سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ..
عبدالله محمد الطوالة
1441/06/05 - 2020/01/30 14:54PM
الحمْدُ للهِ الَّذي يَخلُقُ ولـمْ يُخْلَقْ، ويَرزُقُ ولا يُرْزقُ، و{يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}، و{يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ}، يُحيي ويُميتُ وهوَ حَيٌّ لا يموتُ، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}، سبحانهُ وبحمده، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ..
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، ولا ربَّ سواهُ، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} ..
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، المصطفى المختارِ .. صلَّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى .. وزكاةُ ربي والسلامُ مُعطرا .. يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى .. أزكى الأنامِ وخيرُ من وَطِئَ الثَرى .. والآل والصحبِ الكرامِ ومن تلى .. وسلَّمَ تسليماً كثيراً أنورا ..
أما بعـدُ: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالمؤمـنُ قـويٌّ بتقـواهُ، غنيٌّ بإيمـانـه، ثابـتٌ بيقينــه، راقٍ بأخلاقه، سمحٌ بتعامُله، رفيعٌ بتواضُعِه، كالغيث أينما وقعَ نفعَ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}..
معاشر المؤمنين الكرام: مَنْ أرادَ الهدايةَ بصدقٍ وسَعَى لها سعيها، فسيوُفِّقَ لها بأذن الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .. ومعنا اليوم قصةُ شابٍّ ذكيٍ طموح, يعشقُ الحقيقة والصدق والوضوح، ويضحي في سبيلها بالمال والأهل والروح ..
شابٌّ جريءٌ مغامرٌ، ترك أهلهُ وبلده وضياعه؛ وتنقل بين البلدان، وخدم كبار السن، بحثاً عن الدين الحق ..
شابٌ ذو عقلٍ راجح، وهمّةٍ عالية، وشكيمةٍ قوية، وصبرٍ دؤوب .. إلا أنه عاشَ أول حياته في بيئةٍ مَجُوسيِّةٍ وثنيةٍ تعبدُ النار, فقد كان يعيش في منطقة أصبهان، من بلاد فارس بإيران، وكانَ أبوهُ كبيرُ القَرْيَةِ ورئيسها، وكان غنياً مهيباً وذو عزٍّ وسلطان، وكان هذا الأبُّ يحبُّ ابنه حبّاً عظيماً، حتى أنه من شدّةِ حبه له خَافَ عليه وحَبَسَهُ في بَيتِهِ كما تُحبَسُ الجَارِيةُ ..
في قصةٍ طويلةٍ سنتعرف عليها اليوم بإذن الله .. فهل عرفتم من هو هذا الشاب المغامر الطموح، الباحث عن الحقيقة، إنه الصحابي الجليل: سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه ..
يقول سلمان رضي الله عنه: اجتهدتُ في المجوسيَّةِ حتى أصبحت خادم النَّارِ الذي يُوقِدُها فَلا يترُكُها تَخبُو ساعةً .. وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ عنها يوماً فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ وافعل فيها كذا وكذا، ولا تحتبس عني؛ فإنك إن احتسبت عني شغلتني عن كلِّ شيءٍ من أمري .. فَخَرَجْتُ أُرِيدُ الضَيْعَة، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَأَعْجَبَتنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ، فرَجَعْتُ إلى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشُغل بي عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ .. فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! أَيْنَ كُنْتَ؟ فقُلْتُ: مَرَرْتُ بكَنِيسَةٍ النصارى فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فقَالَ: أَيْ بُنَيَّ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ .. قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا .. قَالَ: فَخَافَ علي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ .. فبَعَثَتُ إِلَيَّ النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ فَأَخْبِرُونِي، فلما قَدِمَ عَلَيْهِمْ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، أَخْبَرُونِي بِهِمْ .. فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ أَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فسألت: مَنْ هو أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّين عِلْمَاً؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ .. فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ له: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ .. أَخْدمُكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فادْخُلْ .. فَدَخَلْتُ مَعَهُ، فعرفت أنه رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا؛ فَإِذَا جَمَعُوا مِنْهَا شْيَئاً كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ، فأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ .. ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إليه النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّه كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يفعلُ كَيتَ وكَيتَ، ودللتُهم عَلَى كَنْزِهِ .. فَلما اسْتَخْرَجُوه قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا .. فَصَلَبُوهُ ورَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ .. وجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَوَضَعُوهُ مَكَانه .. فَمَا رَأَيْتُ قَبلُه أَفْضَلَ مِنْهُ، ولا أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا عظيماً وأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَداً عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا بِـ(الْمَوْصِلِ) (بالعراق)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ .. فَارتحلتُ إليهِ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي .. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فقُلْتُ لَهُ: قَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رجلاً بِـ(نَصِيبِينَ) (بالشام)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ ارتحلت حتى لحِقْتُ بِصَاحِبِ (نَصِيبِينَ)، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي .. