سلسلة كيف تكون خطيبًا مقنعًا؟(7) اغلبه في مجاله أ.محمود الفقي- عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
قد يغتر الإنسان ويتكبر ويزهو بنفسه إذا تميز في مجال ما عن الأقران والأنداد، خاصة إذا تحداه ونافسه الكثيرون فغلبهم، فعندها يتأصل في قلبه التسامي بالنفس والزهو والعجب، فيظن ألا عقل كمثل عقله وألا فكر كمثل فكره وأن أحدًا -مهما بلغ- لا يفهم ما يفهمه هو! وليس ببعيد عنا حال قارون لما فتح الله -عز وجل- عليه فآتاه من الأموال التي يشق على العصبة الأقوياء حمل مفاتيح خزائنها، فإذا به يغتر ويزهو بنفسه فيقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]!
وهذا نمرود بن كنعان الجبار الذي خاصم إبراهيم وجادله في ربه والسبب؟ (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) [البقرة: 258]، "أي: لأن الله آتاه الملك، فطغى وتجبر بسببه، وكانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه"([1])، فنسي نفسه وعدى قدره حتى ادعى الربوبية وقال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة: 258]!
وهذا الثالث الذي طغى فأنكر البعث والحساب والجزاء بعد الموت؛ لأن الله -عز وجل- قد أعطاه: (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) [الكهف: 32-33]، فما زال به العجب والزهو حتى قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) [الكهف: 36]! وغير هؤلاء كثير.
وإني أشهد أن من رواد مساجدنا من عنده شيء من ذلك؛ لا أقصد -معاذ الله- شيئًا من كفر أو إلحاد، بل أقصد أن ممن يسمع الخطباء من عنده شيء من كبر وعجب وغرور وسمو بنفسه أورثه إياه ماله أو منصبه أو وضعه الاجتماعي أو تفوقه في تخصصه... فإذا به -عندما يستمع لخطيب- يعُدُّ نفسه فوقه ويظن نفسه أعلم منه وأدرى وأعقل وأحصف، يشمخ بأنفه وينأى بجنبه!
والسؤال الأهم هنا: كيف للخطيب أن ينفذ إلى عقول هؤلاء فيقنعها أو إلى قلوبهم فيستميلها مع وجود ذلك الحجاب والسياج الغليظ الذي أقاموه حول أنفسهم؟!
أجيب: إن التجارب والخبرات والدراسات النفسية -وفوق ذلك كله القرآن والسنة- أثبتت أن أكثر ما يكسر ويحطم تلك الكبرياء الزائفة التي يحيون داخلها هو: أن يغلبهم أحد في مجالهم ويتفوق عليهم فيما يزهون به وفيما يبرعون فيه.
وإن أردت دليلًا من الواقع أقول لك: انظر إلى ذلك المغرور بماله المتكبر به على الخلق، انظر إليه -وهو صاحب الملايين- كيف يطأطئ الرأس ويحني الظهر ويتواضع ويتضعضع إذا جلس إلى من هو أغنى منه من أصحاب المليارات! وانظر إلى البارع في الكيمياء إذا فوجئ بمن اكتشف اكتشافًا كيميائيًا أذهله كيف يجلُّه ويُكْبره! وانظر إلى العدَّاء السريع وإلى المصارع الشديد إذا برز من يسبقه أو يصرعه!... إنه -لا محالة- يعيد حساباته وينظر نظرة إكبار -رغمًا عنه- إلى من غلبه وهزمه.
ولعل هذا هو السبب في كون معجزة موسى الرئيسية هي العصا التي تنقلب ثعبانًا، ذلك أن قومه إنما تميزوا وبرعوا وتفوقوا في السحر، فتحداهم الله -عز وجل- في جنس ما تفوقوا فيه، فكانت الهزة والرجفة بل الزلزلة التي عمت كيانهم ولم تسلمهم إلا وهم موحدون مؤمنون في ذلك المشهد الذي لا ينسى: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 44- 47]، "فإنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر، ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين"([2]).
وما قلناه عن سحر قوم موسى نعيده الآن عن بلاغة وفصاحة قريش، فقد جاءت معجزة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الخالدة؛ القرآن الكريم، تتحداهم في جنس ما برعوا فيه وما أتقنوه، وردود فعلهم وتأثرهم بالقرآن أشهر من أن يعاد خاصة قول الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق..."([3])، ولقد تحداهم الله -تعالى- بالقرآن تحديًا سافرًا، ففي الأولى قال لهم: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور: 34]، ثم بالغ في تحديهم فقال -عز من قائل-: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود: 13]، ولما ثبت عجزهم عن مجاراته قال الجليل لهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة: 23]، ثم قررها -سبحانه- حقيقة لا تقبل المراء: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]، فلقد غلبهم الجليل -عز وجل- بالقرآن في مجالهم الذي برعوا فيه من الفصاحة والبلاغة والبيان.
