﴿سَلَامٌ هِيَ﴾.

عاصم بن محمد الغامدي
1444/09/16 - 2023/04/07 06:17AM

الحمدُ للهِ الذي لا تُسْتفتَحُ الكتبُ إلا بحمدِه، ولا تُستمنَحُ النعمُ إلا بواسطةِ كَرَمِهِ ورِفْدِه، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأنبياءِ محمدٍ رسولِه وعبدِه، وعلى آلهِ الطيبينَ وأصحابِهِ الطَّاهرينَ مِنْ بعدِه، أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فالتقوى حياةُ القلوب، وبها تكون النجاة عند علامِ الغيوب، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.

أيها المسلمون:

يختصُّ اللهُ سبحانَه بالتشريفِ أزمنةً وأمكنةً، فمكةُ أمُّ القرى، وأشرفُ بقاعِ الأرضِ، ورمضانُ خيرُ الشهورِ، والجمعةُ أعظمُ أيامِ الأسبوعِ، والسَّحَرُ وقتُ استجابةِ الدعاءِ.

ومنَ الأوقاتِ التي عظَّمَها ربُّنَا تباركَ وتعالى، وفضّلها على سائرِ الأوقاتِ، الليلةُ التي أَنْزَلَ فيها القرآنَ، فَقدْ بيَّنَ مكانتَها في سورةٍ سمَّاها باسْمِها، بيانًا لِفَضْلِها، وتَجليةً لمكانِها، وحثًّا لعبادِه على الاهتمامِ بها، فقالَ جلَّ في علاه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ولابدَّ أنْ تعلَمَ وأنتَ تقرأُ في كتابِ اللهِ، أنَّ بينَ سُوَرِهِ وآياتِه ترابطًا عجيبًا مُعْجِزًا، فكلُّ سورةٍ وآيةٍ لها ارتباطٌ بما قبلَها وما بعدَها، وقولُه تعالى: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، عائدٌ على قولِه في سورةِ العلقِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، والتقديرُ إنَّا أنزلنَا القرآنَ الذي أُمِرتَ بقراءَتِهِ في ليلةِ القدرِ.

وفي هذهِ الآيةِ عِدَّةُ مُفَخِّمَاتٍ للقرآنِ، منْها أن المولى سبحانه أسندَ إنزالَ القرآنِ لنفسهِ الكريمةِ، وجعلَ ذلكَ في مظهرِ العظمةِ بقوله ﴿إِنَّا﴾، ومنْها تعظيمُ وقتِ إنزالِهِ بقوله: ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، أي: الليلةِ التي لَها قدرٌ عظيمٌ، وشرفٌ كبيرٌ، كما قالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، وبعدَ بيانِ هذهِ العظمةِ والشَّرفِ للقرآنِ، زادَ المولى وقتَ نزولِه تعظيمًا بقولِه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، وهذهِ كلمةٌ تقالُ في تفخيمِ الشيءِ وتعظيمِهِ، والمعْنَى: يَعْسُرُ على شيءٍ أنْ يُعَرِّفَكَ مقدارَ هذهِ الليلةِ.

ثمَّ بيَّنَ المولَى سبحانَه شيئًا من الإبهامِ التفخيميِّ الذي في قولِهِ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، فقال جلَّ في علاه: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، أيْ: أنَّ العملَ فيها خيرٌ منَ العملِ في ألفِ شهرٍ خاليةٍ منْها، وألفُ شهرٍ تزيدُ على ثلاثٍ وثمانينَ سنةً، وقدْ ذكرَ بَعْضُ الأئمةِ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُريَ أعمارَ الناسِ قبلَهُ فكأنَّهُ تقاصَرَ أعمارَ أُمَّتِهِ أنْ لا يبلُغوا منَ العملِ مثلَ ما بلغَ غيرُهم في طولِ العمرِ، فأعطاهُ اللهُ سبحانَه هذهِ الليلةَ، وزادَ بيانَ تفْخيمِها بقولِه: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، والتعبيرُ بالفعلِ المضارعِ مؤذنٌ بأنَّ هذا التنزلَ متكررٌ في المستقبلِ بعدَ نزولِ هذهِ السورةِ، وفي ذلكَ دليلٌ بيِّنٌ على استمرارِ "الفضيلةِ لكلِّ ليلةٍ من ليالي الأعوامِ تقعُ في مثلِ ليلةِ شهرِ نزولِ القرآنِ، كرامةً للقرآنِ، ولمنْ أُنزِلَ عليهِ، وللدِّينِ الذي نَزَلَ فيهَ، وللأمةِ التي تَتْبَعُهُ"، والروحُ هو جبريلُ الأمينُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، وفي نزولِ الملائكةِ معَ الروحِ الأمينِ دليلٌ على زيادةِ بركةِ هذا التّنَزُّلِ، وعظيمِ طاعةِ الملائكةِ، ولذا أكَّد ربُّنا ذلكَ فقالَ: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾، أي: بأمرهِ، ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، أيْ: بتفاصيلِ الأمورِ التي يُريدُهَا سبحانَهُ من هذهِ الليلةِ حتَّى مِثْلِهَا في العامِ القادمِ، كما قالَ سبحانَه: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.