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: إلى مَنْ تُوصِي بِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا إِلَّا رَجُلًا بِـ(عَمُّورِيَّةَ) (بتركيا) فَإِنْ أَحْبَبْتَ فائتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا .. فَلَمَّا مَاتَ ارتحلت حتى لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (عَمُّورِيَّةَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي .. فَأَقَمْتُ عِنْدَه فكان على هديِ أَصْحَابِهِ .. ثم إني تكَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَات وَغُنَيْمَة، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إلى مَنْ تُوصِي بِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ أحداً بقي عَلَى مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يبعثُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجِرهُ إلى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ، قَالَ: ثُمَّ مَاتَ، ومَكَثْتُ بِ(عَمُّورِيَّةَ) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ .. ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ التُجَّار، فَقُلْتُ لَهُمْ: احمِلُونِي إلى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي .. قَالُوا: نَعَمْ .. فَأَعْطَيْتُهُمُ إياهَا وَحَمَلُونِي معهم، ثم إنهم ظَلَمُونِي؛ فَبَاعُونِي لرَجُلٍ يَهُودَي فَكُنْتُ عِنْدَهُ عَبْدًا، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ إذ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ (الْمَدِينَةِ) فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، واحْتَمَلَنِي إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا، فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لها، فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبُعِثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ بـ(مكة) مَا أَقَامَ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ نخلةٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِا، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تحتها، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يا فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ (الأوس والخزرح)، وَاللَّهِ؛ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِـ(قُبَاءَ) عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ (مَكَّةَ) الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ .. فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الرَّعْدَةُ، حَتَّى ظَنَنْتُ أني ساقِطٌ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟ فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! .. قال سلمان: فقُلْتُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَثْبتَ .. فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُ شَيْءً من طعام كنت قَدْ جَمَعْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(قُبَاءَ)، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: «كلوا»، وَأَمْسَكَ هوُ فَلَمْ يَأْكُلْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُه وقد تحول من قباء إلى المدينة، فَقُلْتُ له: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا .. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ .. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ .. قالَ سلمان: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) قَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَبرْتُه أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ؛ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي اسْتَدبَرْتُهُ؛ عَرَفَ ما أريد، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى الْخَاتَمِ، فَعَرَفْتُهُ فَاكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي: «تَحَوَّلْ»، فَتَحَوَّلْتُ بين يديه، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي! فَأَعْجَبَه وأحب أَنْ يُسْمَعَه أَصْحَابُهُ .. ثُمَّ إن سَلْمَانَ شَغَلَه الرِّقُّ حَتَّى فَاتتَهُ معركتي (بَدْرٍ) وَ(أُحُد) .. فقَالَ له الرَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!». فَكَاتَبَ سيده عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ يحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وأن يدفع له كذلك أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ذهباً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، فَأَعَانُونِي هذا بِثَلَاثِينَ فسيلةً، وَهذا بِعِشْرِينَ، وكلٌّ بِما يقَدْرِ عليه، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ فسيلة، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ! فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُنُ أَنَا الذي أَضَعُهَا بِيَدَيَّ»، فذهبت فَفَقَّرْتُ لها، ثم جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، حتى إذا فرغنا، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ؛ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ البَيْضَةِ مِنْ الذَهَبٍ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟». قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فقَالَ: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَان!»، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ»، فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ .. واستطاع سلمان بعدها أن يشَهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَنْدَقَ)، وهو الذي أشار بحفره، ثُمَّ لَمْ يَفُتْه مَعَهُ مَشْهَدٌ، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، شارك في فتوح العراق، وتولى إمارة المدائن، وتوفي بها زمن خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة 33 للهجرة، فرضي الله عن سلمان وأرضاه ..
