سلسلة السبعة (إمامٌ عادل)
أمير محمد محمد المدري
1438/05/30 - 2017/02/27 16:59PM
إمامٌ عادل
الحمد لله الذي سهّل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضح لهم طرق الهداية واتخذهم عبيداً له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولا.
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشهد بها مع الشاهدين، وأدخرها عند الله عُدةً ليوم الدين واشهد أن الحلال ما حلّله والحرام ما حرّمه والدين ما شرعه، وان الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور.
واشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، أرسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحُجة على العباد أجمعين.
فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاةً دائمةً بدوام السموات والارضين.
وبعد عباد الله:
سنقف وإياكم مع زهرة نقطفها من بستان المصطفى صلى الله عليه وسلم، زهرة نعيش في ظلالها ونقتبس من نورها ونستنشق عبيرها.
سنعيش في هذه الدقائق مع حديثٍ مبارك نتأمل معانيه، إنه الحديث الذي أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [متفق عليه].
سبعة وعدد السبعة محبوب في الإسلام، ومبارك فأيام الأسبوع سبعة، والطواف سبعة أشواط والسعي سبعة، ورمي الجمار سبع، والسماوات سبع والارضين سبع، وسبعةٌ يظلهم الله، وإذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب وكثير ما يعلق الشارع بعدد سبعة، لأنه وتر والله يحب الوتر، واختار الله q ورسوله عليه الصلاة والسلام هذا العدد.
وهؤلاء السبعة - كما يقول أهل العلم- هم سبعة أصناف وليسوا سبعة أفراد؛ لأنهم لو كانوا سبعة أفراد، فإذا اكتملوا حُرِم البقية من الأمم ومن الألوف المؤلفة هذا الفضل، ولكنهم سبعة أصناف.. يأتي في صنف الإمام العادل آلاف، فكل من عدل في رعيته، سواء كان أمير عامة، أو أمير خاصة، وحتى لو كان في بيته، حتى يقول ابن تيميه في فتاويه: من عدل بين طالبين فهو إمام عادل. فإذا صحح الأستاذ لطالبين فعدل بينهما؛ فهو من هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإن خان حرم وكان ممن جار في الحكم عند الله ـ.
إذاً: فهؤلاء السبعة أصناف وليسوا بأفراد، فالإمام العادل يأتي منه آلاف مؤلفة، والشاب الذي نشأ في عبادة الله وتربى على الإيمان والقرآن والهدى والصلاح يأتي منه آلاف مؤلفة، وكذلك الرجلان اللذان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يأتي منهم ألوف مؤلفة.
والذي ينبغي على المؤمن أن يحرص كل الحرص أن تكون فيه صفة من هذه الصفات إذا لم تكن فيه صفتان أو ثلاث، وهي سهلة ويسيره على من يسرها الله عليه،
عبد الله:
قد تقوم من مجلسك يا عبد الله هذا فتتصدق بصدقة تخفيها حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك فتكون من السبعة، أو تنـزوي في زاوية فتذكر الله وتتباكى، وتنزل دمعات خاشعة من خشية الله فتكون من السبعة، وغيرها من الصفات.
ولذلك يقولون: إن عمر بن عبد العزيز ا وأرضاه الخليفة الأموي الذي يعتبر من الخلفاء الراشدين، اجتمعت فيه صفات، منها: أنه نشأ في عبادة الله، ومنها: أنه إمام عادل، ومنها: أن قلبه مُعلّق بالمساجد، ثم قالوا: ولا يبعد أنه ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ولا يبعد كذلك أنه أحب قوماً في الله، اجتمع معهم في محبة الله وفارقهم على محبة الله... إلى غير تلك الصفات.
سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فلا ظل يوم القيامة ويوم العرض إلا ظل الله، ولا فيء إلا فيئه تعالى، ولا كنف إلا كنفه، فإنه لا يوجد هناك مظلة، ولا شجر، ولا ظلال، ولا شيء يقي من حر الشمس التي تدنو من الرؤوس.
