سَعَةُ رَحْمَةِ اللهِ 1442/8/20هـ
عبد الله بن علي الطريف
سَعَةُ رَحْمَةِ اللهِ 1442/8/20هـ
أما بعد أيها الإخوة: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سبيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا [أي سال منه الحليب] تَبْتَغِي [تطلب ابنها بالسبي] إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ، فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ [وهو ابنها].. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ.؟ قُلْنَا لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا. رواه البخاري ومسلم.
نعم أيها الإخوة: اللهُ أرحمُ بعبادِه من هذه بولدها.. كأني وأنا أرى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يرصد هذا الموقف الإنساني المؤثر عن قرب.. يقدم من خلالِه للأمة معنىً هائلاً خلاباً.. ودرساً رائعاً جذاباً.. تعجزُ العباراتُ عن بيانه وإظهاره..
فلقد رأى الصحابةُ الرحمةَ بأجملِ صورِها وأبها حُللِها.. وأقوها تأثيراً وبياناً.. وأعلاها فيضاً وحناناً..
إنه مشهدٌ حيٌ تجلتْ فيه رحمةُ الأمِ بوليدها.. الرحمة التي لا يمكن أن يرى البشرُ أعظمَ ولا أحنى منها فيما بينهم..
ثم جعل ﷺ هذا المشهدَ المؤثرَ دليلاً على ما لا نستطيعُ أن نُقَدِّرَ حجمَه من رحمه الله سبحانه وتعالى لعباده..
أيها الأحبة: لقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نلهج في كلِ ركعةٍ من ركعات الصلاة باسمين من أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم.. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: الرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيمُ ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصفه والرحيم فعله..
والرحمة: كتابٌ كتبَه اللهُ على نفسِه وأمرَ نبيه ﷺ أن يبلِّغَه للناس فقال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام:54]
الرحمة: سمةُ الربوبية.. وعنوانُ الألوهية ولذلك وصفَ نفسَه بها، فقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ» رواه مسلم عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه.. وفي رواية قَالَ: رَسُولُ اللهِ ﷺ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» رواه البخاري عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه..
الرحمة: كمالٌ في الطبيعة البشرية تجعلُ المرءَ يرقُّ لآلامِ الخلقِ فيسعى لإزالتِها.. كما يسعى في مواساتِهم، كما يأسَى لأخطائِهم؛ فيتمنى هدايتَهم، ويتلّمسُ أعذارَهم..
الرحمة: صورةٌ من كمالِ الفطرةِ وجمالِ الخلقِ، تحملُ صاحبَها على البرِ.. وتَهبُّ عليه في الأزماتِ نَسِيماً عَليلاً تَتَرطَّبُ معه الحياة، وتأنسُ له الأفئدةُ..
والرحمة: سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسلَ رسلَه إليهم، وأنزلَ كتبَه عليهم، وبها هداهم، وبها يُسْكنهم دار ثوابه، وبها يرزقُهم ويعافيهم ويُنعمُ عليهم، فبينهم وبينه سببُ العبودية، وبينه وبينهم سببُ الرحمة.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:57،58]
الرحمة: تحصل للمؤمنين المهتدين بسبب هداهم، فكلما كان نصيبُ العبدِ من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر.. فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدارِ حتى لا يركنوا اليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة.. وبالرحمة: أرسل نبيَه محمداً ﷺ فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين.. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] بعثه ربُه فسكبَ في قلبِه من العلمِ والحلمِ، وفي خُلُقِه من الإيناسِ والبر، وفي طبعه من السهولةِ والرفقِ، وفي يده من السخاوةِ والندى ما جعله أزكى عبادِ الرحمن رحمة.. وأوسعَهم عاطفة.. وأرحبَهم صدراً، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159] (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقي الناس وفي قلبه عطف مدخور، وبر مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، وأحاديث الرسول ﷺ تبرز هذا العموم في إسداء الرحمة، والحث على إفشائها ونشرها.. قَالَ: ﷺ: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ، قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ النَاسِ رَحْمَةٌ الْعَامَّةِ» رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه وقال الألباني حسن لغيره. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» رواه البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وفي رواية: «مَن لا يَرحمِ الناسَ لا يَرحمْهُ اللهُ».
قَالَ ابن بطال رحمه الله: "في هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضرب" انتهى..
ونزع الرحمة من الإنسان علامةُ الشقاء قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقيٍّ» رواه ابو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وحسنه الألباني.
وعليه فالمطلوب من المؤمن بذل الرحمة لتسع العامة كلهم، وليس قصرها على من تعرف من قريب أو صديق..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
الثانية:
وتستجلب ورحمة الله: بطاعتِه وطاعةِ رسولِه ﷺ والاستقامةِ على أمرِ الإسلام (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132]
وتستجلب: بتقوي الله (..وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28] أي: نصيبين من الأجر لا يعلم وصفهما وقدرهما إلا الله تعالى والتثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى.
وتستجلب: رحمته سبحانه برحمه خلقه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضْيَ اللهُ عَنْهُمَا
وتستجلب رحمة اللهِ: بالاستغفار قال الله تعالى: (..لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). [النمل:46]
وتستجلب ورحمة الله: بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]
وبعد أيها الأحبة: بالرحمة تجتمعُ القلوب، وبالرفق تتآلفُ النفوس، والقلب يتبلد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجه محتاج، ولا يحس بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس ولا حُزن محزون، أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ يَشْتَكِي قَسَاوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "ارْحَمِ الْيَتِيمَ، وَامْسَحْ رَأسَهُ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ، وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ" رواه الطبراني عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة …
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق