ستة من أهم الخطب لرمضان للمشائخ البصري والهبدان والبدير وعبدالملك القاضي وأبو النور
عبدالرحمن اللهيبي
الأولى خطبة بعنوان رمضان فرصة للتغير لخصتها مع تصرف من كتاب بهذا العنوان للشيخ الخطيب المشهور صالح الهبدان وهي خطبة رائعة ومهمة
والخطبة الثانية بعنوان إنه الله المجيب عن الدعاء وهي خطبة مؤثرة جدا لخطيب مكة الشيخ الدكتور طلال أبو النور وبتصرف أيضا
والخطبة الثالثة وانتصف الشهر للخطيب الحرم النبوي الشيخ صلاح البدير وهي خطبة متميزة كعادة الشيخ
والخطبة الرابعة بعنوان قنوات تسرق منا رمضان لخطيب القصيم الشيخ عبدالملك القاضي وهي خطبة في غاية الأهمية
والخطبة الخامسة بعنوان وداعا رمضان مؤثرة
والخطبة السادسة بعنوان نبي يحثو المال حثوا عن الصدقة وهي غنية بالشواهد والقصص المؤثرة للشيخ الخطيب العلم عبدالله البصري
وكلها في الملفات المرفقة عدا خطبة الشيخ عبدالله البصري وضعتها على الصفحة مباشرة
خطبة : ( نبي يحثو المال حثوًا ) الجمعة : 7 / 6 / 1431
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الجُودُ وَالكَرَمُ وَالسَّخَاءُ ، صِفَاتٌ مَا سَمِعَتهَا أُذُنُ امرِئٍ قَطُّ ، إِلاَّ طَارَ لَهَا قَلبُهُ شَوقًا وَفَرَحًا ، شَوقًا لأَنْ يَكُونَ مِن أَهلِهَا ، وَفَرَحًا بما يَعلَمُهُ مِن حَمِيدِ آثَارِهَا وَجَمِيلِ عَوَاقِبِهَا ، عَرَفَهَا العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ فَلَزِمُوهَا ، وَاشتَدَّت حَاجَتُهُم إِلَيهَا مَعَ شُحِّ بِيئَتِهِم فَتَمَسَّكُوا بِهَا ، بَل اضطَرَّهُم إِلى الاتِّصَافِ بهَا فَقرٌ لازَمَ أَكثَرَهُم ، فَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَنَاصًا وَلا مِنهَا بُدًّا ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسلامُ دِينُ الرَّحمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالإِحسَانِ ، وَمَنهَجُ تَزكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِصلاحِ القُلُوبِ ، أَقَرَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَدَحَ أَهلَهَا ، وَوَعَدَهُم بِأَضعَافِ مَا يُنفِقُونَ ، وَجَزَاهُم أَمثَالَ مَا يَتَكَلَّفُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ "
وَإِذَا عُدَّ الأَجوَادُ الكُرَمَاءُ ، وَذُكِرَ المُنفِقُونَ الأَسخِيَاءُ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ كَرِيمًا مَا عَرَفَ التَّأرِيخُ مِثلَهُ في جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسلامٍ ، وَمَا دَبَّ عَلَى الأَرضِ أَندَى مِنهُ كَفًّا وَلا أَسخَى مِنهُ يَدًا ، كَرِيمٌ لم يَدَّخِرْ شَيئًا لِغَدِهِ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ إِِلاَّ أَنفَقَهُ ، وَمَا حَلَّ في يَدِهِ مَالٌ إِلاَّ فَرَّقَهُ ، لم يَكُنْ قَطُّ بَخِيلاً وَلا مُبَخَّلاً ، وَلم يَقُلْ يَومًا لِسَائِلٍ : لا .
