سلسلة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (3)
قاسم الهاشمي
الخطبة رقم (3).
الحمد لله العلي العظيم، مَالِكَ الْمُلْكِ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَ يَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ وَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
خلق فأبدع، وقدر فهدى، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، نحمده ونشكره، وهو المستحق لأن يُحمد ويشكر على كل ما حكم وأمضى. والصلاة والسلام على صفوة خلقه البشير النذير النبي الأمين، الذي أرسله الله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين قاموا بالحق وبه كانوا يعدلون.
اتقوا الله تعالى – أيها المؤمنون - بامتثال أوامره، والانتهاء عما نهاكم عنه، واعلموا أن طاعته هي تقواه، وهي الخلاص من كل بلية، والدليل على كل فضيلة ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).
تكلمنا في الخطبة الماضية عن شيء من حياة النبي ﷺ قبل مبعثه، وتكلمنا كيف بُعث النبي ﷺ وأُوحي إليه، ثم تكلمنا عن دعوته ﷺ، وأمر الله له بالجهر بالدعوة في قوله تعالى ( وأنذر عشيرتك الأقربين ).
ثم بعدها جهر النبي بدعوته فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :( لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا فجعل ينادي : " يا بني فهر ! يا بني عدي ! " لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : نعم ؟ ما جربنا عليك إلا صدقاً ، قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ ! فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب ).
وهذه سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فأعداء الحق ودعوة الحق كثيرون على مر العصور، ولم يكن ولن يكون طريق الدعوة سهلاً يسيرًا مفروشًا بالرياحين والورود، بل هو شاق طويل (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ثم اتخذ رسول الله دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا مركزًا للدعوة، ولاجتماع أهل الإيمان يعلمهم ويهديهم وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم.
واستمر عداء كفار قريش للنبي وتفننوا في إيذائه ومن آمن به، ذكر ابن إسحاق أن جيرانه عليه السلام كان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، فاتخذ حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى، وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأذى بعود، فيقف به على بابه ويقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق.
وأخذ كفار قريش يهددون أبا طالب ويطالبونه بإيقاف ابن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وفكروا في قتله.
أتى عتيبه بن أبي لهب يومًا للنبي وقال: أنا أكفر بـ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ [النجم: 1] وبالذي دَنَا فَتَدَلَّىٰ [النجم: 8] ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه، فدعا عليه النبي وقال: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)) فخرج عتيبة في نفر من قريش إلى الشام في مكان يقال له الزرقاء فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ. فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ بأرسه فذبحه.
وأخذ أبو جهل الأمان من قريش في أن يقتله، فأصبح ومعه حجر لا يقوى على حمله، حتى إذا سجد رسول الله احتمله أبو جهل فما هو إلا أن دنا منه رجع مهزومًا منتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه فقالت قريش: مالك يا أبا الحكم؟ قال: لما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ أن يأكلني.
يسير وتصحبه دائماً جيوش من الركب لا تحسب
ثم استمر أذى قريش للنبي حتى قرروا محاصرته عليه الصلاة والسلام ومن تبعه في شعب أبي طالب، وقرروا أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا تأخذهم بهم رأفة، وتحالفوا على هذا القرار، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله ﷺ، فشلت يده، وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب إلا أبا لهب، وقطعت عنهم الميرة والمادة، ومُنع التجار من مبايعتهم، فجُهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود، وواصلوا الضر والفاقة حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعاً، ولم يكن يصل إليهم شيء إلا سراً، وكان رسول الله على رغم كل ذلك مستمراً في دعوته إلى الله، ولا سيما أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كلّ صوب، فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعرض نفسه في الموقف، فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)).
واستمر الحصار في الشعب ثلاث سنوات حتى أنهاه بعض عقلاء قريش، فوجدوا أن الصحيفة التي كتبوها قد أكلتها الأرضة إلا "باسمك اللهم"، كما أخبرهم قبل ذلك رسول الله .
وبعد وفاة أبي طالب عمّ الرسول وزوجته خديجه عظم الخطب على رسول الله ، واغتم وحزن الرسول ، فخرج إلى الطائف يطلب النصرة والمنعة ماشياً على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة، فدعا أشرافهم ورؤساءهم إلى الإسلام، فردوا عليه ذلك، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما تهيأ للخروج بعد عشرة أيام وقفوا له صفين وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه ، وحتى اختضب نعلاه بالدم، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه ويدافع عنه، فأصابه شجاج في رأسه، واستمر هذا الأذى برسول الله حتى وصل إلى حائط في ضواحي الطائف، فدخل به واحتمى منهم، وقد أثر في نفسه ما لاقاه منهم فقال يدعو ربه: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك))، ثم خرج رسول الله من الحائط وتقدم إلى مكة وهو حزين مهموم، حتى إذا بلغ قرن المنازل أظلته سحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال، فرفع رأسه فناداه جبريل: إن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت ثم سلم ملك الجبال، وقال: يا محمد، ذلك فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة، فقال : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)).