ويبدو أن ملكة سبأ وقومها كانوا يتميزون بكثرة الترف والرياش والتفنن في الأبهة والفخامة، يُستشف ذلك من فخامة عرشها، إذ يقول عنه ابن عباس: "كان طول عرشها ثمانين ذراعًا، وعرضه أربعين ذراعًا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعًا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر"، ويُتم قتادةُ الوصفَ فيقول: "وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترًا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق"([4])، لذا فإن نبي الله سليمان أراد أن يغلبهم في مجالهم ويبهرهم، فطلب ممن حوله الإتيان بعرشها، بل وزاد عليه: (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) [النمل: 44]، "وذلك أن سليمان -عليه السلام- أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيمًا من قوارير، أي: من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه"([5])، فكان ذلك أروع وأبدع وأمتع مما تفوق فيه قومها من الرياش والفخامة، فلم تتمالك نفسها أن سلَّمت وآمنت.
وقد ورد في سبب اتخاذ سليمان لهذا الصرح أقوال كثيرة نقلتها كتب التفسير([6])، لكن أقربها إلى العقل والمنطق -وأليقها كذلك بمقام سليمان النبي الكريم- هو قول يزيد بن رومان: "ثم قال لها: (ادْخُلِي الصَّرْحَ)؛ ليريها ملكًا هو أعز من ملكها، وسلطانًا هو أعظم من سلطانها"([7])، فيكون بذلك قد غلبهم في مجالهم، وهذا هو شاهدنا من تلك الواقعة.
ولنر الآن نموذجًا عمليًا واضحًا لما ندعيه من فعل قدوة الخطباء والدعاة -صلى الله عليه وسلم-... لقد كان رُكَانَة رجلًا كافرًا لا يصرعه أحد، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغلبه فيما تفوق فيه لعله أن يُسلِم، وقد كان، فعن علي بن ركانة "أن ركانة صارع النبي -صلى الله عليه وسلم- فصرعه النبي -صلى الله عليه وسلم-"([8])، وقد روي مرسلًا صحيحًا -كما قال الألباني- عن سعيد بن جبير "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة, أو ركانة بن يزيد، ومعه أعنز له، فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ فقال: "ما تسبقني"، قال: شاة من غنمي, فصارعه فصرعه, فأخذ شاة، قال ركانة: هل لك في العود؟ قال: "ما تسبقني" قال: أخرى, ذكر ذلك مرارًا، فقال: يا محمد والله ما وضع أحد جنبي إلى الأرض, وما أنت الذي تصرعني، فأسلم، ورد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنمه([9]).
ومما كان يتباهى به أهل مكة -والعرب عامة- ويتفاخرون به: الشجاعة والجراءة والإقدام واقتحام المخاطر، فسمعنا عن بطولات عنترة بن شداد وفروسية غيره، وكأن الله -عز وجل- قد هيئ لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فرصة ليغلبهم في مجالهم ويتفوق على جميعهم في الشجاعة وفي الفروسية، يروي هذه الفرصة أنس بن مالك فيقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس"، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا" قال: "وجدناه بحرًا، أو إنه لبحر" قال: وكان فرسا يبطأ([10])...
فمع أن العرب كانوا من أشجع الناس ومع أن الصحابة الأطهار أشجع العرب بلا منازع، ومع ذلك فإنهم لما سمعوا الصوت برز أشجعهم وأسرعهم في خفة وجراءة وسرعة... فإذا بهم -وهم المسرعون- يفاجئون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا قد كفاهم مؤنة استبراء الخبر، وعندها انطلق لسان أنس بتلك الشهادة؛ "وكان أشجع الناس".
وليست شهادة أنس وحده، بل لقد جاء رجل إلى البراء، فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك"، قال البراء: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-"([11])، وعند البخاري شهادة البراء التي تقول: "فما رئي من الناس يومئذ أشد منه".
وكما تباهوا بالشجاعة فإنهم كانوا يقدرون قدر الجود والكرم ويوقرون صاحبه، وكلنا يعرف من هو حاتم الطائي ومن هو الحطيئة الذي هَمَّ أن يذبح ولده ليقدمه طعامًا للضيف لما لم يجد طعامًا([12])... وهنا أيضًا أراد نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يبرز لهم فيما تفوقوا فيه حتى يصير لهم قدوة، فعن أنس قال: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة"([13])... وجود النبي -صلى الله عليه وسلم- أوضح من أن يوضح.