إِنَّهُ أَكرَمُ الكُرَمَاءِ وَإِمَامُ الأَسخِيَاءِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ، الَّذِي رَضِعَ الكَرَمَ مِن ثَديِ أُمِّهِ فَجَرَى في عُرُوقِهِ وَامتَزَجَ بِدَمِهِ ، وَتَحَرَّكَ في قَلبِهِ فَفَاضَت بِهِ يَدُهُ ، فَلَم يُرَ إِلاَّ كَرِيمًا مُعطِيًا ، وَلم يُلْفَ إِلاَّ جَوَادًا مُنفِقًا ، قَالَ أَنَسٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَحسَنَ النَّاسِ وَأَجوَدَ النَّاسِ وَأَشجَعَ النَّاسِ . وَفي الصَّحِيحَينِ عَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ شَيئًا قَطُّ فَقَالَ : لا . وعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أُتيَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ فَقَالَ : " انثُرُوهُ في المَسجِدِ " فَكَانَ أَكثَرَ مَالٍ أُتيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ جَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَعطِنِي إِنِّي فَادَيتُ نَفسِي وَفَادَيتُ عَقِيلاً . قَالَ : " خُذْ " فَحَثَا في ثَوبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَم يَستَطِعْ ، فَقَالَ : " اُؤمُرْ بَعضَهُم يَرفَعْهُ إِليَّ . قَالَ : " لا " قَالَ : فَارفَعْهُ أَنتَ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " فَنَثَرَ مِنهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَم يَرفَعْهُ . فَقَالَ : فَمُرْ بَعضَهُم يَرفَعْهُ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " قَالَ : فَارفَعْهُ أَنتَ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " فَنَثَرَ مِنهُ ثُمَّ احتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انطَلَقَ ، فَمَا زَالَ يُتبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَينَا عَجَبًا مِن حِرصِهِ ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَثَمَّ مِنهَا دِرهَمٌ . فَيَا لَلَّهِ مَا أَكرَمَهُ مِن نَبِيٍّ وَمَا أَجوَدَهُ ! يُعطِي المَالَ حَثوًا وَلا يَعُدُّهُ عَدًّا ، وَقَد كَانَ هَذَا دَيدَنَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ حَتى مَعَ أَعدَائِهِ ، ممَّا جَعَلَ كَثِيرًا مِنهُم يُسلِمُون طَمَعًا في كَرمِهِ ، فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الإِسلامِ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعطَاهُ غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ : يَا قَومِ ، أَسلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخشَى الفَاقَةَ " وَمِن جُودِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَرَمِهِ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ : لَمَّا أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَد أَعيَا بَعِيرِي قَالَ : فَنَخَسَهُ فَوَثَبَ ، فَكُنتُ بَعدَ ذَلِكَ أَحبِسُ خِطَامَهُ لأَسمَعَ حَدِيثَهُ فَمَا أَقدِرُ عَلَيهِ ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " بِعْنِيِهِ " فَبِعتُهُ مِنهُ بِخَمسِ أَوَاقٍ . قَالَ : قُلتُ : عَلَى أَنَّ لي ظهرَهُ إِلى المَدِينَةِ . قَالَ : " وَلَكَ ظَهرُهُ إِلى المَدِينَةِ " قَالَ : فَلَمَّا قَدِمتُ المَدِينَةَ أَتَيتُهُ بِهِ فَزَادَني أُوقِيَّةً ثُمَّ وَهَبَهُ لي . وَفي رِوَايَةٍ قَالَ : " يَا جَابِرُ ، أَتَوَفَّيتَ الثَّمَنَ ؟ " قُلتُ : نَعَم . قَالَ : " لَكَ الثَّمَنُ وَلَكَ الجَمَلُ ، لَكَ الثَّمَنُ وَلَكَ الجَمَلُ "
وَلَيسَ هَذَا فَحَسبُ ، بَلْ لَقَد وَصَلَ الكَرَمُ بِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى أَن أَعطَى ثَوبَهُ الَّذِي يَستُرُهُ ، فَفِي البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ عن سَهلِ بنِ سَعدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : جَاءَتِ امرَأَةٌ بِبُردَةٍ ... قَالَت : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي نَسَجتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكسُوكَهَا ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مُحتَاجًا إِلَيهَا ، فَخَرَجَ إِلَينَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اُكسُنِيهَا . فَقَالَ : " نَعَم " فَجَلَسَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في المَجلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ، ثُمَّ أَرسَلَ بهَا إِلَيهِ ، فَقَالَ لَهُ القَومُ : مَا أَحسَنتَ ، سَأَلتَهَا إِيَّاهُ ، لَقَد عَلِمتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً ... " الحَدِيثَ .
هَكَذَا كَانَ كَرَمُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لا يُرُدُّ سَائِلاً أَبَدًا .