عباد الله:

لمَّا ذكرَ اللهُ سبحانَهُ هذهِ الفضائلَ كلَّها، وجَمَعَهَا في ليلةِ القدرِ، كانتْ النتيجةُ أنَّها متصفةٌ بالسلامةِ التامَّةِ، فكانَ ذلكَ منَ الدلائلِ الإضافيةِ لِعَظَمَتِهَا، فقالَ تبارك وتعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾ ومعنى سلامَتِهَا أنَّ الشيطانَ لا يستطيعُ أنْ يعملَ فِيهَا سُوءًا، أوْ أذًى، ويبقى ذلكَ ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، أيْ: وقتَ طُلوعِهِ.

فإذا علمتَ ذلكَ، وعرفتَ قدْرَ هذهِ الليلةِ، وما حَبَاهُ اللهُ لهَا منَ الشَّرَفِ، وخصَّها بِهِ منَ الفضلِ، فإنَّ اللائقَ بكَ تَحَرِّيهَا، والحرصُ على إدراكِ فضْلِها، والإكثارُ من الطاعاتِ والصالحاتِ فِيها، وبقدرِ إقبالِك وتَحَرِّيكَ تنالُ منَ الأجرِ، فَمَنْ عَمِلَ ساعةً ليسَ كَمَنْ عَمِلَ ساعتينِ، وَمَنْ أَحْيَا نِصْفَها ليسَ كَمَنْ أَحْيَاها كلَّها، ومنْ قَرأَ آيةً ليسَ كمنْ خَتَمَ القرآنَ، ومنْ تصدَّقَ بألفٍ وهُوَ قادرٌ على غيرِهِ، ليسَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِمَا لا يقدرُ علَى غَيْرِهِ قلَّ أوْ كثُرَ، والتوفيقُ في كلِّ الأحوالِ بيدِ اللهِ، والقلوبُ بينَ أُصْبُعَيِنْ من أصَابعهِ.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين

 

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد عباد الله:

فَحَرِيٌ بالمؤمنِ وهوَ يقرأُ سورةَ القدرِ أنْ يستشعرَ فضْلَ الليلةِ التِي أنزلَ اللهُ فيها خيرَ كُتُبِهِ على خيرِ رسُلِه، وكانَ في هذا النزولِ تغييرُ العالّمِ كلِّهِ، وانقلابُ ما سبقَ منْ مَوَازِينِهِ، فإذَا فعَلَ ذلكَ جعَلَ هذهِ الليلةَ نقطَةَ بدايةٍ لتغييرِ حياتِهِ، ولمْ تمضِ كغيرِها منَ الَّليَالِي.

وليسَ هناكَ طريقةٌ لضمانِ إدراكِ هذهِ الليلةِ سِوَى الاجتهادِ في سائرِ العشرِ، وآكَدُ أوقاتِها الأوتارُ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ»، والأوتارُ يمكنُ أنْ تحْسبَ باعتبارِ بدايةِ العشرِ، وباعتبارِ نهايَتِها، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».

ومن أفضلِ أعمالِها القيامُ، والدعاءُ، وليسَ شرطًا لحُصولِ أجرِ الليلةِ أنْ تُعْرَفَ بعيْنِها، فقدْ قالَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «فَمَنْ قَامَهَا ابْتِغَاءَهَا إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

ومعَ ذلكَ فإنَّ لهَا علاماتٍ قدْ يوَفِّقُ اللهُ بعضَ عبادِه لرؤْيَتِها، منهَا أنَّها ليلةٌ بَلْجَةٌ كأنَّ فيهَا قمرًا، ليستْ حارةً ولا بارِدةً ولا يُرمى فيهَا بنجْمٍ، يشعرُ المؤمنُ فيها بطمأنينةٍ وانشراحٍ، وتطلُعُ الشمسُ صبيحتَها لا شعاعَ لَها.

ولم يثبت من علاماتِها: أنَّهُ لا تَنْبُحُ فيها الكلابُ، أو لا ينزِلُ فيها مطَرٌ، أو تصبحُ مياهُ البحرِ المالحةُ فيها حلوةً، أو تكونُ الرياحُ فيها ساكنةً فلا تقعُ العواصفُ والقواصفُ، أو أنَّ الأشجارَ تسجُدُ على الأرضِ ثمَّ تعودُ إلى مكانِهَا.

ومنْ أفضلِ دعائِها «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».

ألا فاتقوا الله يا عباد الله، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

المشاهدات 508 | التعليقات 0