سلامة الصدر

محمد بن خالد الخضير
1433/05/06 - 2012/03/29 19:03PM
الخطبة الأولى

ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة و كل ضلالة في النار
عِبادَ الله
روى الإمام أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه – يتقاطر الماء -، قد تعلَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم تبعه - أي تبع الرجلَ الممدوحَ - عبدُالله بن عمرو بن العاص، فقال للرجل: إني لاحيت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي - أي: هذه الأيام الثلاث - فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبدالله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق"
نعم هذه هي التي بلغت به تلكم المنزلة، فرفعت قدره، وأعلت شأنه، فها هو ذا يسير بين الناس، بل بين أفضل الناس، يُشار إليه بالبنان: أن هذا الموعود بالنعيم والرضوان.

لم يكن طويل القيام والصلاة، قد يُحتقر عمله ويستقل، ولكنه كان يحمل قلبًا طاهرًا، طهارة الماء العذب الزلال، نقيًا، نقاء الثلج والبرد مشرقًا بنور الإخاء والمحبة، ساطعًا بضوء السلامة وحب الخير للناس، سليماً من الحقد والغش والحسد.

من سلم قلبه للمؤمنين، طاب حديثه والحديث معه، وأنس به الجليس، تحبه النفوس، وتشتاق إليه الأرواح والقلوب، طيّب المعشر، لينٌ متواضع، بَرٌ رحيم، عطوف كريم.
إن تحدث لم يؤذ، وإن نزل بقوم نزل السرور بساحتهم، وإن ارتحل ارتحل من غير أذىً أو أذية، كالنحلة تلقُط خيرًا وتلقي شهدًا.

كيف لا يحظى بهذه المنزلة، ويفوز بتلك البشارة، كيف لا ينعم في الأولى بالراحة والسرور، وفي الأخرى بالجنة والخلود مع المقربين الشهود، والنداء الرباني لم يزل يتردد في كل حين: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].

أخرج ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله : أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).

كم من مريض قلب، يتقطع حسرة وألمًا، لأن زيدًا ربح في تجارته، وعمرًا نجح في دراسته، وآخر بورك له في زواجه!

كم من الناس يعيش همًا وغمًا وعناءً وحرقة، يتقلب على فراشه والغيظ يعتصره يأكل معه الحسد ويشرب، وينام معه الكره والبغض ويستيقظ، لأن فقيرًا اغتنى، ومريضًا شفي، أو عقيمًا رزق.

أيا حاسدًا لي على نعمتــي أتدري على من أسـأت الأدب
أسأت على الله في حكمــه لأنك لم ترض لي ما وهــب
فأخزاك ربي بأن زادنــي وسد عليك وجـوه الطلــب

أفٍ لقلوب مريضة! إن أعطيت لم تشكر, وإن مُنعت لم تذكر، تنظر إلى الناس شزْرًا، يؤلمها أن يترقّى الناس في مراتب التوفيق والنجاح، يحزنها أن يسعدوا ويفرحوا، ويملأ حياتهم السرور، ويغشى دارهم الحبور.

روى الترمذي من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، أن النبي قال: ((دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء, هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يُثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم)).

أهل الحسد تغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا، فيجدون ما تمنوه لأنفسهم قد فاتهم وامتلأت به أكفٌّ أخرى، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قرارًا.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)).

ترفع أعمال العباد, كل العباد، فيغفر الله لمن شاء شريطة أن لا يشرك به شيئًا.
أما أولئك المتخاصمين، أصحاب القلوب التي قد أثرت فيها براكين الحقد والحسد وإن كانوا أعبد الناس، فلا يرفع لهم عمل، ولا تمنح لهم مغفرة، حتى تُزال سخائم القلوب، ودفائن البغض والعداء.

بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له الملِكُ الحقُّ المبين، وأشهَد أنَّ سيّدنا محمَّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيّها المسلمون، اعلموا أنه لا نجاة ولا فلاح للعبد يوم القيامة إلا بأن يقدم على مولاه بقلب طيب سليم، كما قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.

عباد الله إن لسلامة الصدر أسبابًا وطرقًا لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب:
الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت مرفوعًا: ((ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسملين)) رواه أحمد بسند صحيح[1]. قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".

ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فكلما أقبلت ـ يا عبد الله ـ على كتاب الله تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا صلح صدرك وسلم قلبك.

ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ

هذا، وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله، فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
المشاهدات 3526 | التعليقات 0