وَإِذَا كَانَ المُتَّصِفُونَ بِالكَرَمِ يُعطُونَ القَلِيلَ مِنَ كَثِيرٍ ممَّا لَدَيهِم ، ثُمَّ يُبقُونَ في خَزَائِنِهِم أَضعَافَ مَا يُعطُونَ ، فَإنَّ الحَبِيبَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ يُعطِي كُلَّ مَا عِندَهُ ، ولم يَكُنْ يَدَّخِرُ المَالَ وَلا يَكنِزُهُ لِنَفسِهِ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدٍ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . بَلْ لَقَد كَانَ لا يَطمَئِنُّ لَهُ بَالٌ وَفي بَيتِهِ مَالٌ حَتى يُنفِقَهُ , في البُخَارِيِّ عَن عُقبَةَ بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَيتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ العَصرَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا فَدَخَلَ عَلَى بَعضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ ، وَرَأَى مَا في وُجُوهِ القَومِ مِن تَعَجُّبِهِم لِسُرعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرتُ وَأَنَا في الصَّلاةِ تِبرًا عِندَنَا فَكَرِهتُ أَن يُمسِيَ أَو يَبِيتَ عِندَنَا ، فَأَمَرتُ بِقِسمَتِهِ " وَعَن سَمُرَةَ بنِ جُندُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَقُولُ : " إِنِّي لألِجُ هَذِهِ الغُرفَةَ مَا أَلِجُهَا إِلاَّ خَشيَةَ أَن يَكُونَ فِيهَا مَالٌ فَأُتَوَفىَّ وَلم أُنفِقْهُ " رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَهَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يَجُودُ وَيَجُودُ ، حَتى يَتَمَنَّى لَو أَنَّ لَهُ مِثلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا يُنفِقُهُ في سَبِيلِ اللهِ ، فَيَقُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِندِي مِثلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِندِي مِنهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيئًا أَرصُدُهُ لِدَينٍ ، إِلاَّ أَن أَقُولَ بِهِ في عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ، عَن يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ وَمِن خَلفِهِ "
وَإذَا كَانَ جُودُ بَعضِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ لِمَن أَحسَنَ إِلَيهِم عَلَى سَبِيلِ المُكَافَأَةِ ، فَقَد شَمِلَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِجُودِهِ حَتى مَن أَسَاءَ إِلَيهِ ، فَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابيٌّ فَجَبَذَهُ جَبذَةً شَدِيدَةً ، وَرَجَعَ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في نَحرِ الأَعرَابيِّ حَتَّى نَظَرتُ إِلى صَفحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَد أَثَّرَت بِهِ حَاشِيَةُ البُردِ مِن شِدَّةِ جَبذَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الَّذِي عِندَكَ . فَالتَفَتَ إِلَيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَفي البُخَارِيِّ عَن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ أَنَّهُ بَينَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقفَلَهُ مِن حُنَينٍ ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسأَلُونَهُ حَتَّى اضطَرُّوهُ إِلى سَمُرَةٍ فَخَطِفَت رِدَاءَهُ ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " أَعطُوني رِدَائِي ، لَو كَانَ لي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمتُهُ بَينَكُم ، ثُمَّ لا تَجِدُوني بَخِيلاً وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ جُودُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِوَجهِ اللهِ وَابتِغَاءً لِمَرضَاتِهِ ، إِمَّا لإِطعَامِ جَائِعٍ أَو لإِغنَاءِ فَقِيرٍ ، أَو لِسَدِّ حَاجَةٍ أَو لِتَفرِيجِ كُربَةٍ ، أَو يَتَأَلَّفُ بِهِ قَلبًا عَلَى