***
ومن حقك -أيها الخطيب- أن تسأل: وكيف أستطيع بخطاباتي أن أُطبِّق ذلك؟ وأنى لي أن أجاري الغني في غناه أو ذا الجاه في جاهه أو القوي في قوته؟! ونجيب على هذا السؤال الحيوي والذي هو عمدة مقالنا ومحوره في نقاط محددة:
أولًا: نحن عندما نقدم هذه الاستراتيجية الإقناعية؛ "؛إغلبه في مجاله"، نؤكد أنها تصلح مع بعض الناس لا مع كل الناس، فليس الجميع يناسبه ذلك، بل إن من الناس من إذا جئت تجاريه في مجاله سخِر منك واعتبرك تُفاخِر فيما تنهى أنت عنه من المنافسة في أمور الدنيا! وعليك -أيها الخطيب- يقع عبء التمييز بين من يناسبه هذا الأسلوب ومن لا يصلح معه، "وإن المستخدم لأسلوب في غير محله مفسد لا مصلح"... وبناءً عليه فإنك لست مضطرًا على مجاراة الجميع بل القليل من مخاطبيك.
ثانيًا: لو أدركت -أخي الخطيب- أن فلانًا من الناس يصلح معه هذا الأسلوب ويحتاجه، وأنت لا تستطيع مجاراته في مجاله، فعليك بـ"الإحالة" في كل ما لا تستطيعه، ونقصد بأسلوب الإحالة هنا: أن تحيله على من يستطيع التغلب عليه في مجاله، فإن كان المدعو المخاطَب غنيًا وأنت تعرف من الصالحين الأتقياء من هو أغنى منه، فأحِلْه عليه؛ بأن تجمع بينهما في ذكاء وتعرِّفه عليه في لطف ليكمل هو أمر دعوته واستمالته بخط متواز معك، وكم من مخاطبين -رأيناهم- وقد أثَّر فيهم أن رأوا من الصالحين من هو أغنى منهم!
وإن كان المخاطَب هذه المرة صاحب منصب ما، وأدركت أنت أنه يصلح معه أسلوبنا، فانظر مَنْ مِنَ إخوانك يحتل منصبًا أرفع منه أو حتى منصبًا يوازيه في مجال آخر لكنه يملك له قضاء مصلحة ما فأحِلْه عليه... وهكذا في كل أمر.
وربما صَلُحَ أمر الإحالة الذهنية على جماد أو حيوان ما؛ كما فعل القرآن مع المتفاخرين بالقوة والجبروت: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37]، فالأرض أصلب منك والجبال أطول منك! ولك أن تحيل المعتد بقوته وضخامة جسده إحالة ذهنية على الفيل الذي هو أقوى وأضخم، ويحال المعتد بالشجاعة على الأسد، والمعتد بالزينة على الطاووس...
وقد كان من دأب الأنبياء -عليهم السلام- أن يحيلوا على ربهم فيما لا يستطيعون المجاراة فيه؛ فحين اعتدت عاد بقوتها وقالت: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) قيل لهم: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت: 15]، فأحيلوا على قوة الله القوي العزيز، وعندما (قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود: 32]، أحالهم نوح -عليه السلام- على ربه قائلًا: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [هود: 33]...
ثالثًا: إن أعظم ما يعين على تطبيق هذه الاستراتيجية التي بين أيدينا أن تكون أنت -أيها الخطيب التقي- أكثر الجميع إيمانًا بالله -تعالى- وخوفًا منه ووقوفًا عند حدوده، فإن كنتَ كذلك فإنك -بلا شك- ستصبح أكثرهم شجاعة في المخاوف وثباتًا في الزعازع وبصيرة في الملمات ورجاحة رأي في الأحداث الجسام... فإذا ثبت حين يتزعزع الشيوخ الموقرون فقد غلبتهم في الحكمة وهم أهلها، وإذا هُديت -بفضل إيمانك وبصيرتك- إلى الرأي السديد في الملمات فقد غلبت وتفوقت على الخبراء السياسيين... وبذا تكون قد تفوقت على الجميع في مجالاتهم.
رابعًا: نحن في زمان العلوم والفنون، فتستطيع أن تطبق استراتيجيتنا هذه "اغلبه في مجاله"؛ بتفوقك العلمي والثقافي على جميع جمهورك؟ أقصد: أن تمتلك من المعلومات العامة والثقافة المتنوعة؛ الجغرافية والطبية والسياسية... ما يُبهر سامعيك، فإن كنت في مجتمع ذا مستوى تعليمي متميز فجهز -مع خطبتك الشرعية- معلومات طبية وأخرى هندسية وأخرى إحصائية... مما يتعلق بموضوع خطبتك.
