- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: "هلم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير"، فقال: "واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ فيهم؟ "، قال: "فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، .... فعاش هذا الرجل الأنصارى حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني").
- ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم - مُسلمًا - ملكٌ من ملوك اليمن يقال له: وائل بن حجر فأقطعه أرضا، وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان ليدله عليها فقال معاوية: أردفني خلفك، فقال وائل: لا تكون من أرداف الملوك، فقال معاوية: فأعطني نعلك - ليتقي بها حرارة الأرض - فقال وائل: انتعل ظلَّ الناقة. أي: امش في ظلها!
قال وائل: فلما استخلف معاوية أتيته فأقعدني معه على السرير، فذكرني الحديث: ولقد وددت أني كنت حملته بين يديّ.
- وكان الإمام الطحاوي شافعيا يدرس العلم على خاله الإمام المزني، فقال له المزني يوما: والله لا جاء منك شيء ، فغضب الطحاوي من ذلك ، وانتقل في طلب العلم إلى غيره ، فلما صنف بزغ نجمه وألف كتبه المشهورة، تذكر خاله فقال: مختصره رحم الله خالي: لو كان حياً لكفر عن يمينه .
أيها المسؤولون عن هذه الأجيال:
التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تُظهر ثمرها، وتُؤتي أكلها؛ وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) متفق عليه.
وقليل العسل ينعش الحشراتِ والطيورَ والبهائمَ، فما بالكم بأثره على أبناء آدم..
- عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أخيها عبد الله بن عمر،: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل» قال ابنه سالم: «فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا».
- وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود».
وقال عمر رضي الله عنه، يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون [ص:32] هذه الآية نزلت: {أيود أحدكم أن تكون له جنة} [البقرة: 266]؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: «قولوا نعلم أو لا نعلم»، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: «يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك»... الحديث. صحيح البخاري (6/ 31).
- وقال الإمام الذَّهبي عن شيخه علَم الدين البرزالي: "وكان هو الذي حبَّب إليَّ طلَبَ الحديث؛ فإنَّه رأى خطِّي فقال: خطك يشبه خطَّ المحدِّثين، فأثَّر قوله فيَّ".
- وقال محمد بن إسماعيل البخاري: "كنتُ عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جَمع هذا الكتاب؛ يعني: كتابه الصحيح".
- وقال أيضاً: "لما بلغت ستة عشرة سنة وكنت حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، "دخلتُ البصرة فجلست إلى مجلس بندار، فلما وقع بصره علي، قال: من أين الفتى؟ قلت: من أهل بخارى، قال: كيف تركت أبا عبد الله البخاري؟ فأمسكتُ، فقالوا للشيخ: يرحمك الله، هذا أبو عبد الله، فقام الشيخ وأخذ بيدي وعانقني، وقال: "مرحباً بمن أفتخر به منذ سنين" [تاريخ دمشق لابن عساكر: 52/ 84].
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ألا فاعلموا أيها الآباء والمعلمون والرؤوساء والمسؤولون:
أن مالكاً جوهرة أخرجتها بإذن الله يد ربيعة الرأي، والشافعي صنيعة من صنائع وكيع، وابن القيم حسنة من حسنات شيخ الإسلام ابن تيمية في سلاسل من البشر،
فلان أنتج فلاناً، وصنعه وقدمه واكتشفه وأبرزه وشجعه حتى بزّ - بتوفيق من الله - الأقران، وصار علما يشار إليه بالبنان.
حينها سيقال: رحم الله من رباه وعلمه، وأدبه ووجهه..
اللهم احم أولادنا من بلاء التثبيط والتحطيم، وشر الإحباط والتحجيم، وارزقهم همما عالية، وعلوما نافعة، يخدمون بها دينهم وبلادهم إنك على كل شيء قدير
اللهم أعز ..