سؤال الله الهداية وتحصيل الإمامة وإيثار الآخرة-ابن القيم

محمد بن عبدالله التميمي
1443/01/11 - 2021/08/19 13:38PM
سؤال الله الهداية وتحصيل الإمامة وإيثار الآخرة ملخصة من رسالة ابن القيم لأحد إخوانه أما بعد: فاتقوا الله عباد الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} فأخبر أنه ييسر على المتقي مالا ييسر على غيره {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} وهذا تيسير عليه بإزالة ما يخشاه، وإعطائه ما يحبه ويرضاه. عباد الله.. إِن العَبْد مُضْطَرٌّ كلَّ الِاضْطِرَار إِلَى أَن يكون عَارِفًا بِمَا يَنْفَعهُ فِي معاشه ومعاده، وَأَن يكون مُؤْثِرًا مُرِيْدًا لما يَنْفَعهُ، مجتنبا لما يضرّهُ، فبمجموع هذَيْن يكون قد هُدِي إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، فَإِن فَاتَهُ معرفَة ذَلِك سلك سَبِيل الضَّالّين، وَإِن فَاتَهُ قَصده واتباعه سلك سَبِيل المغضوب عَلَيْهِم، وَبِهَذَا يُعرَفُ قدرُ هَذَا الدُّعَاء الْعَظِيم وَشدَّةِ الْحَاجة إِلَيْهِ، وَتَوقُّفِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عَلَيْهِ [فقد] أمرنَا الله سُبْحَانَهُ أَن نقُول كل يَوْم وَلَيْلَة عدَّة مَرَّات {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} فالْعَبْد مفتقر إِلَى الْهِدَايَة فِي كل لَحْظَة وَنَفس فِي جَمِيع مَا يَأْتِيهِ ويذره. وَقد أثنى الله سُبْحَانَهُ على عباده الْمُؤمنِينَ الَّذين يسألونه أَن يجعلهم أَئِمَّة يهتدى بهم فَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَات عباده {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا} قَالَ ابْن عَبَّاس يهتدى بِنَا فِي الْخَيْر [ولا] يكون الرجل إِمَامًا لِلْمُتقين حَتَّى يأتم بالمتقين، وَقد أخبر سُبْحَانَهُ أَن هَذِه الْإِمَامَة إِنَّمَا تنَال بِالصبرِ وَالْيَقِين فَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} وَجمع سُبْحَانَهُ بَين الصَّبْر وَالْيَقِين إِذْ هما سَعَادَة العَبْد وفقدهما يفقده سعادته فَإِن الْقلب تطرقه طوارق الشَّهَوَات الْمُخَالفَة لأمر الله وطوارق الشُّبُهَات الْمُخَالفَة لخبره فبالصبر يدْفع الشَّهَوَات وباليقين يدْفع الشُّبُهَات فَإِن الشَّهْوَة والشبهة مضادتان للدّين من كل وَجه فَلَا ينجو من عَذَاب الله إِلَّا من دفع شهواته بِالصبرِ وشبهاته بِالْيَقِينِ وَلِهَذَا أخبر سُبْحَانَهُ عَن حبوط أَعمال أهل الشَّهَوَات والشبهات فَقَالَ تَعَالَى {كَالَّذِين من قبلكُمْ كَانُوا أَشد مِنْكُم قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَمَا استمتع الَّذين من قبلكُمْ بخلاقهم وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} فَهَذَا الِاسْتِمْتَاع بالخلاق هُوَ استمتاعهم بنصيبهم من الشَّهَوَات ثمَّ قَالَ {وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} وَهَذَا هُوَ الْخَوْض بِالْبَاطِلِ فِي دين الله وَهُوَ خوض أهل الشُّبُهَات ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هم الخاسرون}. عباد الله.. وكما أَنه سُبْحَانَهُ علق الْإِمَامَة فِي الدّين بِالصبرِ وَالْيَقِين فالآية متضمنة لأصلين آخَرين: أَحدهمَا الدعْوَة إِلَى الله وهداية خلقه. الثَّانِي: هدايتهم بِمَا أَمر بِهِ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بِمُقْتَضى عُقُولهمْ وآرائهم وأذواقهم وتقليد أسلافهم بِغَيْر برهَان من الله لِأَنَّهُ قَالَ {يهْدُونَ بأمرنا}. [فالله الله بالدعوة إلى الله] قَالَ تَعَالَى {وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ هَذَا حبيب الله هَذَا ولي الله أسلم لله وَعمل بِطَاعَتِهِ ودعا الْخلق إِلَيْهِ فَهَذَا النَّوْع أفضل أَنْوَاع الْإِنْسَان وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَة عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة، وهم ثنية الله سُبْحَانَهُ من الخاسرين قَالَ تَعَالَى {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} فأقسم سُبْحَانَهُ على خسران نوع الْإِنْسَان إِلَّا من كمل نَفسه بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وكمل غَيره بوصيته لَهُ بهما. [فَلا بد أن] يكونَ اللهُ وَرَسُولُه وَالدَّارُ الْآخِرَة وَالْجنَّةُ وَنَعِيمُهَا أحبَّ [إلى العبد] من هَذِه الشَّهَوَات، وَيعلمَ أَنه لَا يُمكنهُ الْجمع بَينهمَا فيؤثر أَعلَى المحبوبين على أدناهما، وَإِمَّا أَن يحصل لَهُ علم مَا يَتَرَتَّب على إِيثَار هَذِه الشَّهَوَات من المخاوف والآلام الَّتِي ألمها أَشد من ألم فَوَات هَذِه الشَّهَوَات وَأبقى، فَإِذا تمكَّن من قلبه هَذَانِ العِلْمان أنتجا لَهُ إِيثَار مَا يَنْبَغِي إيثاره وتقديمه على مَا سواهُ، فَإِن خاصية الْعقل إِيثَار أَعلَى المحبوبين على أدناهما، وَبِهَذَا الأَصْل تعرف عقول النَّاس وتميز بَين الْعَاقِل وَغَيره وَيظْهر تفاوتهم فِي الْعُقُول فَأَيْنَ عقل من آثر لَذَّة عاجلة مُنغَّصة مُنَكَّدَة إنما هي كأضغاث أَحْلَام، على لَذَّة هِيَ من أعظم اللَّذَّات، وفرحة ومسرة هِيَ من أعظم المسرات، دائمة لَا تَزُول وَلَا تفنى وَلَا تَنْقَطِع. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} نفعني الله وإياكم بهدي بكتابه المبين، وبسنة سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين. الخطبة الثانية أما بعد: فاللذة التَّامَّة والفرح وَالسُّرُور وَطيب الْعَيْش وَالنَّعِيم إِنَّمَا هُوَ فِي معرفَة الله وتوحيده والأنس بِهِ والشوق إِلَى لِقَائِه واجتماع الْقلب والهم عَلَيْهِ فَإِن أنكد الْعَيْش عَيْش من قلبه مشتت وهمه مفرق فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مُسْتَقر يسْتَقرّ عِنْده وَلَا حبيب يأوي إِلَيْهِ ويَسْكُن إِلَيْهِ، وَلَو تَنقَّل الْقلب فِي المحبوبات كلهَا لم يسكن وَلم يطمئن إِلَى شَيْء مِنْهَا وَلم تقر بِهِ عينه حَتَّى يطمئن إِلَى إلهه وربه ووليه الَّذِي لَيْسَ لَهُ من دونه ولي وَلَا شَفِيع وَلَا غنى لَهُ عَنهُ طرفَة عين. فاحرص أَن يكون همك وَاحِدًا وَأَن يكون هُوَ الله وَحده فَهَذَا غَايَة سَعَادَة العَبْد وَصَاحب هَذِه الْحَال فِي جنَّة مُعجلَة قبل جنَّة الْآخِرَة. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "حبب إِلَيّ من دنياكم النِّسَاء وَالطّيب وَجعلت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة" وقرة الْعين فَوق الْمحبَّة فَإِنَّهُ لَيْسَ كل مَحْبُوب تقر بِهِ الْعين وَإِنَّمَا تقر الْعين بِأَعْلَى المحبوبات، فَالصَّلَاة قُرَّة عُيُون المحبين فِي هَذِه الدُّنْيَا لما فِيهَا من مُنَاجَاة من لَا تقر الْعُيُون وَلَا تطمئِن الْقُلُوب وَلَا تسكن النُّفُوس إِلَّا إِلَيْهِ والتنعم بِذكرِهِ والتذلل والخضوع لَهُ والقرب مِنْهُ وَلَا سِيمَا فِي حَال السُّجُود وَتلك الْحَال أقرب مَا يكون العَبْد من ربه فِيهَا.
المرفقات

1629380287_سؤال الله الهداية وتحصيل الإمامة وإيثار الآخرة-لابن القيم.docx

1629380287_سؤال الله الهداية وتحصيل الإمامة وإيثار الآخرة-لابن القيم.pdf

المشاهدات 903 | التعليقات 0