سر الله تعالى في خلقه (مناسبة لنهاية العام)

سِرُّ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ
29/12/1432

الْحَمْدُ للهِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَسَيَّرَهُمْ بِحِكْمَتِهِ، وَأَمْضَى فِيهِمْ حُكْمَهُ، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَسَّخَ فِي أُمَّتِهِ الْإِيمَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَدَعَا إِلَى الْعَمَلِ، وَنَبَذَ الْعَجْزَ وَالْكَسَلَ، وَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ...»، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تَطْوُونَ هَذَا الْعَامَ الْهِجْرِيَّ مِنْ أَعْمَارِكُمْ، وَقَدِ اسْتَوْدَعْتُمُوهُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَحْسِنُوا خِتَامَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ؛ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
أَيُّهَا النَّاسُ: بَيْنَ بِدَايَةِ عَامٍ وَنِهَايَتِهِ لِنَتَفَكَّرْ فِي عَظَمَةِ رَبِّنَا وَقُدْرَتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِنَتَفَكَّرْ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، لِنَتَفَكَّرْ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَكَمْ للهِ تَعَالَى مِنْ أَفْعَالٍ فِي خَلْقِهِ! وَكَمْ قَضَى فِي الْأَرْضِ مِنْ أَقْضِيَةٍ وَقَعَتْ! وَكَمْ قَدَّرَ مِنْ مَقَادِيرَ فِي هَذَا الْعَامِ الَّذِي نَخْتِمُهُ؟! فَمَنْ يُحْصِي ذَلِكَ وَمَنْ يَعُدُّهُ؟! لَا أَحَدَ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى؛ (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا).
فِي الْعَامِ الْمُنْصَرِمِ كَمْ مِنْ حَيٍّ مَاتَ! وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ سَقِمَ! وَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ ذَلَّ! وَكَمْ مِنْ مُكْرَمٍ أُهِينَ! وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ افْتَقَرَ! وَكَمْ مِنْ سَعِيدٍ بَئِسَ! وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَكَثِيرٌ، لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، أَفْعَالٌ لِلرَّبِّ -جَلَّ جَلَالُهُ- كَثِيرَةٌ فِي خَلْقِهِ مَا ظَنَّ أَصْحَابُهَا أَنَّهَا تُصِيبُهُمْ فَأَصَابَتْهُمْ!
لِيَتَفَكَّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي نَفْسِهِ، وَلْيَتَأَمَّلْ أَقْضِيَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ خِلَالَ عَامٍ كَامِلٍ، كَمْ فَرِحَ وَكَمْ حَزِنَ! وَكَمْ خَافَ وَكَمِ اسْتَبْشَرَ! وَكَمْ قَنطَ وَكَمْ طَمِعَ! كُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ وَلَا يَزَالُ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا.
أَقْدَارٌ قَدَّرَهَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلَالُهُ- لَمْ يَرُدُّهَا قُوِيٌّ بِقُوَّتِهِ، وَلَا قَدِيرٌ بِقُدْرَتِهِ، وَلَا زَعِيمٌ بِسُلْطَتِهِ، وَلَا قَائِدٌ بِجُنْدِهِ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهَا حَذِرٌ بِحَذَرِهِ، وَلَمْ يُرَاوِغْ عَنْهَا ذَكِيٌّ بِعَقْلِهِ، إِنْ هِيَ إِلاَّ غَيْبٌ مُخْبُوءٌ، وَقَدَرٌ مَحْتُومٌ، يُصِيبُ مَنْ أُمِرَ بِهِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ عُمُرِهِ وَمَكَانَتِهِ!
إِنَّ الْقَدَرَ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ دَلِيلُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ عَطَّلَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ سِرُّ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى؛ وَقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِيمَانَ بِهِ رُكْنَ الْإِيمَانِ السَّادِسِ، «وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
دَلَّ الْقَدَرُ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى لِلْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلِلْمُمْكِنِ وَالْمُحَالِ، وَلِلْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَلِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلَا شَيْءَ مُحَالٌ أَمَامَ قُدْرَتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَلَكِنَّ مَشِيئَتَهُ جَعَلَتْهُ مُحَالًا؛ فَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ؛ (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)؛ هَذَا فِي الْمَوْجُودِ.
وَفِي الْمَعْدُومِ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، فَهَذَا عِلْمُهُ بِأَهْلِ النَّارِ، وَهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا، فَهُوَ خَبَرٌ بِمَا لَا يَقَعُ، فَسُبْحَانَ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَالْخَلْقُ كُلُّ الْخَلْقِ لِعَجْزِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَصَوَّرُونَ الْعِلْمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ مُدْرَكَاتِهِمْ، فَكَيْفَ إِذنْ بِالْمَعْدُومِ وَبِالْمُحَالِ؟!
وَهَذَا الْقَدَرُ الْمُحْكَمُ الْعَجِيبُ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ الْخَلْقِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُدَوَّنٌ؛ (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)، (َوكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وَأَحْدَاثُ الْكَوْنِ، وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَا كَبُرَ مِنْهَا وَمَا صَغُرَ، مُسَجَّلَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ وُقُوعِهَا؛ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)؛ أَيْ: مُسَطَّرٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ...»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَا كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَهُوَ ثَابِتٌ، لَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَحْوٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، وَإِنَّمَا الْمَحْوُ وَالتَّغْيِيرُ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
وَاللهُ تَعَالَى شَاءَ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ الْمَكْتُوبِ أَنْ يَكُونَ، وَلَوْ لَمْ يَشَأْهُ سُبْحَانَهُ لَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وَفِي الْقُرْآنِ تَقْرِيرُ أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ وَلَنْ يَقَعَ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْهُ وَلَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ؛ فَفِي شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)، وَفِي أَفْعَالِهِمْ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، وَفِي اخْتِلَافِ كَلِمَةِ النَّاسِ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، وَفِي اقْتِتَالِهِمْ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).
فَاللهُ تَعَالى قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ سُبْحَانَهُ.
وَمَشِيئَةُ الْخَلْقِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ تَبَارَك َوَتَعَالَى؛ (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
