سبل المحافظة على البيئة في الإسلام موافقة للتعميم

عبد الله بن علي الطريف
1445/06/21 - 2024/01/03 10:29AM

سبل المحافظة على البيئة في الإسلام 23/6/1445هـ

أيها الإخوة: أشكروا الله على ما أولانا من نعمٍ عظيمة؛ فإن ذلك من التقوى، ومن أعظمِ هذه النعم بعد خلقنا أنه استخلفَنا في هذه الأرض، قال سبحانه: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61] قال الشيخ السعدي: "(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ) أي: خلقكم فيها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك، فلا تشركوا به في عبادته." أهـ

والبيئة عند علماء الجغرافيا والطبيعة: الوسط المكاني الذي يعيش فيه الإنسان، أو يرتاده بما يضم من مخلوقات الله تعالى الطبيعية من جبالٍ وسهولٍ ورمالٍ وبحارٍ وأنهارٍ، وما فيها من نباتٍ وشجرٍ وحيوانات وغيرها، أو ما يحدثه البشر من تحسينات، يتأثر بها الإنسان ويؤثر فيها.

ومِنَّةُ الله تعالى تتجلى بأنه هيأ لنا وسطاً نعيش فيه، وخلق لنا ما يُصلح به حياتنا، ووضع في الأرض والكون ما يكون سبباً في سعادتِنا وسهولةِ عيشنا، فخلق السماواتِ والأرض وما فيها من آيات يقول سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:32، 34]

واستِخْلافُ اللهِ للإنسان في الأرض ليعمرَها، ويحافظ عليها ويتعبد لله تعالى فوقها، والخلافةُ في الأرض تقتضي تمام المسؤولية، والتصرف فيها تصرف الأمين؛ بأن يستثمر خيراتَها، ويحافظ عليها، يتعامل معها برفق وأسلوب رشيد، ولم يجعل الله الإنسان مالكًا لها يتصرف فيها بأنانية، ويدمرها من أجل مصالحه الذاتية المؤقتة، أو لمجرد العبث الخالي من المسؤولية، بل لينتفعَ الأحياءُ بها الآن، ومِنْ بعدِهم الأجيال القادمة إن شاء الله، ولو أفسدها الأجدادُ وعبثوا بها لم نجد ما ننتفع به الآن، ولا ما نستمتع به.

أيها الإخوة: والإسلام يدعو للمحافظة على البيئة، وهو دين الإيمان بالقيم الإنسانية الرفيعة، وينهى بل يشدد بالنهي عن تلويثِ البيئة والتعاملِ الجائر معها، ويعُده منافياً لتعاليمه، فقد دعا إلى تجنيبها كلَ جَوْرٍ أو تلويثٍ قَالَ ﷺ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» رواه أبو داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ» رواه الطبراني عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني.. أي جاز لعنه إذا لم يكن مُعينا أما إذا كان معينا فالأصح عدمه، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رواه مسلم وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ولم يقتصر الإسلام على النهي عن التلويث والإفساد في البيئة، بل حث على إزالةِ الأذى إذا وجد وقُدر على إزالته، وجعلَه جزءاً من الإيمانِ وسبباً للمغفرة ودخول الجنة فقَالَ ﷺ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا يُؤْذِيهِمْ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهِ حَسَنَةً، وَمَنْ كُتِبَ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةٌ، أَدْخَلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ» رواه أحمد والطيالسي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. وقَالَ ﷺ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي رواية لمسلم «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ» وفي أخرى قَالَ ﷺ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ ﷺ: «اعْزِلِ الْأَذَى، عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» رواه مسلم..

أحبتي: هل بعد هذا الوعيد والحث مُتْسَعٌ لمسلم بأن لا يبالي أين رمى المخلفات.؟ وهل بعدها مُتْسَعٌ لمن ترك مخلفات رحلته في مكان جلوسه.؟ فكم في المنتزهات من المخلفات البلاستيكية والزجاجية وبقايا الطعام وغيرها، مما يضر بالإنسان والنبات والحيوان.. ولو لم يكن منه ﷺ هذا الوعيد وهذا الوعد لعُدَّ ملوثو البيئة مخالفون للذوق والأدب فكيف وهم مخطئون آثمون.!

ونهى الإسلام عن الإسراف عموماً فقال تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31] والإسراف يكون في استعمال، والكهرباء، واستهلاك الموارد، وفي الطعام والشراب، وذبح وصيد ما يؤكل لحمه من الطيور والأنعام بأن يُقتصر فيه على الحاجة.

وحث الإسلام على الزرع والغرس لما فيهما من الخير للناس وعد الانتفاع بثمارها من الصدقة ولم يجعل له وقتًا من الزمان فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا» رواه أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو صحيح الاسناد.

