سلسلة خطب الدار الآخرة (11) البعث والنشور
عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ الذي خلَقَ الخلْقَ ليعبدوهُ، وأسبغَ عليهم نِعمهُ ظاهرةً وباطنةً ليشكروهُ، وبيَّنَ لهم طريقَ الحقِّ والخيرِ ليسلكوهُ، وحذَّرهم طريقَ الشرِّ والضلالِ ليجتنبوهُ، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} ... وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} ... وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ ومصطفاهُ .. اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى واجتباهُ، وقربه إليه وأدْنــــاهَ، ورفعَ ذكرهُ وأعلاهُ، وآتاهُ الوسيلةَ والفضيلةَ والشفاعةَ وأرضاهُ، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبهِ ومن والاهُ، وسلَّم تسليمًا كثيراً لا حدَّ لمنتهاه ..
أمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ حقَّ التقوى، وقدموا أمرَ الآخرةِ على أمرِ الدنيا، فالرابحُ من خافَ مقامَ ربهِ ونهي النفسَ عن الهوى، والعاجِزُ من أتبعَ نفسَهُ هواها، وتمنَّى على الله الأماني، ومن كان لهُ من نفسِه واعِظٌ، كان لهُ من الله حافِظٌ، ومن أصلحَ أمرَ آخرتِهِ، صلُحَ لهُ أمرُ دُنياهُ، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}..
معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ الحاديةَ عشرةَ من سلسلة دروسِ الدارِ الآخرة، وكنَّا قد تحدثنا في الحلقة الماضيةِ عن قيام الساعةِ وأهوالها، وفي هذه الحلقة سنتحدثُ بعون اللهِ عن بداية يومِ القيامة, وعن بعثِ الناسِ من قبورهم، فما هو الفرقُ بين الساعةِ والقيامة .. الساعةُ هي آخرُ أيامِ الدنيا، وبدايةُ خرابها وفنائِها، بينما يومُ القيامةِ هو بدايةُ أحداثِ الدارِ الآخرة .. الساعةُ كما مرَّ معنا زِلزالٌ مروعٌ ودمارٌ هائل، وأمَّا يومُ القيامةِ فهدوءٌ وسكون، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} .. الساعةُ تقومُ على هذه الأرضُ وهذه السموات، بينما يكونُ يومُ القيامةِ على أرضٍ وسماءٍ مختلفةٍ سيأتي الحديثُ عنها، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .. الساعةُ تبدأُ بالنفخة الأولى: نفخةُ الصعقِ والموت، بينما يومُ القيامةِ يبدأُ بالنفخة الثانية: نفخةُ البعثِ والحياةِ، وبينهما كما جاء في الحديث أربعون .. الساعةُ تقومُ على آخر الأحياءِ فتُميتهم، ويومُ القيامةِ يقومُ على أمواتٍ يُبعثونَ من قبورهم ..
أحبتي الكرام: قضيةُ البعثِ والنُّشورِ هي أكثرُ القضايا جدلاً بين الأنبياءِ وأقوامِهم، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}، فهل يُعقلُ أن يعيشَ أناسٌ حياةً كُلها ظلمٌ وجبروتٌ وطغيان، ويعيشَ البعضُ الآخرُ حياةً كُلها برٌّ وخيرٌ وإحسان، ثم يموتُ الفريقانِ، وتنتهي قِصتُهم دونَ أن يُعاقبَ المسيءُ، أو يُكافئَ المحسِنُ، فأينَ الحكمةُ وأينَ العدل ..
تأملوا يا عباد الله، فكثيراً ما طالبَ القرآنُ البشرَ أن يُعمِلوا عُقولهم ويتفكروا في خلق السمواتِ والأرض، وفي خلق أنفسِهم، وكيفَ أحْكمَ اللهُ خلقهُ في أحسن تقويمٍ، ثمَّ إنَّ من تمامِ الخلقِ تمامُ الحِكمةِ، ومن تمامِ الحِكمةِ تمامُ العدلِ .. فحِكمةُ اللهِ تعالى تتنافي مع العبث، تأمَّل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}، لا شكَّ أنَّ عدلُ اللهِ المطلقِ يستوجِبُ حياةً أخرى، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، ولذا يقولُ تعالى عن يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} .. ولقد أقسمَ اللهُ جلَّ وعلا على بعثِ الناس ليوم الجزاءِ والحِساب، فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .. فكُفرُ المشركينَ وتكبُرهم على الحقِّ غطَّى على قلوبهم، وعلى سمعهم وابصارهم، تأمَّل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، ولذا فهم بعدَ فواتِ الأوانِ يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ..