وَهَذَا الْمَقْدُورُ الَّذِي كَانَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِيجَادِ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَخَلْقِهِ إِيَّاهُ، وَالْخَلْقُ مِنْ أَفْعَالِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ خَالِقُهُ؛ (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وَلِذَا كَانَ مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ: الْخَلَّاقُ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخَلْقِ؛ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ الْخَلَّاقُ بِكَوْنِهِ خَلَّاقًا إِلَّا وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ الْخَلْقُ بِالْعِلْمِ؛ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
فَمَا مِنْ أَمْرٍ وَقَعَ، وَلَا مَخْلُوقٍ خُلِقَ، إِلَّا وَاللهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَكَتَبَهُ مُنْذُ الْأَزَلِ، وَشَاءَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَجْرَاهُ عَلَى وفْقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى: الْقَادِرُ، وَالْقَدِيرُ، وَالْمُقْتَدِرُ، وَكَانَتِ الْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى.
وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَمْتَلِئَ قُلُوبُكُمْ بِالْإِيمَانِ واَلْيَقِينِ وَتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ، فَتَفَكَّرُوا فِيمَا يَجْرِي فِي الْأَرْضِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَمَقَادِيرَ، فِي ضَخَامَتِهَا، وَكَثْرَتِهَا، وَتَنَوُّعِهَا، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، واَلنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ، ثُمَّ قَارِنُوا ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وَهُنَا يَنْقَطِعُ العَقْلُ عَنِ التَّفْكِيرِ عَجْزًا وَاسْتِسْلاَمًا، وَتَسْجُدُ القُلُوبُ تَعْظِيمًا لله تَعَالَى وَإِجْلَالاَ، وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَللهِ تَعَالَى تَقْدِيرٌ فِي السَّنَةِ يُنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى كُتُبِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِأَوَامِرِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، وَتُسَاقُ الْمَقَادِيرُ إِلَى مَوَاقِيتِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَهُوَ مَا تَرَوْنَهُ مِنْ حَوَادِثِ الْعَالَمِ وَمُسْتَجَدَّاتِهِ، وَمَا يَجْرِي عَلَى الْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَفِيهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ رَاحَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِهِ الْخُلُوصُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالاضْطِرَابِ، وَلَقَدْ جُنَّ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أُولُو عُقُولٍ بِفَقْدِهِمُ الْإِيمَانَ باِلْقَدَرِ، وَأَلْحَدَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا أَدْرَكُوا حِكْمَتَهُ سُبْحَانَهُ فِي أَقْدَارِهِ، وَأَشْغَلُوا عُقُولَهُمْ فِي كَشْفِ سِرِّ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمُحَاوَلةِ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِ وَكُنْهِهِ، وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ؟!
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: مِنَ السُّنَّةِ اللَّازِمَةِ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحَادِيثِ فِيهِ... لَا يُقَالُ: لِمَ وَلَا كَيْفَ... وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ وَيَبْلُغْهُ عَقْلُهُ؛ فَقَدْ كُفِيَ ذَلِكَ وَأُحْكِمَ لَهُ، فَعَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ؛ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ سَبَبٌ لِثَبَاتِ الْإِيمَانِ، وَرُسُوخِ الْيَقِينِ، وَمَتَانَةِ الدِّينِ؛ فَلا يَتَغَيَّرُ حَالُ صَاحِبِهِ فِيَ الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ عَنْ حَالِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يُزِيلُ مِنْ قَلْبِهِ الْأَشَرَ وَالْهَلَعَ؛ فَإِنْ بُسِطَ عَلَيْهِ لَمْ يَأْمَنْ وَيَبْطَرْ، وَإِنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْأَسْ وَيَيْئَسْ؛ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ).
وَالْمُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ حَسَنُ التَّعَامُلِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، كَثِيرُ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ، عَظِيمُ الْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِيهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْخَلْقَ مَهْمَا بَلَغَتْ قُوَّتُهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ إِلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)..
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ بِمَقَادِيرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ هِدَايَةَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ، وَهَنَاءَ الْعَيْشِ وَطِيبَهُ، وَرَاحَةَ الْبَالِ وَاسْتِقَامَتَهُ؛ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَقْضِيَةِ اللهِ تَعَالَى فِينَا فِي زَمَنٍ مَخُوفٍ مُرْعِبٍ تَعْصِفُ أَحْدَاثُهُ وَمُفَاجَآتُهُ بِالدُّوَلِ وَالْأُمَمِ، وَتُقَلِّبُ أَحْوَالَ الْبَشَرِ فَتَنْقَلِبُ مَعَهَا قُلُوبُ غَيْرِ الْمُوقِنِينَ، فَيَفْقِدُونَ إِيمَانَهُمْ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ»؛ رَوُاهُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَلَئِنْ أَعَضُّ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ!»؛ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ.
فَلْنُرَسِّخِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ فِي قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ مَنْ هُمْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وَلْنَغْرِسْ هَذَا الْأَصْلَ الْمَتِينَ مِنَ الدِّينِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ؛ حَتَّى يُوَاجِهُوا مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ أَحْدَاثٍ كُبْرَى قَادِمَةٍ بِإِيمَانٍ لَا يَتَزَعْزَعُ، وَيَقِينٍ رَاسِخٍ لَا يَتَضَعْضَعُ، وَيُقَابِلُوا أَلَمَ الْمَقْدُورِ بِالرِّضَا وَالْقَبُولِ؛ رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا إِنْ ضَاعَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلَقَدْ أَبْقَى اللهُ تَعَالَى لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا ضَاعَ، وَالْعِوَضُ عَنْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ فَقَدَ الدُّنْيَا كُلَّهَا فَلَا يَفْقِدُ مَعَهَا دِينَهُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ آخِرَتِهِ، وَفِيهَا دَوَامُ مَعِيشَتِهِ؛ (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...
المرفقات

