سبْعةٌ يُظلُّهمُ اللهُ يومَ القيامةِ في ظلِّه

سبْعةٌ يُظلُّهمُ اللهُ يومَ القيامةِ في ظلِّه

الحمْدُ للهِ المَلكِ الجَبّار، الواحدِ القهّار، وأشْهدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، ربُّ السَّمواتِ والأرْضِ وما بينَهما العزيزُ الغَفّار، وأشْهدُ أنَّ محمَّداً عبْدُهُ ورسولُهُ المصْطفى المخْتار، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحْبِهِ الأخْيار، وسلَّمَ تسْليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].

عِبادَ الله: إنَّ شدَّةَ حرِّ الصَّيْفِ الَّذي يعيشُهُ كثيرٌ مِن سكّانِ الأرضِ هذهِ الأيَّامَ يُذكِّرُنا بشدَّةِ حرِّ جهنَّم، وقبْلَ ذلكَ يُذَكِّرُنَا بالوقوفِ في عرصاتِ يومَ القيامة، والشَّمْسُ تدْنو مِنَ الخلائقِ بِمقْدارِ مِيل، والنَّاسُ في عَرَقٍ عظيمٍ، وخطْبٍ جسيم.

وفي أثْناءِ هذا الموقفِ العصيب، يكونُ أُناسٌ في ظلِّ عرْشِ الرَّحمنِ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه، أصْنافٌ يكونونَ في ظلٍّ ظليل، والعرْشُ أكْبرُ المخْلوقات، فظلُّهُ ظِلٌّ عظيمٌ، ظلٌّ باردٌ في كرامةٍ ونعيم، يأوي إليهِ هؤلاءِ في كَنَفِ اللهِ -تعالَى- وكرامتِه. عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ عنِ النَّبيِّ ﷺ قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجْتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)). رواهُ البخاريُّ ومُسْلم([1]).

وقدْ نظمَ السَّبعةَ -المذكورينَ في الحديثِ- العلَّامةُ أبو شامةَ -رحمَهُ اللهُ فقال:                وقالَ النَّبيُّ المصطفَى إنَّ سبْعةً   يُظلُّهمُ اللهُ الكريمُ بظلِّهِ

محبٌّ عفيفٌ ناشئٌ متصدِّقٌ      وباكٍ مصلٍّ والإمامُ بعدْلِهِ

أوَّلُ هؤلاءِ السَّبْعةِ الأبْطال: الإمامُ العادل، وهوَ صاحبُ الولايةِ العظْمَى، خليفةُ المُسْلمين، هذا إذا كانَ عادلاً فإنَّهُ يكونُ في ظلِّ العرش.

ولا شكَّ أنَّ أثرَ الإمامِ العادلِ في الرَّعيَّةِ عظيم، فإنَّهُ إذا عدَلَ حصلَ بعدْلِهِ نفْعٌ عظيمٌ للخَلْق، فاسْتقامتِ البلادُ، وأحْوالُ العباد، وحصلَ الرَّخاءُ والطُّمأنينة، والإسْلامُ تُقامُ حدودُه. وقُدِّمَ الإمامُ في الذِّكْرِ على الجميع؛ لعمومِ نفْعِه، وعظيمِ أثَرِ عدْلِه.

قالَ أهْلُ العِلم: إنَّهُ يلْتحقُ بهِ كلُّ مَن وليَ شيئًا مِنْ أُمورِ المُسْلمينَ فعدَلَ فيه، ويؤيِّدُ ذلكَ حديثُ مسْلمٍ (4825) أنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: ((إنَّ المقسطينَ عندَ اللهِ على منابرَ مِن نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ: الَّذينَ يَعدلونَ في حُكْمِهم وأهليهم وما وَلُوا)).

والَّذي يتولَّى ولايةً يَعْدلُ فيهَا يكونُ لهُ نصيبٌ في هذا المقام، فالأبُ يعْدلُ بينَ أولادِهِ في النَّفقاتِ والهدايا، ويعْدلُ بينَهمْ في المعاملة، لا يُفضِّلُ أحَدًا علَى أحدٍ دونَ سببٍ شرعيّ، والزَّوْجُ يعْدلُ بينَ الزَّوجاتِ في المبيتِ والنَّفقة، يُعطي هذهِ مِثْلَ الأُخْرَى ولا يُميِّز، إلَّا إذا صارَ سببٌ يدْعو للتَّمييز؛ كَكِبَرِ حجْمِ إحْدى العائلتين، أو كثْرةِ الأولاد، ونحْوِ ذلك، أوْ قيمةِ علاجْ ونحْوِه.