عبد الله.. اليومُ يومُ القيامة.. ذلك اليوم الرهيب، الذي تبدلت فيه الأرضُ غيرَ الأرض والسمواتُ.. يوم الصاخة يوم الحاقة يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، الحر شديد، والزحام كثير.. ودنت الشمس من الرؤوس، واختلط البشرُ بالوحوش، والجميع يبحث عن مخرج لشدة هول الموقف، فما أحوجهم إلى شيء من ظل يخفف عنهم عناء ما هم فيه..
في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
كلٌ بحسب عمله يا سبحان الله أناس في ذلك الموقف تتقطع حلوقهم من العطش وأناس يشربون من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذا ما تجزون ما كنتم تعملون.
وفى هذه الأثناء وقفت فئة قليلة من الناس في ظل الله ـ.. هؤلاء الذين اصطفاهم الله q بما قدّموا من صالح العمل في حياتهم الدنيا، وبما اتصفوا به من جميل الخلال.. يا الله اجعلنا منهم.
أول هذه الأصناف السبعة: إمامٌ عادل، إمام خاف الله في رعيته وعدل فيهم، وكان بهم رحيماً شفيقا، وأخذ بحق المظلوم من الظالم، كما كان يفعل رجال الأمة الأوائل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خُطبة خلافته والتي أوردها ابن كثير في البداية والنهاية، يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد:: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يُشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». هذه هي كلمات الإمام العادل أبي بكر الصديق وأرضاه.
والإمام العادل - إخوة الإيمان - ليس المقصود منه الحاكم فقط، بل هو كل من يلي أمراً يكون فيه حَكَما أو رئيساً، يقول بعض أهل العلم: «إن الإمام في هذا الحديث هو كل من وكِّل إليه في شيء من أمور المسلمين».
والإمام العادل يكون في البيت، وفي المدرسة، وفي الدائرة، وفي الأمة، وفي أي مكان، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته».
والعدالة هي الإنصاف، ويتحقق الإنصاف بإعطاء كل ذي حق حقه، من غير تفرقة بين شخص وشخص، ومحاسبة المسيء والمقصر على قدر إساءته وتقصيره من غير إعنات ولا محاباة.
الإمام العادل هو الذي جمع الأمرين العدالة في نفسه، والعدل في حكمه فهو الذي تبع أمر الله، فيضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
أيها المسلمون: إن الإمام العادل هو زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوته أُم الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في أرضه وظله الممدود على عباده، به ينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم، ويؤمن خائفهم.
والإمام إذا سلم من الظلم لا يزاحمه أحد في فضيلته، وتعلو مرتبته مرتبة قوّام الليل وصوّام النهار، لانّ نفع هؤلاء لا يتعداهم ونفعه يتعدى، إذ بعدله يتعبد المتعبدون، ويسافر المتاجرون، ويشتغل بالعمل المتعلمون فكأنه عبد الله بعبادة الكل.
ولذلك يقول سفيان الثوري رحمه الله: «صنفان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: السلطان والعلماء».
إذا عُلِم هذا فأعدل الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعدل من خلق الله، وهو الذي حكم على نفسه قبل أن يحكم عليه غيره عليه الصلاة والسلام، وأنصف من نفسه، بل كان في آخر أيامه يقف على المنبر ويقول للناس: « يا أيها الناس! اللهم من سببته أو شتمته أو ضربته، اللهم اجعلها كفارة له، ثم قال: يا أيها الناس! من سببته أو شتمته أو ضربته، أو أخذت شيئاً من ماله، فليقتص مني اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، هذا عرضي فاقتصوا منه»، فتراد المسجد بالبكاء في عهده عليه الصلاة والسلام.
قال علي رضي الله عنه: «حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا».
ومن ولي أمر عشرة فما فوقهم جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه حتى يطلقه عدله أو يوبقه جوره، هكذا ورد الخبر عن سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا» [رواه مسلم] وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قالوا يا رسول الله: أفلا ننابذهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» [رواه مسلم].