عَنْ أُمُّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنَا فِي حَائِطٍ فَقَالَ: «يَا أُمَّ مُبَشِّرٍ أَلَكِ هَذَا؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: «مَنْ غَرَسَهُ؟ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ؟» قُلْتُ: مُسْلِمٌ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتْ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» رواه مسلم وأحمد وذكره في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد.

أيها الإخوة: هذا أجر من لم يلوث البيئة ومن أزال الأذى عنها، ومن يحسنها ويزرعها ويغرس فيها.. فما بال أناسٍ يفسدون ما أنبته الله من العشب والكلاء بسيارتهم ودراجاتهم النارية روحة وجيئة بلا هدف، ويفحطون فيها، وكأن أحدهم قد استُؤجر لحرثِ الأرض! لقد أفسد هؤلاء الغطاء النباتي فأصبحت البراري القريبة مجدبة لا تنبت.! وكسَّروا الأشجار وقطعوها بلا مبرر مع منع ذلك من الجهات الرسمية، وحُرم الناس من الاستمتاع بجمال الخضرة، وطيب المقام فيها، وحرم أصحاب المواشي من الرعي فيها.. ثم ما يترتب على هذه التصرفات غير المسؤولة وغير المفيدة من حوادث راح ضحيتها أنفس، أو حدثت بسببها إصابات بالغة من كسور أو جروح أو إعاقات دائمة، وربما فقد بعضهم الوعي وبقي ميتا بين الأحياء، وصار خسارة وعالة على أهله ووطنه..  

وقريب من هؤلاء من يوقدون النار بالأشجار أو يجورون في الاحتطاب ويشعلون النار في أي مكان دون النظر للتعليمات الرسمية في ذلك التي تجب الطاعة فيها...

وربما ترك بعضهم النار أو الجمر حيًا في خيمته ونام، والنار عَدُوٌّ غَيْرُ مَزْمُومٍ بِزِمَامٍ لَا يُؤْمَنُ لَهَبُهَا فِي حَالَةِ نَوْمِ الْإِنْسَانِ، وقد نهى عن ذلك النَّبِيُّ ﷺ فَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ ‌لَكُمْ، ‌فَإِذَا ‌نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ.» رواه البخاري ومسلم.

ومما يُحثُ عليه المتنزهون رفع الأذان والإقامة لكل صلاة مفروضة ولو كان وحده، ويتأكد مع الجماعة، فقد ورد الحث على ذلك فَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ ﷺ: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضِ قِيٍّ [أي فلاة] فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً فَلْيَتَيَمَّمْ، فَإِنْ أَقَامَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ» رواه عبد الرزاق في المصنف والطبراني في الكبير وصححه الألباني.. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ ﷺ: «فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ‌وَلْيَؤُمَّكُمْ ‌أَكْبَرُكُمْ» رواه البخاري ومسلم. اللهم فقهنا في ديننا واجعلنا من الراشدين.

الخطبة الثانية

أيها الإخوة: ومما يجب التفطن له العناية بمجاري السيول وأماكن تجمعها من الأودية والتلاع والمسايل، والمحافظة عليها نظيفة وخالية من الحواجز والمباني، فما عند الله من الخير وما يرسله من الغيث لا حدود له، ولا تنسينا أيام القحط وقلة الأمطار أيام كثرتها وتداركها..

ومن الأخطاء التهاون بالنزول إلى الأودية والشعاب وهي تتدفق، أو خوضها بالسيارات، لما يترتب على ذلك من أخطار وهلاك، وفي كل عام تنقل وسائل الإعلام حوادث الغرق، بسبب تهاون بعض الناس ومجازفتهم، أو مغامرتهم، وعدم تفكيريهم بالعواقب، وربنا يقول محذراً: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195] ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة تغرير الإنسان بنفسه بسفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرًا أو بنيانًا خطرًا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر أو يقطع واديًا جارفًا ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن أَلقَى بيده إلى التهلكة.

ويُنهى عن النوم بالشعاب ومجاري السيول: قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: لا يبيت الإنسان في مجاري السيول، لأن السيول قد تأتي بدون شعور، فيكون في ذلك ضرر؛ ولهذا نهي عن الإقامة فيها...   

وبعد أيها الإخوة: يجب على كل مواطن أن يلتزم بالأنظمة التي تصدرها الجهات المعنية بشأن المحميات الطبيعية، وعدم الاعتداء عليها.. وعدم الصيد في الأماكن الممنوع فيها الصيد لما فيه من مخالفة لمصلحة رآها ولي الأمر، وكذا تجنب الاحتطاب الجائر تحقيقاً للغاية الشرعية في المحافظة على الحياة الفطرية والغطاء النباتي.

 

المشاهدات 1770 | التعليقات 0