واللافت للنظر يا عباد الله: أنَّ اللهَ تعالى كثيراً ما يضربُ مثلاً لإحياء الموتى وبعثهم في يوم القيامة، بإحياء الأرضِ بعد موتها في الدنيا، تأمَّل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}، وقال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، وتأمَّل كيفَ ربطَ اللهُ تعالى خَلقَ الانسانِ من ترابٍ، بالبعث والنَّشور، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}، فإذا كنَّا نرى في كلِّ وقتٍ, إحياءُ اللهِ للأرضِ بعدَ موتها, ولو مضى عليها مئاتُ السنين, فكذلك الإنسانُ المخلوقُ من ترابٍ, سيُحييهِ اللهُ بنفس الطريقة، تأمَّل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ..
وذكرنا سابقاً أنَّ اللهَ تعالى يُميتُ الخلائقَ كُلها في نفخةِ الصعقِ الأولى إلا من شاءَ سبحانه، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، وجاء في صحيح البخاري: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: "ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ"، قالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ، "ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ، كما يَنْبُتُ البَقْلُ" (أي الزرع) قالَ: "وليسَ مِنَ الإنْسانِ شيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ"، وفي صحيح مسلم: قالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ فِي الإِنْسَانِ عَظْمًا لاَ تَأْكُلُهُ الأَرْضُ أَبَدًا، مِنهُ يُرَكَّبُ الخلقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالُوا أَىُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "عَجْبُ الذَّنَبِ"، وعجْبُ الذنب عظمٌ دقيقٌ جداً في اسفل العُصص، ووظيفتهُ والله أعلم كالبذرة للنبات .. وورد في حديثٍ حسنهُ الامام الترمذي وضعفهُ الشيخُ الألباني: "ثم يُنْزِلُ الله تعالى: عليهم ماءً من تحت العرش، ثم يأمرُ اللهُ السماء أَنْ تُمطر، فتمطرُ أربعينَ يوماً حتَّى يكونَ الماءُ فوقهم اثني عشر ذراعاً، أي أنَّ هذا الماء يصلُ إلى كلِّ جُزءٍ من الأرض .. كما قال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدً}، ثمَّ يأمرُ اللهُ الأجسادَ أن تنبتَ فتنبتُ كالبقل .. ووردَ فيه ايضاً: "ثم يقبضُ اللهُ الأرواحَ جميعاً ثم يُلقيها في الصور، ثم يأمرُ اللهُ إسرافيلَ أَنْ ينفخَ نفخةَ البعثِ، فتخرجُ الأرواحُ كأَنَّها النَّحْلُ قد ملأت ما بين السماء والأرض, فيقولُ الله: وعزتي وجلالي ليرجِعنَّ كلُّ روحٍ إلى جسده، فتدخلُ الأرواحُ في الأرض إلى الأجسادِ فتدخلُ في الخياشِيم ثمَّ تمشي في الأجساد كما يمشي السُّمُّ في اللديغ، ثمَّ تنشقُّ الأرضُ عنهم، وأنا أولُ من تنشقُ الأرضُ عنه، فتخرجون سراعاً حفاةً عراةً غُرلاً إلى ربكم تنسلون"، قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} .. بارك الله لي ولكم ..
الحمد وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين ... أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر : 18] ..