ومن عدل الإمام عدم اتخاذه للحجاب الأشرار الذين لا يمكّنون الناس من الدخول على ولاة أمرهم ولا يرفعون حاجاتهم إليهم، البطانة التي تمنع الخلق عن ولي أمرهم، البطانة التي تُغير الحقائق عند ولي الأمر فالصادق كاذب والكاذب صادق ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب عنهم دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته يوم القيامة» [أبو داود والترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من إمام أو والٍ يُغلق بابه دون حاجة الناس وخُلتهم إلا احتجب الله دون خلته وحاجته ومسكنته» [أخرجه أحمد 4/231 (18196)].
أما إذا كثر الخصوم وازدحموا على الحاكم أو دخلوا عليه بغير إذنه فلا بأس بردهم وإغلاق الباب لترتيب الدخول مع اتخاذ الحصانة التي تكفل أمن المجتمع بإذن الله.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
كل من ولاّه الله أمراً من أمور هذه الأمة فليتق الله وليعدل؛ إن كان مديراً في مدرسة، أو مسئولاً في الحكومة، أو موظفاً أو رائداً في بيته، أو مسئولاً وأميراً في سفر، أو إماماً عاماً أو قاضياً؛ فليعلم أنه يأتي يوم القيامة إما عادلاً يظله الله في ظله أو جائراً يتلفه الله q. وكل ممن ولي من أمر المسلمين شيئاً في إدارة أو مؤسسة أو عمل صغير أو كبير فشق عليهم أو رفق بهم ليعلم كل مسلم خطورة أمور تهاون بها الناس اليوم ولم يعلموا عظم الأمانة التي حملوها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به» [مسلم].
هكذا أيها المسلمون: من رفق بمن تولى بهم قليلا كانوا أو كثيراً دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ومن شق على من تولى عليهم دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:، ما أحوجنا جميعا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه.
الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يُعلِّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يأخذ الحق له.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري رحمه الله، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: «اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كُرهاً، ووضعته كُرهاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده.
والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويُريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن، يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله....
واعلم، يا أمير المؤمنين، أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش؛ فكيف إذا أتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياةً لعباده؛ فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟!
واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر.
واعلم، يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدًا وحيدًا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
واذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بُعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهَل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.
لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. »
وقال بعض الحكماء: إمامٌ عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خيرٌ من فتنة تدوم.
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
أيها المسلمون: لقد بلغ أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، ولم يكن ذلك مجرد وصايا، ولا مُثُل عليا لا تتحقق، ولكنها كانت واقعا من واقع حياتهم اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم يعرف ذلك المستوى إلا في تلك الحقبة المنيرة.
والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة، فمن تلك النماذج الرائعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعًا كانت عزيزة عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح.. وعلي يومئذ هو الخليفة أمير المؤمنين فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: «الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب».
فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعباً: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب [يريد أن يمسك العصا من منتصفها] فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين، هل من بينة؟! إنه هكذا العدل! البينة على من ادعى.. وهذه دعوى إلى القضاء لابد فيها من البينة.. وإن تكن مرفوعة من علي ا، الذي لم يعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض! ولكن جواب علي ا كان أروع! قال رضي الله عنه: «صدق شريح! مالي بينة! » هكذا في بساطة المؤمن المتجرد.. مالي بينة!! لم يغضب! لم يقل للقاضي كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟ وكان موقف شريح موقفا رائعاً كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين!! وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لا يكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا لله!! أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها.. فيقول علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك!!
ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ودفع له ثمنه ثم ركب فرسه ومضى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلا حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري فانثنى به عائداً من حيث انطلق وقال للرجل: خذ فرسك فإنه معطوب! فقال الرجل: لا أخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته منك سليماً صحيحاً.
فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك حَكًما، فقال الرجل: يحكم بيننا شريح الكندي، فقال عمر رضي الله عنه: رضيت، فاحتكم عمر أمير المؤمنين وصاحب الفرس إلى شريح فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليماً يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعم، فقال شريح احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رُد كما أخذت! ماذا كان موقف عمر عند ذلك هل زمجر في وجهه وقال كيف تحكم على أمير المؤمنين أو شيئا من هذا القبيل؟! كلا ولكن قال: وهل القضاء إلا هكذا؟! قولٌ فصل، وحُكمٌ عدل. [صور من حياة التابعين ص34 بتصرف]
كان أمير مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وله ابن اسمه محمد سابق مصرياً فسبقه المصري، وأحياناً بعض الخيول تسبق خيول ولاة الأمور, فسبق هذا, فقال محمد بن عمرو: خيلك يسبق خيلي! أتسبقني وأنا ابن الأكرمين! ثم ضربه، فذهب المصري يشتكي إلى عمر رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال عمر: عليَّ به وبأبيه، ليؤدب الأب، لأنه لو كان مؤدباً - في نظره- لأدب ابنه واستدعاه والمصري واقف, والصحابة جلوس.
قال: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد, ثم أخذهم فبطحهم أرضاً, وأخذ الدرة التي تخرج الشياطين - دائماً- من الرؤوس، وهذه الدرة رقية الرحمن، التي يؤدَّب بها، فضرب عمرو بن العاص وابنه ضرباً مبرحاً.
وقال: « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً »، متى كانت هذه الجمركة على عقول الناس؟
متى كان هذا الضرب على وجوه المسلمين الساجدين الراكعين؟
من أعطاكم هذه الرخصة؟
إن هذا حرام، فأدبهم فعادوا إلى رشدهم رضي الله عنهم أجمعين.
فهذه صورة رائعة من صور العدل التي مثّلها عمر رضي الله عنه وأرضاه للأمة،
والله q يقول لداود عليه السلام: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ص: 26].
قال ابن كثير: « هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.
وينادي الله تعالى على المؤمنين بضرورة تطبيق العدل فقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، كونوا قائمين بالعدل، مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى، ولو كانت على أنفسكم، أو على آبائكم وأمهاتكم، أو على أقاربكم، مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل، وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها، أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها، فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم، وسيجازيكم بها.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لا تستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يبكي في ليلة من الليالي وتبكي زوجته لبكائه وتسأله في اليوم التالي ما يبكيك؟ فقال توليت أمر المسلمين ومررت على قول الله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) [الصافات: 24].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به و يقف على رأسه ويقول:
يا عمر الخير جُزيت الجنة.. اكْسُ بناتي وأمهن.. وكُن لنا في ذا الزمان جنة.. أُقسم بالله لتفعلن..
قال وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفصٍ لأمضين..
قال وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال: والله عنهن لتسألن.. يوم تكون الأُعطيات مِنة.. وموقف المسئول بينهن.. إما إلى نارٍ وإما إلى جنة.
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته ا وأرضاه ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع ردائه وقال: «خذ هذا ليومٍ تكون الأُعطيات منة وموقف المسئول بينهن إما إلى نارٍ وإما جنة»، هكذا تكون مراقبة الله q وهكذا تكون تقوى الله q.
كيف يحقق الإمام العدل في المجتمع:
أولاً: حين يكون الرسول قدوته وأسوته.
ثانياً: حين يقيم حدود الله ولا يجامل أحداً في إقامتها، فإقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة.
ثالثاً: لا يُفرّق بين أحد في تطبيق العدل: ينبغي أن يكون شعارنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما شفع حِبه أسامة بن زيد رضي الله عنه في المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها حيث قال: «أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ولم يقيموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: على الإمام أن يضع كل شي في موضعه اللائق به.
خامسا: على الإمام أن يتفقد أحوال رعيته فالله سائله عما استرعاه.
وهنيئًا للإمام يوم يكون عادلا فثلاثة لا ترد دعوتهم، كما روى أحمد والترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا » [رواه مسلم].
وروى مسلم كذلك عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال».
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
الحمد لله الذي سهّل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضح لهم طرق الهداية واتخذهم عبيداً له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولا.