الإِسلامِ ، وَكَانَ يُؤثِرُ عَلَى نَفسِهِ وَأَهلِهِ وَأَولادِهِ ، فَيُعطِي غَيرَهُ وَيَعِيشُ في نَفسِهِ عَيشَ الفُقَرَاءِ ، فَيَأتي عَلَيهِ الشَّهرُ وَالشَّهرَانِ لا يُوقَدُ في بَيتِهِ نَارٌ ، وَرُبَّمَا رَبَطَ عَلَى بَطنِهِ الحَجَرَ وَالحَجَرَينِ مِنَ الجُوعِ ، يُنفِقُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِجُودٍ وَسَخَاءٍ ، وَيُؤثِرُ بِطَعَامِهِ الضُّعَفَاءَ وَالفُقَرَاءَ ، أَنفَقَ في سَبِيِلِ الله كَلَّ مَا وَقَعَ تَحتَ يَدِهِ ، وَقَدَّمَ الكُنُوزَ خِدمَةً لِلدِّينِ وَنَفعًا لأُمَّتِهِ ، ثُمَّ رَحَلَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنَ الدُّنيَا فَقِيرًا مُقِلاًّ ، فَفِي البُخَارِيِّ مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ مَوتِهِ دِرهَمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيئًا ، إِلاَّ بَغلَتَهُ البَيضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَخُذُوا مِن جُودِ نَبِيِّكُم وَكَرَمِهِ المَعنى الحَقِيقِيَّ لِلجُودِ وَالكَرَمِ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَيسَ الكَرَمُ مَا تَرونَهُ اليَومَ وَتُشَاهِدُونَهُ في دُنيَا النَّاسِ ، مِن ذَبحٍ لِلنَّعَمِ وَتَبدِيدٍ لِلنِّعَمِ ، وَتَكَلُّفٍ في الوَلائِمِ وَتَكَاثُرٍ وَتَفَاخُرٍ ، لا وَاللهِ ، إِنَّمَا الكَرَمُ غِطَاءٌ لِلعُيُوبِ وَتَفرِيجٌ لِلكُرُوبِ ، الكَرَمُ سُرُورٌ يُدخَلُ عَلَى قَلبٍ حَزِينٍ ، وإِغنَاءُ يَدٍ عَن ذُلِّ السُّؤَالِ ، الكَرَمُ إِشبَاعُ جَائِعٍ وَكُسوَةُ عَارٍ وَإِغَاثَةُ مَلهُوفٍ ، الكَرَمُ إِعفَافُ أَرمَلَةٍ وَكَفَالَةُ يَتِيمٍ ، وَإِنظَارُ مُعسِرٍ وَإِمهَالُ مَدِينٍ . آثَرتَ أُمٌّ ابنَتَيهَا بِشِقَّي تَمرَةٍ وَبَقِيَت جَائِعَةً فَأَوجَبَ اللهُ لَهَا الجَنَّةَ وَأَعتَقَهَا مَنَ النَّارِ ، وجَادَ امرُؤٌ بِنَاقَةٍ مَخطُومَةٍ في سَبِيلِ اللهِ ، فَوَعَدَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِسَبعِ مِئَةِ نَاقَةٍ مَخطُومَةٍ يَومَ القِيَامَةِ ، وَدَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ لِجُودِهِ بِجُرعَةِ مَاءٍ عَلَى كَلبٍ ، وَغَفَرَ اللهُ لِمُومِسةٍ لِجُودِهَا بِسُقيَا كَلبٍ كَادَ يَقتُلُهُ العَطَشُ ، وَرَأَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ لِغُصنِ شَوكٍ نَحَّاهُ عَن طَرِيقِ المُسلِمِينَ ، وَتَجَاوَزَ اللهُ عَن رَجُلٍ لم يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيرِ شَيءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَتَجَاوَزُ عَنِ المُعسِرِينَ ، والسَّاعِي عَلَى الأَرمَلَةِ وَالمِسكِينِ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيِلِ اللهِ ، فَاللهَ اللهَ بِالإِخلاصِ وَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الرِّيَاءِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّكَ لَن تُنفِقَ نَفَقَةً تَبتَغِي بها وَجهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرتَ عَلَيهَا " وَالجَزَاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا مِن يَومٍ يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلانِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا " وَإِنَّ مَن يُنفِقُ الآلافَ في الوَلائِمِ وَالمُفَاخَرَاتِ ، ثُمَّ يَدَّعِي الفَقرَ وَالقِلَّةَ إِذَا دُعِيَ لِلبَذلِ لِمَا يُحيِيهِ في آخِرَتِهِ وَيُنجِيهِ ، إِنَّهُ لَسَفِيهٌ جَاهِلٌ أَو ضَالٌّ مَفتُونٌ ، وَمَن عَلِمَ عِلمَ يَقِينٍ أَنَّهُ " لَن تَزُولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفيمَ أَنفَقَهُ " عَلِمَ حَينَئِذٍ أَنَّ المَالَ الَّذِي يُنفِقُهُ في المُحَرَّمَاتِ أَو يُبَدِّدُهُ في المُفَاخَرَاتِ ، إِنَّمَا هُوَ مَالٌ خَبِيثٌ ، سَيَجلِبُ لَهُ العَارَ ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلى النَّارِ ، وَأَنَّ المَالَ الَّذِي يُحيِي بِهِ العِلمَ وَيُمِيتُ الجَهلَ وَيُطعِمُ الجَائِعَ وَيَخَلُفُ الغَازِيَ ، يُتَوِّجُهُ في الدُّنيَا بِتَاجِ الفَخَارِ ، وَيُنزِلُهُ بِرَحمَةِ اللهِ مَنَازِلَ الأَبرَارِ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلدًا لا يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُمُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ وَتَثبِيتًا مِن أَنفُسِهِم كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَت أُكُلَهَا ضِعفَينِ فَإِن لم يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بما تَعمَلُونَ بَصِيرٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ في الأُمَّةِ مِنَ الفُقَرَاءِ وَالغُرَبَاءِ وَاليَتَامَى ، وفي المُجتَمَعِ مِنَ المُعَاقِينَ وَالأَرَامِلِ وَالأيَّامَى ، مَن قَد مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَزَاغَت مِنهُم الأَبصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ، فَقَدُوا العَائِلَ وَالكَافِلَ ، وَعَجِزُوا عَنِ العَمَلِ وَلَزِمُوا المَنَازِلَ .
فَهَلُمَّ ـ عِبَادَ اللهِ ـ هَلُمَّ ، فَلْنُطفِئْ عَنِ اليَتِيمَ حَرَارَةَ اليُتمِ ، وَلْنُبَرِّدْ عَنِ الأَيِّمِ مَضَضَ الثُّكلِ ، وَلنُنسِ ذَا الإِعَاقَةِ أَنَّهُ عَالَةٌ ، وَلْنُخَفِّفْ عَنِ الغَرِيبِ أَلَمَ غُربَتِهِ ، فهَل تُنصَرُونَ وَتُرزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُم ؟
تَعَامَلُوا مَعَ أَهلِ الخَيرِ وَالبِرِّ وَالإِحسَانِ ، وَادعَمُوا جَمعِيَّاتِ البِرِّ وَمَكَاتِبَ الدَّعوَةِ وَحَلَقَاتِ التَّحفِيظِ ، وَاقطَعُوا تَعَامُلَكُم مَعَ أَهلِ الفَخرِ وَالتَّبَاهِي وَتَبدِيدِ النِّعَمِ ، فَوَاللهِ مَا عُوقِبَتِ الأُمَّةُ بِغَلاءِ الأَسعَارِ وَقِلَّةِ الأَمطَارِ وَغَورِ الآبَارِ ، إِلاَّ بِكُفرَانِ النِّعَمِ وَنِسيَانِ المُنعِمِ ـ سُبحَانَهُ ـ " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ " " وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ . وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِنْ كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ "
المرفقات
طلال ابو النور انه الله المجيب.doc
طلال ابو النور انه الله المجيب.doc
قنوات تسرق منا رمضان القاضي.doc
قنوات تسرق منا رمضان القاضي.doc
وداعا رمضان.doc
وداعا رمضان.doc
المشاهدات 13259 | التعليقات 3
وهذه خطبة وانتصف الشهر للشيخ صلاح البدير خطيب الحرم النبوي
يا أيها الصائمون، إنكم في شهر لا يشبُهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، مهلكٌ لأرواح من طغى فيه وفجر.
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ ……من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صح فيه صيامه ……ودعا المهيمن بكرة وأصيلا
وبليله قد قام يختم ورده ……متبتلا لإلهه تبتيلا
أيها المسلمون، لقد انقضى من رمضان صدره، ومضى منه شطره، واكتمل منه بدره،وانقضى منه أكثره , فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فهذه ساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، تنصَّف الشهر وانصرم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [أخرجه مسلم]
أيها المسلمون، أين من كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أما أفنتهم آفات المنون القواضي، أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها؟! ثم أين بعض من صاموا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن - يا عباد الله - على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر ، ولكن صدق الله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ .
أيها المسلمون، من الذي طلبه الموت فأعجزه؟! من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟! من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟! من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟! أي عيش صفا وما كدّره؟! وأي غصن علا على ساقه وما كسره؟! لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.
عباد الله، لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم، إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8].
فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددثم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط، ألا فاحذروا أن يكون أحبَّ أمريكم إليكم أزواهما بالمضرة عليكم، ولْتُحرس منكم في هذا الشهر العينان، وليحفظ فيه اللسان، ولتُمنع من الخُطا في الخَطا القدمان، وذلك واجب في كل زمان، ويتعاظم في شهر رمضان، يقول سيد الأنام : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه)) ويقول : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) ، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).
يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وقال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)).
أيها المسلمون، لقد شرفكم الله تعالى وتبارك بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكروا في بيِّناته، وقفوا عند عظاته، وإياكم والهذ والبذّ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له: إني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال ابن مسعود: (هذًّا كهذّ الشعر؟! إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) وقال رضي الله عنه: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدّقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)
أيها المسلمون، لقد كان السلف الكرام عليهم من الله الرضوان يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. ، وفي آخر عام من حياة سيد الأنام عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام.
عباد الله، أصيخوا السمع لهذا المثل العظيم، من الجيل القرآني الفريد، لما نزل بعبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى الموت بكت ابنته، فقال لها: "لا تبكين يا بنيه فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة" , فما أروعه من جيل، وما أرشده من سبيل.
أيها الصائمون :، هذا كتاب الله يُتلى بين أظهركم ويسمع، لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدّع، فهل سرنا على مناهجه المطهَّر؟! هل طبقناه في كل ورودٍ وقدر؟! هل حكمناه فيما بطن من أمورنا وظهر؟! إن كل شأن كبير أو صغير، وكل إحداث أو تغيير يتناقض مع الكتاب والسنة، فهو وبال على صاحبه، وحسرة على جالبه، وشرّ على طالبه، ولقد شاهدنا فيمن لم يحكِّم القرآن والسنة، شاهدنا فيهم من الآيات ما فيه مزدجر، وسمعنا فيهم من العقوبات والحوادث ما فيه معتبر، فخذوا بكتاب الله بقوة واعتزاز، ولا تشغلنكم الدنيا عن أداء المفروض، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، والخذلان والهوان، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء)) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة)) يعني في رمضان.
فاجتهدوا - يا رعاكم الله - ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، الاعتكاف أمر مسنون، كثير الفوائد، عظيم المقاصد، مقصوده الأعظم قطع العلائق عن الخلائق، وإقبال العبد على الخالق، له تأثير في النفس وتأديب، وإصلاح للقلب وتهذيب، يتأكد في العشر الأخيرة، التماساً لليلة القديرة، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده).
ويقول الإمام الزهري رحمه الله تعالى: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أن النبي ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
أيها المسلمون، اعرفوا للاعتكاف أحكامه، واحفظوا للمسجد المعتكَف فيه آدابه واحترامه، ومن نوى منكم الاعتكاف فليدخل المعتكف قبل غروب شمس ليلة الواحد والعشرين كما هو عليه جمهور السلف.
أيها المسلمون، إن لكم إخواناً في العقيدة والدين، أصابتهم البأساء والضراء، والبلاء واللأواء، وأريقت منهم الدماء، وتكالب عليهم الأعداء، وأذاقوهم صنوف التقتيل، وألوان التعذيب والتنكيل، لم يرحموا شيخاً لضعف بدنه وأوصاله، ولا مريضاً لمرضه وهُزاله، ولا رجلاً من أجل عياله، لم يرحموا طفلاً لقلة حاله، ولا امرأة تذرف الدمع لعظم المصاب وأهواله، فارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن يرحم إخوانكم المستضعفين المشردين في كل مكان، وأن يمكنهم من القوم الكافرين، يقول رسول الهدى : ((إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوةً مستجابة)) ، و((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)) ، و((أعجز الناس من عجز عن الدعاء)) ، و((لا يرد القدر إلا الدعاء)).
أيها المسلمون، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
خطبة الشيخ محمد الهبدان رمضان فرصة للتغيير لم أتمكن من وضعها هنا لذا جعلتها في موضوع جديد آمل من كل من يستفيد منها أن يدعو لي
ابراهيم السعدي
جزاك الله خيرا
تعديل التعليق