وثاني هؤلاءِ السَّبْعة: شابٌّ امْتلأَ فتوَّةً ونشاطاً، لازمَ طاعةَ الله، وراقبَ في سِرِّهِ وجهْرِهِ مولاه، لمْ تغلبْهُ الشَّهوةُ، ولم تُخضعْهُ لطاعتِها دوافعُ الهوَى والطَّيش.

ولا يُخالفُ الهوَى والشَّهوةَ إلَّا قويُّ الإيمان. ولا شكَّ أنَّهُ في هذا الزَّمانِ تكونُ نشأةُ الشَّابِّ في طاعةِ ربِّه أصعب؛ لأنَّ المغْرياتِ وأبوابَ الحرامِ أكْثرُ وأشدّ.

وثالثُهم: رَجُلٌ خلا إلَى نفْسِهِ فذَكرَ عظمةَ ربِّهِ، وقوَّةَ سلْطانِهِ، ورحمتَهِ علَى عبادِهِ، وجزيلَ إحْسانِه، فاغْرورقتْ عيناهُ بالدُّموع، وفاضتا طمَعاً في ثوابِهِ وغفْرانِه، ورهبتِهِ مِنْ عذابِهِ وأليمِ عقابِه، ولمْ يفعلْ ذلكَ رياءً وخديعةً علَى ملأٍ مِن النَّاس.

ورابعُهم: مَن حُبِّبتْ إليهِ المساجد، فيَظلُّ متعلِّقاً بها، كلَّمَا خرجَ مِنْها يتمنَّى أنْ يعودَ إليها. ويُسْرعُ إليهَا إذا حانَ وقْتُ الصَّلاةِ مبكِّراً، ويُحافظُ علَى أوقاتِها جماعةً معَ المسْلمين. لا يرْضَى بالدُّون، وهمَّتُهُ عالية. فهوَ مِنْ عُمَّارِ المساجد: بينَ ذاكرٍ وقائمٍ وساجد. اللَّهمَّ اجْعلْنا وأولادَنَا مِنهم.

وخامسُهم: رَجلانِ تمكَّنْتْ بينَهما أواصرُ المحبَّةِ الصَّادقةِ، والصَّداقةِ المتينةِ الخالصةِ للهِ مِن شوائبِ النِّفاقِ وابْتغاءِ النَّفع، لا يؤثِّرُ فيهَا غِنًى ولا فقْر، ولَا تزيدُها الأيَّامُ إلَّا وُثوقاً وإحْكاماً.

وسادسهم: رَجُلٌ دعتْهُ إلَى منكرٍ امْرأةٌ اجْتمعتْ لديهَا كلُّ دواعي الفجورِ والعصْيان، مِن جمالٍ رائعٍ ومالٍ وفير، إلَى غيرِ ذلكَ ممَّا يُغري، ولكنَّ هذا الرَّجُلَ صدَّهَا عن غيِّها، وذكَّرهَا بقوَّةِ اللهِ وشدَّةِ بطْشِه، وأنَّهُ خائفٌ مِن الله، لَا يقْوَى علَى عصيانِه، ولا يُطيقُ عذابَ نيرانِه، وهذا إنَّمَا يَصْدرُ عن قوَّةِ إيمانٍ باللهِ تعالَى وحياء.

فممَّا يُسْتجلبُ بهِ ظِلُّ الرَّحْمن: العِفَّةُ عنِ المحارمِ والآثام، والخوفُ مِن ذي الجلالِ والإكرام. ومِن صفةِ جَنَّةِ المتَّقين: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا﴾ [الرعد: 35].

ولنَا في يوسفَ عليهِ السَّلامُ الأُسْوةُ الحسنة: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: 23].

وعلى الآباءِ والأُمَّهات: أنْ يُراقِبوا الأبْناءَ والْبنات، وألَّا يسْمحوا لهمْ بالنَّومِ تحْتَ لِحافٍ واحد؛ لقولِ النَّبيِّ النَّاصحِ ﷺ: ((مُروا أولادَكم بالصَّلاةِ وهمْ أبْناءُ سبْعِ سنينَ، واضْربوهُمْ عليهَا وهمْ أبْناءُ عشْرٍ، وفرِّقوا بينَهُمْ في المضاجعِ)). رواهُ أحْمدُ وأبو داودَ وصحَّحَهُ غيرُ واحد. لأنَّ في هذا السِّنِّ يبْدأُ ميْلُ الذَّكرِ إلى الأُنثَى، وميْلُ الأُنثَى إلى الذَّكر، معَ قُصورٍ في العقل، فيكونُ ذلكَ وسيلةً إلَى أنْ يَجُرَّهم الشَّيطانُ إلَى ما لا يَحِلّ.