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشهد بها مع الشاهدين، وأدخرها عند الله عُدةً ليوم الدين واشهد أن الحلال ما حلّله والحرام ما حرّمه والدين ما شرعه، وان الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور.
واشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، أرسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحُجة على العباد أجمعين.
فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاةً دائمةً بدوام السموات والارضين.
وبعد عباد الله:
سنقف وإياكم مع زهرة نقطفها من بستان المصطفى صلى الله عليه وسلم، زهرة نعيش في ظلالها ونقتبس من نورها ونستنشق عبيرها.
سنعيش في هذه الدقائق مع حديثٍ مبارك نتأمل معانيه، إنه الحديث الذي أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [متفق عليه].
سبعة وعدد السبعة محبوب في الإسلام، ومبارك فأيام الأسبوع سبعة، والطواف سبعة أشواط والسعي سبعة، ورمي الجمار سبع، والسماوات سبع والارضين سبع، وسبعةٌ يظلهم الله، وإذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب وكثير ما يعلق الشارع بعدد سبعة، لأنه وتر والله يحب الوتر، واختار الله q ورسوله عليه الصلاة والسلام هذا العدد.
وهؤلاء السبعة - كما يقول أهل العلم- هم سبعة أصناف وليسوا سبعة أفراد؛ لأنهم لو كانوا سبعة أفراد، فإذا اكتملوا حُرِم البقية من الأمم ومن الألوف المؤلفة هذا الفضل، ولكنهم سبعة أصناف.. يأتي في صنف الإمام العادل آلاف، فكل من عدل في رعيته، سواء كان أمير عامة، أو أمير خاصة، وحتى لو كان في بيته، حتى يقول ابن تيميه في فتاويه: من عدل بين طالبين فهو إمام عادل. فإذا صحح الأستاذ لطالبين فعدل بينهما؛ فهو من هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإن خان حرم وكان ممن جار في الحكم عند الله ـ.
إذاً: فهؤلاء السبعة أصناف وليسوا بأفراد، فالإمام العادل يأتي منه آلاف مؤلفة، والشاب الذي نشأ في عبادة الله وتربى على الإيمان والقرآن والهدى والصلاح يأتي منه آلاف مؤلفة، وكذلك الرجلان اللذان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يأتي منهم ألوف مؤلفة.
والذي ينبغي على المؤمن أن يحرص كل الحرص أن تكون فيه صفة من هذه الصفات إذا لم تكن فيه صفتان أو ثلاث، وهي سهلة ويسيره على من يسرها الله عليه،
عبد الله:
قد تقوم من مجلسك يا عبد الله هذا فتتصدق بصدقة تخفيها حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك فتكون من السبعة، أو تنـزوي في زاوية فتذكر الله وتتباكى، وتنزل دمعات خاشعة من خشية الله فتكون من السبعة، وغيرها من الصفات.
ولذلك يقولون: إن عمر بن عبد العزيز ا وأرضاه الخليفة الأموي الذي يعتبر من الخلفاء الراشدين، اجتمعت فيه صفات، منها: أنه نشأ في عبادة الله، ومنها: أنه إمام عادل، ومنها: أن قلبه مُعلّق بالمساجد، ثم قالوا: ولا يبعد أنه ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ولا يبعد كذلك أنه أحب قوماً في الله، اجتمع معهم في محبة الله وفارقهم على محبة الله... إلى غير تلك الصفات.
سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فلا ظل يوم القيامة ويوم العرض إلا ظل الله، ولا فيء إلا فيئه تعالى، ولا كنف إلا كنفه، فإنه لا يوجد هناك مظلة، ولا شجر، ولا ظلال، ولا شيء يقي من حر الشمس التي تدنو من الرؤوس.
عبد الله.. اليومُ يومُ القيامة.. ذلك اليوم الرهيب، الذي تبدلت فيه الأرضُ غيرَ الأرض والسمواتُ.. يوم الصاخة يوم الحاقة يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، الحر شديد، والزحام كثير.. ودنت الشمس من الرؤوس، واختلط البشرُ بالوحوش، والجميع يبحث عن مخرج لشدة هول الموقف، فما أحوجهم إلى شيء من ظل يخفف عنهم عناء ما هم فيه..
