سلامة الصدر
mo ab
إن الحمد الله
روى ابن وهب في جامعه بسنده عن زيد بن أسلم أنه دخل على أبي دجانة الأنصاري ¢ وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقال له: مالك يتهللُ وجهُك، فقال: "ما من عملِ شيءٍ أوثقَ عندي من اثنين: أما أحدهما فكنت لا أتكلم بما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليماً".
"الله أكبر" إنها سلامة الصدر -أيها المؤمنون- سلامته من كل غل وحسد، وحقد وبغضاء، على المسلمين، وهي من أعظم الخصال، وأشرف الخلال، ولا يقوى عليها إلا الرجال.
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُها *** مثلُ الزجاجةِ كسرُها لا يُشْعَبُ
ولقد كان الرسول ‘أحرص الناس على سلامة قلبه، فكان يَقُولُ فيما رواه عنه ابن مسعود: "لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ، وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ" رواه الإمام أحمد وحسنه أحمد شاكر.
إن سلامة الصدر ونقاءه مفتاح المجتمع المتماسك الذي لا تهزه العواصف، ولا تؤثر فيه الفتن، وكيف -يا ترى- يكون مجتمع تسوده الدسائس والفتن، وتمتلئ قلوب أفراده غشاً وحسداً وأمراضاً؟ أفذاك مجتمعٌ أم غابة وحوش وذئاب؟
إن القلوب إذا اختلفت، وذهب صفاؤها، فهذا نذير الشر، وأول البلاء، ويجب حينئذ الوقوف بحزم أمام هذا الداء.
سلامة الصدر نعمة ربانية، ومنحة إلهية، بل هي من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فائتلاف قلوب المؤمنين، من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله.
سلامة الصدر سبب في قبول الأعمال؛ ففي الحديث: "تعرض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشركُ بالله شيئاً إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا". رواه مسلم
فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن؟
سلامة الصدر، علامة فضل وتشريف؛ فقد قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ‘: "أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَان" قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْب؟ قَال: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَد" رواه ابن ماجة، وصححه الألباني.
سلامة الصدر، صفة من صفات أهل الجنة، قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ)، وفي الحديث في وصف أول زمرة تلج الجنة: "قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض" رواه البخاري.
سلامة الصدر، معينة للقلب على الخير والبر والطاعة والصلاح، فليس أروح للمرء، ولا أطرد للهّم، ولا أقرّ للعين، من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
سلامة الصدر، تقطع سلاسل العيوب، وأسباب الذنوب، فإن من سلم صدره، وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظنون السيئة، عف لسانه عن الغيبة والنميمة، وقالة السوء.
هذا نبي الله يوسف ’ مَثَلٌ فذٌ في سلامة الصدر، فبعد أن فعل به إخوته ما فعلوا، وبعد أن صار في منزلة يقدر فيها على الانتقام أبى أن يثأر لنفسه، ووفى لإخوته الكيل، ثم قال لهم: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ)، فعفا عنهم، ثم استغفر لهم، وأعجب من هذا أنه التمس لهم العذر فيما فعلوه: (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
لا يحمل الحقد من تسمو به الرتبُ *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب
قال صديق لابن السماك: "موعدنا غداً نتعاتب، فقال له ابن السماك: بل موعدنا غداً نتغافر". "الله أكبر" إنه جواب يأخذ بمجامع القلوب.
هكذا إذاً صفاء وود، إخاء وحب، قلب سليم ونفس صافية، وصدر يحتمل الزلات، ويغفر الخطيئات، ويمحو بالإحسان الإساءات.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيعِ
فنسأل الله السلامة والعافية من الغل والحسد والحقد، وأن يرزقنا سلامة الصدر، ونقاء القلب من كل ما يفسده، إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله: إن لسلامة الصدر أسبابًا وطرقًا لا بد من سلوكها؛ فمنها:
الإخلاص لله تعالى: فعن زيد بن ثابت مرفوعًا: "ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله -عز وجل-، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"[رواه الإمام أحمد صححه محققو المسند].
ومن أسباب سلامة الصدر: الإقبال على كتاب الله -تعالى-: الذي أنزله شفاء لما في الصدور، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)، فكلما أقبلت على كتاب الله تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا، صلح صدرك، وسلم قلبك.
ومن أسباب سلامة الصدر: دعاء الله أن يجعل قلبك سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
ومن ذلك: إفشاء السلام بين المسلمين؛ فقد قال‘: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم.
قد يمكث الناس دهرًا ليس بينهم *** وُدٌّ فيزرعه التسليم واللطفُ
ومن أسباب سلامة الصدر: الابتعاد عن سوء الظن: فإنه بئس سريرة الرجل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، وقال ‘"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"[متفق عليه].
فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث.
أيها المؤمنون: هذه بعض أسباب صلاح القلب، وسلامة الصدر، فإنه من صدق في طلبها أدركها، ف: "لو صحّ منك الهوى أُرشِدّتَ للحيَل".