 نسْألُ اللهَ أنْ يعفوَ عنَّا، وأنْ يرزقَنا وأولادَنا التَّقْوَى. اسْتغْفِروا ربَّكم، فهوَ أهْلُ التَّقْوَى وأهْلُ المغْفرة.  

 

 

الخطبة الثّانية

الحمْدُ للهِ حمْداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كمَا يُحبُّ ربُّنا ويرْضَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى خيرِ الورَى، وعلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أُولي التُّقَى، وسلَّمَ تسْليماً كثيراً.

وآخرُ هؤلاءِ السَّبْعة: رَجُلٌ يُنفقُ في سبيلِ الله، لا يبْتغي مِن النَّاسِ جزاءً ولا شُكوراً، فهوَ مِن المرآةِ بعيد، يكادُ لإخْفائهِ الصَّدقةَ ألَّا تعْلمَ شِمالُهُ ما تُنفقُ يمينُه!.

ولا شكَّ أنَّ الصَّدقةَ الخفيَّةَ عظيمةٌ عندَ اللهِ -تعالَى-، فهيَ تُطْفئُ غضبَ الرَّبِّ سبْحانَه، وربَّما تصدَّقَ علَى ضعيفٍ مكتسِبٍ في صورةِ الشِّراءِ؛ لِترويجِ سِلعتِه، يأتي إلَى مسْكينٍ ضعيفٍ عندَ أبوابِ المساجد، أوْ في مكانٍ آخرَ علَى رصيف، أوْ في دكّانٍ وضْعُهُ بائس، يبيعُ شيئًا بريالٍ فيشْتريهِ مِنْهُ بخمْسة، هيَ صَدقةٌ في صورةِ شِراء، هذهِ مِنْ أنْواعِ الصَّدقاتِ الخفيَّة، أوْ أنْ يدْعوَ النَّاسَ للشِّراءِ مِن سِلْعةِ هذا الفقير؛ لِيتوصَّلَ إلَى أنْ يربحَ ويكْسب.

فإذًا، الصَّدقاتُ الخفيَّةُ أنْواع، واللهُ-تعالَى- قدْ حثَّ على الإخْفاءِ فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271].

وفي الآيةِ لطيفةٌ ذكرَها العلَّامةُ السَّعديُّ رحمَهُ الله: وهيَ أنَّ إخْفاءَ الصَّدقةِ خيرٌ مِنْ إظْهارِهَا، إذا أُعْطيَتِ الفقيرَ –حِفْظاً لكرامتِه- فأمَّا إذا صُرفَتْ في مشْروعٍ خيريٍّ ونحْوِه، فتُراعى المصْلحة، فربَّما كانَ الإظْهارُ خيراً؛ لِحصولِ الأُسْوةِ والاقْتداء، وتنشيطِ النُّفوسِ علَى أعمالِ الخير. تفسير السَّعدي (1/215).  

فكلُّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ السَّبْعةِ في الذّروةِ مِن التَّقْوَى والصَّلاحِ، والمنزلةِ العُليا مِن منازلِ عِبادِ اللهِ المتَّقين، فلا غَرْوَ إنْ كلأهمُ اللهُ بحفْظِهِ وعنايتِه.

ومَن كانَ في كنَفِ اللهِ لمْ تُرهقْهُ النَّوائب، ولم تَرْقَ إليهِ الخُطوبُ والشَّدائِد. كحرارةِ الشَّمْسِ وغيرِهَا ممَّا يكونُ مِن الكُرباتِ يومَ الجزاءِ والحِساب.

فاللَّهمَّ عفْوَكَ ورحْمتَكَ وظِلَّكَ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّك..

ألَا وصَلُّوا وسَلِّموا علَى خيرِ الورَى، وسيِّدِ النَّاسِ أجْمعين..



([1]) رواه البخاري (660)،  ومسلم (2427).

المرفقات

1719225629_سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله.docx

المشاهدات 426 | التعليقات 0