سر الله تعالى في خلقه.doc

سر الله تعالى في خلقه.doc

سِرُّ_اللهِ_تَعَالَى_فِي_خَلْقِهِ.doc

سِرُّ_اللهِ_تَعَالَى_فِي_خَلْقِهِ.doc

المشاهدات 4068 | التعليقات 7

بارك الله فيكم ونفع بكم..


متميز كعادتك
نافع لغيرك
أسأل الله أن يبارك في جهودك
وإني لأغبطك على هذه الجهود
لا حرمك الله الأجر


ياشيخ إبراهيم: خطبك رائعة، وعالية المضمون والعبارة، ومن باب التكميل بعد الكمال، والاقتراح لك: تطعيمها ببعض المواقف والعبر والقصص فهذا مما يزين الخطبة ويوصل كثيرا من المعاني، ويرسخها في نفوس الناس، رعاك الله وزادك تسديدا فكم استفدنا من خطبك.


جزاك الله خيرا ونفع بك وبعلمك


الشيخ إبراهيم مبارك جزاه الله خيرا ونفع بعلمه والظاهر أنه ممن يستفيد من التقنية كثيرا في البحث وهذا يجعل أكثر خطبه موسوعات علمية في الأدلة والاستشهاد ،،، وبهذه المناسبة أدعو الإخوة جميعا للاستفادة من التقنيات الحديثة في مجالات الدعوة كافة سواء في الخطب أو المحاضرات أو الدروس أو الدورات وغير ذلك ...

موضوع القصص والمواقف التي اقترحها الأخ أبو عزام في رأيي أنها جميلة ولكن التدليس يقع فيها كثيرا ،،، وكم من القصص تعجبك فتفاجأ أنها لا سند لها أو ضعيفة السند أو في متنها ومضمونها غرابة ونكارة ،،، ولهذا السبب فإن الخطيب حين يريد ذكرها لا بد أن يكون متحريا للصدق والأمانة في النقل والبحث الدقيق ليتأكد من صحتها ،،،، والله أعلم وأحكم ...


جزاك الله خيرا شيحنا


الإخوة الكرام: الشمراني والبليغ وأبو عزام وشبيب القحطاني ومرور الكرام وتركي أبو حاتم، أشكر لكم مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن يثيبكم وأن ينفع بكم.. آمين.
وبالنسبة لمقترحك أبا عزام فإني أورد ما أجده من القصص والمواقف مناسبا للموضوع، وما يفوتني في بعض الموضوعات فلأني لا أعلم عنه أو لأن فيه غرابة تنكر..