في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
كلٌ بحسب عمله يا سبحان الله أناس في ذلك الموقف تتقطع حلوقهم من العطش وأناس يشربون من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذا ما تجزون ما كنتم تعملون.
وفى هذه الأثناء وقفت فئة قليلة من الناس في ظل الله ـ.. هؤلاء الذين اصطفاهم الله q بما قدّموا من صالح العمل في حياتهم الدنيا، وبما اتصفوا به من جميل الخلال.. يا الله اجعلنا منهم.
أول هذه الأصناف السبعة: إمامٌ عادل، إمام خاف الله في رعيته وعدل فيهم، وكان بهم رحيماً شفيقا، وأخذ بحق المظلوم من الظالم، كما كان يفعل رجال الأمة الأوائل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خُطبة خلافته والتي أوردها ابن كثير في البداية والنهاية، يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد:: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يُشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». هذه هي كلمات الإمام العادل أبي بكر الصديق وأرضاه.
والإمام العادل - إخوة الإيمان - ليس المقصود منه الحاكم فقط، بل هو كل من يلي أمراً يكون فيه حَكَما أو رئيساً، يقول بعض أهل العلم: «إن الإمام في هذا الحديث هو كل من وكِّل إليه في شيء من أمور المسلمين».
والإمام العادل يكون في البيت، وفي المدرسة، وفي الدائرة، وفي الأمة، وفي أي مكان، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته».
والعدالة هي الإنصاف، ويتحقق الإنصاف بإعطاء كل ذي حق حقه، من غير تفرقة بين شخص وشخص، ومحاسبة المسيء والمقصر على قدر إساءته وتقصيره من غير إعنات ولا محاباة.
الإمام العادل هو الذي جمع الأمرين العدالة في نفسه، والعدل في حكمه فهو الذي تبع أمر الله، فيضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
أيها المسلمون: إن الإمام العادل هو زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوته أُم الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في أرضه وظله الممدود على عباده، به ينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم، ويؤمن خائفهم.
والإمام إذا سلم من الظلم لا يزاحمه أحد في فضيلته، وتعلو مرتبته مرتبة قوّام الليل وصوّام النهار، لانّ نفع هؤلاء لا يتعداهم ونفعه يتعدى، إذ بعدله يتعبد المتعبدون، ويسافر المتاجرون، ويشتغل بالعمل المتعلمون فكأنه عبد الله بعبادة الكل.
ولذلك يقول سفيان الثوري رحمه الله: «صنفان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: السلطان والعلماء».
إذا عُلِم هذا فأعدل الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعدل من خلق الله، وهو الذي حكم على نفسه قبل أن يحكم عليه غيره عليه الصلاة والسلام، وأنصف من نفسه، بل كان في آخر أيامه يقف على المنبر ويقول للناس: « يا أيها الناس! اللهم من سببته أو شتمته أو ضربته، اللهم اجعلها كفارة له، ثم قال: يا أيها الناس! من سببته أو شتمته أو ضربته، أو أخذت شيئاً من ماله، فليقتص مني اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، هذا عرضي فاقتصوا منه»، فتراد المسجد بالبكاء في عهده عليه الصلاة والسلام.
قال علي رضي الله عنه: «حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا».
ومن ولي أمر عشرة فما فوقهم جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه حتى يطلقه عدله أو يوبقه جوره، هكذا ورد الخبر عن سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا» [رواه مسلم] وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قالوا يا رسول الله: أفلا ننابذهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» [رواه مسلم].
ومن عدل الإمام عدم اتخاذه للحجاب الأشرار الذين لا يمكّنون الناس من الدخول على ولاة أمرهم ولا يرفعون حاجاتهم إليهم، البطانة التي تمنع الخلق عن ولي أمرهم، البطانة التي تُغير الحقائق عند ولي الأمر فالصادق كاذب والكاذب صادق ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب عنهم دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته يوم القيامة» [أبو داود والترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من إمام أو والٍ يُغلق بابه دون حاجة الناس وخُلتهم إلا احتجب الله دون خلته وحاجته ومسكنته» [أخرجه أحمد 4/231 (18196)].