بارك الله لي ولكم ..
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه ......
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ....
معاشر المؤمنين الكرام: في قصة سلمان رضي الله عنه دروسٌ وعبرٌ كثيرةٌ، منها: أهميةُ الفطرةِ السليمة، فقد رَزقَ اللهُ سلمانَ فطرةً سليمةً، وحبّبَ إليه الحقَّ حتى آثرهُ على كلِّ شيءٍ، فبالرغم من أباهُ صاحبُ أموالٍ، وسيدُ قومه، وكان يحبهُ حبّاً شديداً .. إلا إنه قد ضحى بكلِّ ذلك من أجل الوصول للدين الحق ..
والدرس الثاني: أن من جدَّ وجد، ومن زرع حصد: فقد كان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً مجتهداً غاية الاجتهاد، اجتهد أولاً في دين المجوسية حتى بلغ رتبة خادم النار، ثم بلغ أرفع الرتب في دين النصارى، ثم بلغ في دين الإسلام ما لا مزيد عليه، فقد تخاصَمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، كُلٌّ يُريدُ أن يكون منهم، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: بل سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ" .. فطوبي لسلمان ..
الدرس الثالث: أن العقل المتفتح هو أكبر مزايا الناجحين، بعد توفيق الله .. فسلمان رضي الله عنه كان كلما رأى ديناً أحسن من دينه واقتنع أنه الحق، انقاد له واتبعه، لأن عقله غلب هواه ..
الدرس الرابع: أن من كانت له نفسٌ تواقةٌ طارت به نحو المعالي، وكبير الهمّةِ هو من يصل إلى القمّةِ، فسلمان رضي الله عنه ما أن وجد النصارى حتى سألهم عن أصل دينهم، فلما قيل له بالشام، قرَّر السفر فوراً وبلا تردد، ثم لما بلغها سأل عن أفضلهم علماً حتى يتعلم منه، فلما رأى سوء فعله صبر عليه حتى مات، لعلمه أن العلة في الرجل وليست في الدِّين، ولذلك لم يسأله إلى من توصي بي، بل كشف أمره للناس لكي لا يُغتر به، وكشفَ أمر الذهب ولم يأخذ منه شيئاً لأن همته ليست في طلب المال .. وإنما في طلب الدين الحق .. وبعد كل تلك الخدمة الطويلة للأساقفة يتنازل عن ماله وبهائِمه ليصل للدين الحق، ولما وقعَ في رِقِّ العبودية لم يمنعه ذلك من مواصلة البحث عن الدين الصحيح، حتى إذا وجد ضالته المنشودة التي ترك من أجلها أهله وماله ووطنه، وسألوه عن أبيه قال بيته المشهور:
أَبِي الإسلامُ لا أبَ لي سِواهُ .. إذا افتَخَرُوا بِقَيسٍ أو تَمِيمٍ ..
معاشرَ المؤمنين الكرام: سلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه وأرضاه، مَدرَسةٌ في التَّضحيةِ والفِدَاءِ والبحثِ عن الدِّينِ الحق، فأينَ منَ يَتَخَبَّطُونَ في الظُّلمِ, وَيَتِيهونَ في أوحالِ الشَّهواتِ؟! ويتأثَّرونَ بأفكارِ الكُفرِ والإلحادِ وهم في بؤرة النور، ومَهبطِ الوحي وأرضِ الرِّسالَةِ! وصدَقَ اللهُ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ..
وفي قِصَّةِ سلمانَ أيضاً: نعلم أنَّهُ لا شيءَ يجمعُنا غيرُ الدِّينِ، فلا أرضَ ولا نسبَ ولا لون ولا فصيلة ولا قبيلَةَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صلِّ ..