***
والآن أعلم أنك ستقول: إن هذا يحتاج مجهودًا عظيمًا! ومهما حاولت فلن أتفوق على طبيب في طبه ولا على مهندس في هندسته ولا على أحد في مجاله وتخصصه! وأقول: صدقت، ولكن غاب عنك أن الناس تنظر إليك على أنك "رجل دين"؛ ذا ثقافة شرعية وفقط! فصدقني سيبهرهم منك القليل، وسيتعجب الأطباء من متابعتك -مثلًا- لمؤتمر طبي فاتهم هم، وسيبهر الجيولوجيين قراءتُك لبحث جغرافي لم يقع تحت أيديهم، وسيخلب لب أرباب الصناعات سردك لمعلومات تقنية كانوا يتصورون ألا معرفة "لرجال الدين" بها، وسيأسر التربويين أن تطرح أسلوبًا تربويًا جديدًا لم يلتفتوا هم إليه يومًا... اصنع هذا بلا تكلف ولا مبالغة ودون دخول فيما لا تحسن.
وعلى أسوأ الأحوال فإن لم تُبهر، فسوف تنفي عن نفسك تهمة الجهل بالعلوم والثقافات والفنون الحديثة، فتجتث من قلوب جمهورك تعاليهم عليك بها... ولا تنسى أن مثل تلك المعلومات مبثوثة في القرآن والسنة، وهي نقطة تفوق لك؛ فإن أتيت بمعلومة تقنية معروفة واستدللت عليها بدليل جديد من الوحيين، كان هذا كفيلًا بإثبات تفوقك عليهم وحيازتك قصب السبق فوقهم، وسيشعرون أنهم قد استفادوا منك في مجال تخصصهم.
وشبيه بأسلوب (إغلبه في مجاله) أسلوب آخر هو: (أره تميزك في مجالك)، فمهما كان المخاطَب لا يحسن مجالك ولا يفهم فيه، لكنه سيشعر بذلك حتمًا، وحين يدرك أنك متميز في مجال خطابتك ودعوتك وفي مجال العلم الشرعي، فإنه سيتأثر بكلامك... ولقد سمعنا عشرات الخطباء يتكلمون عن الظلم -مثلًا- فما تأثرنا بأحد كما تأثرنا بكلام الشيخ عبد الحميد كشك حوله؛ ذلك لأنه -بجانب أسباب أخرى- متميز في مجاله، ولا أبالغ حين أقول: لربما هي نفس الكلمات بنفس النبرات مع نفس الحماسة قد سمعناها من غيره، لكنها لم تؤثر من خطيب كما تؤثر من الشيخ كشك؛ "المتميز في مجاله".
فقط حاول، واعتبر هذا جهادًا واعتبره تحديًا، وهو حقًا جهاد أمثالنا من الخطباء.
(([1] تفسير الخازن (1/192)، بتصرف بسيط، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ.
(([2] تفسير الخازن (3/325)، بتصرف بسيط.
(([3] الاعتقاد للبيهقي (268)، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة: الأولى، 1401.
(([4] تفسير القرطبي (13/184)، بتصرف بسيط، الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.
(([5] تفسير ابن كثير (6/194)، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م.
(([6] انظر: تفسير ابن كثير (6/195)، وتفسير النسفي (2/609-610)، الناشر: دار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1998 م، وغيرهما.
(([7] تفسير ابن كثير (6/195)، وتفسير ابن أبي حاتم (9/2895)، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة - 1419 هـ.
(([8] أبو داود (4078)، والترمذي (1784)، وحسنه الألباني (إرواء الغليل: 1503).
(([9] البيهقي في السنن الكبرى (19761)، وقال الألباني: «مرسل صحيح أخرجه البيهقى» (إرواء الغليل: 1503).
(([10] البخاري (2820)، ومسلم والسياق له (2307).
(([11] البخاري (3042)، ومسلم والسياق له (1776).
(([12] هي قصيدة مشهورة للحطيئة ومطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل *** ببيداء لم تعرف لساكنها رسما
وفيها:
فقال ابنه لمّا رآه بحيرة *** أيا أبتى اذبحني ويسّر له طعما
ولا تعتذر بالعدم علّ الذي طرى *** يظنّ لنا مالا فيوسعنا ذمّا
فروى قليلاً ثمّ أحجم برهةً *** وإن هو لم يذبح فتاه لقد هما