أما إذا كثر الخصوم وازدحموا على الحاكم أو دخلوا عليه بغير إذنه فلا بأس بردهم وإغلاق الباب لترتيب الدخول مع اتخاذ الحصانة التي تكفل أمن المجتمع بإذن الله.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
كل من ولاّه الله أمراً من أمور هذه الأمة فليتق الله وليعدل؛ إن كان مديراً في مدرسة، أو مسئولاً في الحكومة، أو موظفاً أو رائداً في بيته، أو مسئولاً وأميراً في سفر، أو إماماً عاماً أو قاضياً؛ فليعلم أنه يأتي يوم القيامة إما عادلاً يظله الله في ظله أو جائراً يتلفه الله q. وكل ممن ولي من أمر المسلمين شيئاً في إدارة أو مؤسسة أو عمل صغير أو كبير فشق عليهم أو رفق بهم ليعلم كل مسلم خطورة أمور تهاون بها الناس اليوم ولم يعلموا عظم الأمانة التي حملوها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به» [مسلم].
هكذا أيها المسلمون: من رفق بمن تولى بهم قليلا كانوا أو كثيراً دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ومن شق على من تولى عليهم دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:، ما أحوجنا جميعا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه.
الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يُعلِّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يأخذ الحق له.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري رحمه الله، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: «اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كُرهاً، ووضعته كُرهاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده.
والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويُريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن، يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله....
واعلم، يا أمير المؤمنين، أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش؛ فكيف إذا أتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياةً لعباده؛ فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟!
واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر.
واعلم، يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدًا وحيدًا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
واذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بُعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهَل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.
لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. »
وقال بعض الحكماء: إمامٌ عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خيرٌ من فتنة تدوم.
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
أيها المسلمون: لقد بلغ أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، ولم يكن ذلك مجرد وصايا، ولا مُثُل عليا لا تتحقق، ولكنها كانت واقعا من واقع حياتهم اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم يعرف ذلك المستوى إلا في تلك الحقبة المنيرة.
والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة، فمن تلك النماذج الرائعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعًا كانت عزيزة عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح.. وعلي يومئذ هو الخليفة أمير المؤمنين فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: «الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب».
فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعباً: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب [يريد أن يمسك العصا من منتصفها] فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين، هل من بينة؟! إنه هكذا العدل! البينة على من ادعى.. وهذه دعوى إلى القضاء لابد فيها من البينة.. وإن تكن مرفوعة من علي ا، الذي لم يعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض! ولكن جواب علي ا كان أروع! قال رضي الله عنه: «صدق شريح! مالي بينة! » هكذا في بساطة المؤمن المتجرد.. مالي بينة!! لم يغضب! لم يقل للقاضي كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟ وكان موقف شريح موقفا رائعاً كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين!! وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لا يكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا لله!! أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها.. فيقول علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك!!
ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ودفع له ثمنه ثم ركب فرسه ومضى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلا حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري فانثنى به عائداً من حيث انطلق وقال للرجل: خذ فرسك فإنه معطوب! فقال الرجل: لا أخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته منك سليماً صحيحاً.
فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك حَكًما، فقال الرجل: يحكم بيننا شريح الكندي، فقال عمر رضي الله عنه: رضيت، فاحتكم عمر أمير المؤمنين وصاحب الفرس إلى شريح فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليماً يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعم، فقال شريح احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رُد كما أخذت! ماذا كان موقف عمر عند ذلك هل زمجر في وجهه وقال كيف تحكم على أمير المؤمنين أو شيئا من هذا القبيل؟! كلا ولكن قال: وهل القضاء إلا هكذا؟! قولٌ فصل، وحُكمٌ عدل. [صور من حياة التابعين ص34 بتصرف]
كان أمير مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وله ابن اسمه محمد سابق مصرياً فسبقه المصري، وأحياناً بعض الخيول تسبق خيول ولاة الأمور, فسبق هذا, فقال محمد بن عمرو: خيلك يسبق خيلي! أتسبقني وأنا ابن الأكرمين! ثم ضربه، فذهب المصري يشتكي إلى عمر رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال عمر: عليَّ به وبأبيه، ليؤدب الأب، لأنه لو كان مؤدباً - في نظره- لأدب ابنه واستدعاه والمصري واقف, والصحابة جلوس.
قال: والله لا يحول بيني وبين عمرو وابنه أحد, ثم أخذهم فبطحهم أرضاً, وأخذ الدرة التي تخرج الشياطين - دائماً- من الرؤوس، وهذه الدرة رقية الرحمن، التي يؤدَّب بها، فضرب عمرو بن العاص وابنه ضرباً مبرحاً.
وقال: « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً »، متى كانت هذه الجمركة على عقول الناس؟
متى كان هذا الضرب على وجوه المسلمين الساجدين الراكعين؟
من أعطاكم هذه الرخصة؟
إن هذا حرام، فأدبهم فعادوا إلى رشدهم رضي الله عنهم أجمعين.
فهذه صورة رائعة من صور العدل التي مثّلها عمر رضي الله عنه وأرضاه للأمة،
والله q يقول لداود عليه السلام: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ص: 26].
قال ابن كثير: « هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.
وينادي الله تعالى على المؤمنين بضرورة تطبيق العدل فقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، كونوا قائمين بالعدل، مؤدين للشهادة لوجه الله تعالى، ولو كانت على أنفسكم، أو على آبائكم وأمهاتكم، أو على أقاربكم، مهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا; فإن الله تعالى أولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يحملنَّكم الهوى والتعصب على ترك العدل، وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها، أو تعرضوا عنها بترك أدائها أو بكتمانها، فإن الله تعالى كان عليمًا بدقائق أعمالكم، وسيجازيكم بها.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لا تستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يبكي في ليلة من الليالي وتبكي زوجته لبكائه وتسأله في اليوم التالي ما يبكيك؟ فقال توليت أمر المسلمين ومررت على قول الله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) [الصافات: 24].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به و يقف على رأسه ويقول:
يا عمر الخير جُزيت الجنة.. اكْسُ بناتي وأمهن.. وكُن لنا في ذا الزمان جنة.. أُقسم بالله لتفعلن..
قال وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفصٍ لأمضين..
قال وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال: والله عنهن لتسألن.. يوم تكون الأُعطيات مِنة.. وموقف المسئول بينهن.. إما إلى نارٍ وإما إلى جنة.
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته ا وأرضاه ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع ردائه وقال: «خذ هذا ليومٍ تكون الأُعطيات منة وموقف المسئول بينهن إما إلى نارٍ وإما جنة»، هكذا تكون مراقبة الله q وهكذا تكون تقوى الله q.
كيف يحقق الإمام العدل في المجتمع:
أولاً: حين يكون الرسول قدوته وأسوته.
ثانياً: حين يقيم حدود الله ولا يجامل أحداً في إقامتها، فإقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة.
ثالثاً: لا يُفرّق بين أحد في تطبيق العدل: ينبغي أن يكون شعارنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما شفع حِبه أسامة بن زيد رضي الله عنه في المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها حيث قال: «أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ولم يقيموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: على الإمام أن يضع كل شي في موضعه اللائق به.
خامسا: على الإمام أن يتفقد أحوال رعيته فالله سائله عما استرعاه.
وهنيئًا للإمام يوم يكون عادلا فثلاثة لا ترد دعوتهم، كما روى أحمد والترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا » [رواه مسلم].
وروى مسلم كذلك عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال».
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
المرفقات
إمامٌ عادل.doc
إمامٌ عادل.doc