معاشر المؤمنين الكرام: قد يسألُ سائلٌ فيقول: وأين تكونُ الأرواحُ بعد الموت، وخلاصةُ كلامِ الصحابةِ والتابعينَ أنَّ أرواحَ المؤمنينَ في عليين، وأنَّ أرواحَ المشركينَ في سجين, ووردت أخبارٌ مُتنوعةٌ توضحُ أنَّ أماكنَ الأرواحِ بحسبِ منزلةِ أصحابها، فأرواحُ الأنبياءِ في أعلى عليين، وأرواحُ الشهداءِ والمؤمنينَ في جوفِ طيرٍ خُضرٍ، تسرحُ من الجنة حيثُ شاءت، ومنهم من تُحبسُ روحهُ عند باب الجنة كالمديون .. وأرواحُ العُصاةِ تُعذبُ كما جاءَ في حديث تنور الزناة, ومن ينامُ عن الصلاة, ومن يأكل الربا عياذاً بالله .. وأرواحُ الكفارِ في سجين في الأرض السفلى ..
وأمَّا ما يتعلقُ بأرض المحشر، فيقولُ اللهُ جلَّ وعلا عنها: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}، مُدت: أي بُسطت وسويت كمدِّ الأديم، وألقت ما فيها: أي لفظت ما في جوفها من أجساد الموتى، وتخلَّت: أي خلا ما في جوفِها, فلم يبقَ فيه أحدٌ إلا خرجَ إلى سطحها .. وجاء في حديثٍ حسنٍ: قال ﷺ: "إذا كان يومُ القيامةِ مُدَّتِ الأرضُ مدَّ الأديمِ وزِيدَ في سِعتِها"، فالأرضُ إذن ستُمدُّ مداً عظيماً، وتصيرُ مُستويةً ملساءَ صلبة، لا ارتفاعَ فيها ولا انخفاض، وذلك لكي تسعَ جميعَ المخلوقات من جنٍ وأنسٍ وحيوان .. جاء في صحيح البخاري: قال ﷺ: "إنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ يَومَ القِيَامَةِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، فيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ويُنْفِذُهُمُ البَصَرُ"، الكل سواسيةٌ لا تمايزَ بينهم، إذ لم يبقَ معهم من متاع الدنيا شيء، ولا حتى ما يسترُ به جسَدُهُ العاري, لا مالَ ولا منصبَ, ولا جاهَ ولا قرابةَ ولا نسبَ، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ... وحين يبدأ البشرُ بالخروج من باطن الأرضِ يُبهتونَ بما يرون، ويتفاجؤونَ ويتحيرون، فالأرضُ غيرُ الأرض, والحالُ غيرُ الحال، وأولُ ما يقولهُ الكفارُ حين يتبينونَ الحقيقة، قولهم: يا ويلنا .. تأمل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}، أي يتحيرون .. وأما المؤمنون فيثبتهم الله، قال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .. وحينما تذهبُ روعةُ الموقف، يتذكرُ كُلُّ أنسانٍ من هو، وما هي الحالُ التي كانَ عليها من قبل، قال تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى}، وفي هذه اللحظاتِ الحاسمة، تتضاءلُ تلك الحياةُ التي عاشها الانسان, فلا تساوي أكثرَ من ساعةٍ من الزمن، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ..
تخيلوا يا عباد الله: رجلاً يعيشُ في قمة النعيمِ والترف، وحينَ ركبَ طائرتهُ مُسافراً، سقطت به في صحراءٍ قاحلة، حيثُ لا ماَء ولا طعامَ ولا ظل، فلو استمرَ فيها يوماً أو يومينِ فسيبلغُ به العطشُ مبلغاً عظيماً، حتى يرى أنَّ كلَّ ما عاشهُ من نعيمٍ وترفٍ كالوهم والسراب، لا يتجاوزُ ساعةً من نهار .. فإذا جازَ هذا في أحوال الدنيا، فكيف بأهوال يومِ القيامة ..
فاتقوا الله عباد الله: فالبعثُ والنشورُ حقيقةٌ مُطلقةٌ ثاتبة، تدلُ على قُدرة الخالقِ جلَّ وعلا .. وأنَّ بعدَ الحياةِ موتاً، وبعدَ الموتِ بعثٌ وحياة، فلا بدَّ أن نستعِدَّ لذلك البعثِ وتلك الحياة، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صل على محمد ..
عبدالله محمد الطوالة
لمتابعة الحلقات السابقة من السلسلة
اضعط هنا
تعديل التعليق