وأجمل منك لم تر قط عيني ***وأفضل منك لم تلد النساء
ثم قدم عليه الصلاة والسلام مكة ودخلها بجوار المطعم بن عدي حماية له من أهل مكة، ثم أسري بعد ذلك بالنبي ، فزاد أذى المشركين له ولأصحابه حتى أذن رسول الله لصحابته بالهجرة إلى المدينة هروباً من بطش المشركين وأذاهم، وتجرأت قريش بعد ذلك على فكرة قتل النبي ، فأردوا أن يأخذوا من كل قبيلة شاباً من أنشط شبابها، فيجتمعون حول بيت رسول الله ، فإذا خرج ضربوه بالسيف ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، وفداه عليt حينما نام مكان النبي ﷺ، وبينما هم يمكرون بالأذى والقتل لرسول الله ﷺ أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة قضاها في مكة مهبط الوحي بصنوف الأذى والعذاب، ولكن الله الذي أنزل هذه الرسالة حماها وتكفل بها، وهاجر رسول الله إلى المدينة حتى وصلها منصورا.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ.
ولنا أيها الأحبة هاهنا وقفة: فإن ما يصيب الأمة اليوم وإخواننا في حلب ما هو إلا امتداد من البلاء الذي أصاب الأنبياء من قبل وأصاب نبينا محمداً ﷺ وأصاب الأمة من قبلهم.(وليمحص الله الذين آمنوا).
ففي هذا الابتلاء التمحيص والنصر والتمكين لهذه الأمة فهذه سنة من سنن الله جل وعلا ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولَكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم لما وصل رسول الله ﷺ المدينة آمن به أهلها، واجتمع له في المدينة من هاجر إليها من مكة، ومن كان مقيماً بالمدينة من الأنصار.
ثم اشتغل عليه الصلاة والسلام بالدعوة وتعليم الناس واستقبال الوفود، والجهاد في سبيل الله، حتى أظهر الله له الأمر وأتم له الدين.
فكان من غزواته بدر، وأحد، والأحزاب، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، وتبوك، وغيرها من الغزوات التي بلغ عددها قرابة تسع عشرة غزوة، وبعض أهل السير ذكر عدداً أكثر من ذلك.
وفاح الطيب في المدينة من أخلاقه وشمائله عليه الصلاة والسلام وطيب ذكره فلعلنا أن نذكر شيئاً من شمائله في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون اعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ؛ شذ في النار وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جل من قائل عليما : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
أيها المؤمنون أكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا يا رب العالمين اللهم توفنا على ملته اللهم أحشرنا في زمرته اللهم اسقنا من حوضه اللهم أدخلنا في شفاعته اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ياحي ياقيوم وفق ولي أمرنا بتوفيقك يارب العالمين، اللهم ياقوي يا عزيز انصر إخواننا المرابطين على الحدود يارب العالمين.
اللهم رب السموات والأرضين وربنا ورب كل شيء ومليكه نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى فرجا من عندك لإخواننا المستضعفين في حلب وفي سائر الشام واليمن والعراق وفي كل بلد يذل فيه أهل دينك. اللهم فرج كربهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتول أمرهم، وأدر دوائر السوء على أعدائهم. اللهم الطف بعبادك المستضعفين المستضامين، وارفع البلاء عنهم، وأسبغ عليهم عافيتك.
اللهم عليك بالباطنيين والصليبيين ومن عاونهم على ظلمهم يا رب العالمين. اللهم اكسر شوكتهم، وشتت شملهم، وارفع أمنهم، وأعدهم إلى ذلهم وهوانهم، وانصر عبادك المؤمنين عليهم.
اللهم منزل الكتاب، منشئ السحاب، هازم الأحزاب اهزم الباطنيين والصليبيين، وانصر إخواننا عليهم، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ضعف الناصر إلا بك، وانقطع الرجاء إلا فيك، ولا حول لإخواننا المستضعفين ولا قوة لهم إلا بك، اللهم فثبتهم، واحقن دماءهم، وصن أعراضهم، وفك حصارهم، واشف جرحاهم، وخلص الأسرى منهم، وتقبل قتلاهم في الشهداء يا رب العالمين، واجعل مصاب المؤمنين في إخوانهم خيرا لهم في الدنيا والآخرة، إنك سميع قريب.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المرفقات
النبوية3-17-3-1438
النبوية3-17-3-1438