سلسلة خطب في التوحيد وما ينافيه - جزء 1 - توحيد الربوبية

ماجد بن سليمان الرسي
1446/01/12 - 2024/07/18 10:03AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا الله ولا تعصوه، واعلموا أن أعظم ما فرض الله على عباده أن يوحدوه بالعبادة ولا يشركوا به شيئا، قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).

وقد أرسل الله جميع الرسل برسالة التوحيد، قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون).

***

عباد الله، والتوحيد في اللغة هو مصدر وحَّـد الشيء، إذا جعله واحدًا.

وفي الشرع: إفراد الله تعالى بما اختص به من خصائص الربوبية والألوهية (العبودية) والأسماء والصفات.

وضد التوحيد الشِّرك.

والشرك لغة من المشاركة، وهو اشتراك اثنين في شيء ما.

وفي الشرع اتخاذ شريك مع الله في ربوبيته أو عبادته أو في أسمائه وصفاته.

***

أيها المؤمنون،  والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول توحيد الربوبية.

والثاني توحيد الألوهية (أي العبادة).

والثالث توحيد الأسماء والصفات.

وقد جمع الله بين أنواع التوحيد الثلاثة في آية واحدة من سورة مريم وهي قوله تعالى: ﴿رب السماوات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا﴾، فقوله: ﴿رب السماوات والأرض﴾ فيه إشارة إلى توحيد الربوبية، وقوله: ﴿فاعبده واصطبر لعبادته﴾ فيه إشارة إلى توحيد الألوهية (أي العبادة)، وقوله: ﴿هل تعلم له سميا﴾ فيه إشارة إلى توحيد الأسماء والصفات، والسَّمِيُّ هو الشبيه والمماثل.

***

بيان القسم الأول من التوحيد؛ توحيد الربوبية

عباد الله،  والرب في اللغة هو المالك الـمُتَصَرِّف، ويٌطلق على السَّـيد، ويُطلق على الصاحب، كقوله: (رب العزة، ورب هذه الدعوة التامة)، وكل ذلك صحيح في حقِّ الله تعالى.

وتوحيد الربوبية في الشرع هو اعتقاد تفرُّدِ الله تعالى وتوحُّـدِهِ بالخَلق والمُلك والتدبير.

فأما تفرُّدُه بصفة الخلق فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، وهذا مستفاد من قوله تعالى: ﴿هل مِن خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض﴾، ‏وقال: ﴿بديع السماوات والأرض‏﴾، وقال: ﴿الحمد لله فاطر السماوات والأرض﴾.

والعقل السليم والفطرة المستقيمة يدلان على أنَّ للعالم خالقًا واحدًا، فإنه لو كان للعالم خالقان لذهب كل إلـٰه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، كما قال تعالى: ﴿ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إلـٰه إذا لذهب كل إلـٰه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون﴾.

وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور ، حيث قال ﴿أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾، ‏ يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق ، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم ، فتعيَّـن أن يكون لهم خالق، وهو الله تبارك وتعالى.

ولهذا لما سمع جبير بن مُطعِم رضي الله عنه رسول الله r يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات ‏ ﴿‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون﴾ ، ‏ وكان جبير يومئذ مشركًا ؛ قال : ‏كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.[1]

وأمَّا إفراد الله بصفة الملك فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا يملك الكون ملكًا مطلقًا إلا الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾، وقال تعالى: ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾، وقال: ﴿ولله خزائن السماوات والأرض﴾.

أمَّا إفراد الله بصفة التدبير فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر لأمور هذا الكون من إحياء وإماتة، وخلق ورزق وصحة ومرض وفقر وغنى، وغير ذلك إلا الله وحده، فإذا أراد الله شيئًا قال له: (كُنْ) فيكون، قال تعالى: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾، وقال تعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾، وقال تعالى: ﴿ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه﴾، والآيات الدالة على هذا كثيرة.

***

عباد الله، ويمكن أن يُـعَـرَّف هذا النوع من التوحيد -أي توحيد الربوبية- بأنه توحيد لله بأفعاله، أي اعتقاد أنه لا يشارك الله أحد في أفعاله من خلق وملك وتدبير، فلا يحيي ولا يميت ولا يتصرف في الكون ولا يخلق ولا يرزق إلا الله.

***

أيها المسلمون، وضد توحيد الربوبية الشِّرك فيه، باعتقاد أن يكون أحد غير الله يتصف بشيء من صفات الربوبية، كالخَلق والمُلك والتدبير، أيًّا كان ذلك الموصوف، نبيٌّ أو رجلٌ صالحٌ أو وليٌّ أو مَلِك أو ساحر أو غيره، ومن وقع في هذا فقد أشرك بالله غيره في ربوبيته على خلقه، نعوذ بالله من الضلال.

***

أيها المؤمنون، وهذا النوع من التوحيد -أي توحيد الربوبية- قد أقر به الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، في القديم والحديث، ولم ينكره أحد من العالمين، فلم يقل أحد: إن للعالم خالقَين، أو للعالم مالِـكَين، أو للعالم مدبِّرين، بل الناس قاطبة يؤمنون بتفرد الله في ربوبيته لخلقه إلا نَــزْرًا قليلًا من الناس، مثل فرعون- لعنه الله- الذي قال لقومه: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾، والنمرود الذي قال لإبراهيم عليه السلام: ﴿أنا أحيي وأميت﴾، وكذلك قوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾، فنسبوا التأثير في الكون لغير الله.

وممن أنكر توحيد الله بربوبيته على خلقه المجوس، حيث قالوا: إن للعالم خالقَين وهما النور والظلمة.

وكذلك طائفة من عباد القبور الذين يعتقدون أن بيد بعض الموتى -ممن يدَّعون لهم الصلاح والولاية- شيئًا من التأثير في مُجريات الكون.

وكذلك بعض الغُلاة في الأشخاص، يصفون بعض رموزهم بأن لهم خصوصية تأثير في الكون، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

فهؤلاء الأنواع من الكفار قد ساووا الله بخلقه في صفة الربوبية، وحسبك بهذا كفرًا وطغيانًا.

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مما ينبغي التنبُّه له أن الإيمان بهذا النوع من التوحيد ليس كافيًا للدخول في الإسلام حتى يحصل الإيمان بالقسمين الآخرين من أقسام التوحيد، فقد كان المشركون الذين بعث إليهم النبي (عليه الصلاة والسلام) يؤمنون بهذا القسم من التوحيد، ويُقرون بأن الله هو وحده الخالق الرازق المدبر، ولكن هذا الإيمان لم ينفعهم، لأنهم لم يؤمنوا بتوحيد الألوهية (أي العبادة)، فقد كانوا يعبدون الأصنام والأشجار والصالحين وغيرها، فحكم الله عليهم في القرآن بأنهم كفار مشركون، وسيأتي مزيد كلام على هذا اللون من الانحراف في خطب تالية إن شاء الله.

***

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761

 



[1] رواه البخاري مفرقا ، (4853) ، (4023).

المرفقات

1721286172_سلسلة خطب في التوحيد وما ينافيه - جزء 1 - توحيد الربوبية.pdf

1721286232_سلسلة خطب في التوحيد وما ينافيه - جزء 1 - توحيد الربوبية.doc

المشاهدات 131 | التعليقات 0